خيّم الصمت وابتلع الظلام الشاشة في صالة السينما، نغماتٌ بطيئةٌ كئيبةٌ تُنسج في الفراغ كخيوط عنكبوت. صار التوتر مجسداً كأنه شخصية خفية في ما هو قادم. كلُّ شيءٍ معدٌّ بدقةٍ لخلق تجربةٍ سينمائيةٍ لا تُنسى، ومن المفترض أن الجميع الآن مستعدٌّ لعبور بوابةٍ إلى عالم المخرج روبرت إيجرز.
الفيلم هو Nosferatu، أحد أكثر الأفلام المنتظرة عالمياً، إعادةُ إحياءٍ لرعبٍ كلاسيكيٍّ مهيب، وتجربةٌ فنيةٌ تعتمد على الرعب النفسيّ العميق، لا الصدمات الرخيصة!
كنتُ جالساً في مقعدي بجوار حبيبتي، في انتظار اللحظة التي سيكشف فيها الفيلم عن ظله الأول، إذ وضع روبرت بصمته في أول مشهدٍ قوطيٍّ خاطف: تسبح البطلة في ظلال الأزرق والأسود، وتناشد السماء طلباً للنجاة من ظلامٍ ما يلاحقها، لكن بدلاً من العون الإلهي، اخترق صوتٌ وحشيٌّ روحها!
تناهت إلى أُذني أنفاسُ البطلة وهي ترتجف. هناك شيءٌ مجهولٌ يقترب منها، لم تره بعد، لكنها تستشعره في العتمة. اتسعت عيناها، وتقلَّصتا، وامتدت يدُها متشنّجةً في الظلال السوداء التي تتلوى حولها، منتظرةً الانقضاض عليها.
أنينٌ مبهمٌ متكرر يخرج من أنفاس البطلة، أصبح بارزاً بشدةٍ مع صمت الموسيقى التصويرية. ليس صراخاً، ولا بكاءً، ولا خوفاً. إنه مزيجٌ دقيقٌ بين الرهبة والرغبة، بين التردد والانجذاب.
تأوّهُ البطلة رقيقٌ لكنه يرمز في الوقت نفسه الى إغواءٍ مجهول .لكن بدلاً من أن يغوص جمهور القاعة في شعور البطلة: “هل هي تحت سيطرة الوحش (نوسفيراتو) مصاص الدماء، أم أنها تستجيب لرغباتها وغرائزها الدفينة؟”.
فجأةً… انفجرت القاعة كلها بالضحك!
ليس ضحكاً عادياً، بل قهقهاتٌ جماعيةٌ مدوّية، نابعةٌ من قلب الغرائز الخام! ضحك؟ على ماذا؟! هل فاتني شيء؟ هل هناك مشهدٌ ساخرٌ لم أنتبه له؟ لم يفتني شيء، لكن الجمهور لم يستطع تجاوز آهاتِ البطلة، التي بدت لهم وكأنها مقطعٌ إباحيٌّ، فكان ردُّ الفعل عفويّاً—أو بالأحرى، همجيّاً!

(مشهد أنين البطلة في مطلع فيلم Nosferatu)
لم ينتهِ الأمر عند حدود الضحك الجماعي على صوت/ أنين البطلة، الذي استمرَّ لأكثر من خمس دقائق متواصلة، لقد كنتُ في مسرحيةٍ عبثيةٍ دمّرت التجربة السينمائية المنتظرة!، أسأل في هذا النص: لماذا نضحك عندما نخاف؟ ولماذا نحطم الفن عندما يقترب ولو تلميحاً من المحرمات؟ وكيف يمكن أن تعرّي شاشة السينما السوداء أوهامنا الطبقية؟
الجنس والسخرية: أن يصبح الضحك مبرراً للانتهاك
ترتبط قاعة السينما في أذهاننا دائماً بذلك “المُفسِدِ الصاخب” – مشاهدٌ يجلس بلا اكتراث، مشغولٌ بتناول الفشار أكثر من اهتمامه بأحداث الفيلم، وكأنّ السينما بالنسبة له مجرد مساحةٍ مؤقتةٍ للاسترخاء، هروباً من صخب الحياة لا أكثر.
مشهدٌ أيقونيٌّ متكرّر، حتى إنّ الأفلام السينمائية نفسها لا تملّ من تجسيده. لكنه، في النهاية، حالةٌ فرديةٌ وتصرفٌ معزول يمكن تجاوزه، خصوصاً أنه يرتبط غالباً بالمسنّين أو بحفلات الأفلام التجارية المزدحمة نهاراً.
لذلك، هرباً من هذا العبث، دخلتُ قاعة السينما في حفلةِ منتصفِ الليل. اخترتُ سينما فاخرةً في أحد المولات الكبرى، ولحسن حظّي كان الجمهور كلّه من الشباب: طبقة فوق المتوسطة.
لا عائلاتٍ مزعجة، لا أطفال يركلون المقاعد، لا أصواتَ “قضم اللب” تتصاعد من الخلف، وفوق ذلك كله، لم يكن هذا النوع من الأفلام مغرياً لمن يبحث عن سينما تتحوّل إلى قاعة طعامٍ أو دردشة! شعرتُ بلذّة الانتصار على مفسدي الحفلات، كأنني أخيراً انتزعتُ تذكرةً لتجربةٍ سينمائيةٍ نقية، بلا تشويشٍ أو مقاطعة… أو هكذا اعتقدتُ!
عندما اهتزّت القاعة بضحكات الحضور على أنين البطلة في المشهد الافتتاحي، شعرتُ بانفصالٍ تام عن العالم الذي بذل المخرج جهداً هائلاً لغمر جمهوره فيه، كأنني انتُزعتُ فجأةً من سحر السينما وأُلقيتُ في قلب الواقع المصري، حيث يطاردك صخب الشارع وضجيج المقاهي وضغوط العمل، حتى وأنت تحاول الفرار إلى عتمة قاعة العرض عند منتصف الليل.
لا مبالغة في الأمر، ولا تعالٍ نخبويٌّ على الجمهور، ولا مطالبةٌ بتحويل قاعة السينما إلى صالة أوبرا أرستقراطية؛ فقد تحوّلت الأجواء فعلًا من تجربةٍ سينمائيةٍ إلى مهرجانٍ شعبيٍّ فوضويٍّ استمر حتى نهاية الفيلم.
قد يبدو الموقف عابراً، غير أنّ التقابل بين “الأنين الأنثوي” و”الضحكات المدوّية” كان محمّلاً بدلالةٍ تتجاوز حدود القاعة، لم يكن ضحكاً مرحاً، بل كان صاخباً، مشحوناً بالتهكّم والمكر، يحمل في طيّاته إرثاً ثقافياً دفيناً. هناك شفرةٌ غير منطوقة بين الجمهور، وكأن التأوّه الذي صدر عن البطلة كان في تصورهم متجاوزاً للحدود، كان صوتًا يكشف عن شيءٍ غير مسموحٍ به، ولا يجوز أن يصدر عن امرأةٍ حتى في فيلم رعب.
في أذهانهم، لم يكن أنين البطلة مجرد معنى درامي؛ بل صدى لمشهدٍ مألوفٍ ارتبط لديهم باللحظات المحرّمة. أدرك الجمهور أنهم أمام مشهدٍ يحمل دلالةً جنسيةً مبطّنة، فكان الحلّ الفوريّ: السخرية الجماعية.
لا يزال الجنس، أو أيُّ شيءٍ قريبٍ منه، محاطاً في المخيّلة العربية بجدرانٍ من الخجل والإحراج، محفِّزاً للقمع أو للضحك الدفاعيّ. وعلى النقيض من ذلك، تجيد السينما العالمية توظيف الرمزية الجنسية من دون أن تقع في التصريح الفجّ، ومن تلك المسافة الواسعة بدأ التوتر بين الجمهور والعرض…
هناك خجلٌ دفينٌ من الجسد في ثقافتنا، حتى لو كان رمزيّاً أو فنّيّاً. لذا، لم يكن هذا الضحك بريئاً بل كان آليةً دفاعيةً لمواجهة مشهدٍ لا تستوعبه الثقافة السائدة. وبدلاً من مواجهة رمزيّته والتفاعل معه بعمق، تم تبسيطه في قالبٍ ساخر، وتبديد غموضه بتحويله إلى نكتةٍ سوقية، والتعامل معه كإثارةٍ غير لائقةٍ، حتى يسهل ابتلاعه وهضمه!
ولعلّ هذا الحادث، الذي قد يبدو هيناً، يكشف الكثير عن طبيعة الثقافة المحلّية؛ فالضحك ليس دائماً علامةً على البهجة، وإنما قد يتحوّل إلى سلاحٍ نفسيٍّ يتصدّى للتوتر حين يستعصي على العقل استيعابه، السخرية الدفاعية ليست سوى اختصارٍ للقلق في قهقهةٍ عابرة، تماماً كالصفير الذي يُطلقه عابرٌ وحيدٌ في زقاقٍ مظلم، متظاهراً بشجاعةٍ لا يملكها.
وهنا يطفو سؤالٌ أعمق: لماذا كان الضحك تحديداً هو الاستجابة لذلك التوظيف الدرامي لصوت البطلة؟ ولماذا أصبحت السخرية الحلَّ الوحيد كلما واجه المصري ما يهدد منطقه المعتاد؟
الضحك طاقةٌ نفسيةٌ محايدةٌ في الأصل، أشبه بترياقٍ سحريٍّ يُخفّف وطأة الحياة. فنحن نضحك أحيانًا لتجاوز مواقف محرجة، لكننا قد نستعمله أيضًا لمسخ إنسانية الآخرين: ضحكٌ عند رؤية حادثٍ أليم، أو ضحكٌ بغرض التنمّر.
وعندما يتسع نطاق السخرية ليصبح مبرراً لكل سلوكٍ سلبي، يظهر مجتمعٌ يفرّ من مواجهة مشاعره الأصليّة مباشرةً، مستعيضاً عنها بضحكةٍ تُشوِّه الحقائق وتُخفِّف من ثِقل الأخطاء، بل قد تتحوّل الضحكة—وهي منبع السعادة—إلى إفسادٍ للمتعة ذاتها!
في تلك اللحظة، بدت القاعة وكأنها امتدادٌ حيٌّ للشارع والسوق والمقهى الشعبي، حيث يفاجئك انفجارٌ ضاحكٌ من مجموعةٍ شبابية لمجرّد انطلاق صوتٍ عابرٍ من فتاةٍ تسير في طريقها.
كانت قاعة السينما آنذاك صورةً لتناقضات المجتمع: فلو شاهد أحدهم الفيلم بمفرده في المنزل، هل كان سيطلق ضحكاته الصاخبة عند المشهد نفسه؟ على الأرجح لا. لكن حين يبدأ شخصان أو ثلاثة بالسخرية، تنتشر الضحكات كالعدوى، وينضمّ الآخرون إليهم، ليس بالضرورة لأنهم يرون المشهد مضحكاً، بل هرباً من “الارتباك النفسي” الذي تسبّب به.
هنا، يصبح الضحك إعلاناً للاندماج في “القطيع”، محاولةً لتجنّب أن يظل الفرد هو “الغريب الوحيد” وسط القاعة. وفي المجتمعات التي تعيش حالةً من الانفصال بين صورتها الرسمية وأفعالها السرية، تتحول الأمور المحرّمة إلى خطرٍ يستوجب السخرية في العلن، وكأنّ هذه السخرية هي التعويذة التي تبعد الشبهات.
الصوت الأنثوي الذي يوحي بالضعف أو المتعة أو الرغبة، يواجه في اللاوعي الجمعي رفضاً مستتراً، لأنه—ببساطة—لا يجوز أن يظهر الى العلن. والطريقة الأسهل لتجاوزه؟ الضحك.
ضحكٌ يعني ضمنيّاً: “نحن نعلم ماذا يعني هذا، لكننا لن نقولها بصوتٍ مرتفع، بل سنختزل كلَّ شيءٍ في ضحكةٍ جماعيةٍ مُريحة”، إنه اعترافٌ مُبطَّن، من دون أن يتحمّل أحدٌ مسؤولية ما تمّ الإفصاح عنه.
تفتح هذه الحالة أفقاً أوسع لفهم ظاهرة تفاعل المصريين مع الجسد والمرأة، سواء في عالم الفنّ والسوشيال ميديا، أو في المجتمع عموماً، فإذا كانت الصورة أو المشهد مباشِراً، يُرفض فوراً بوصفه “إباحيّاً”. أمّا إن جاء عميقاً وملتبِساً، فيُسخَر منه باعتباره “مضحكاً”.
بمعنى آخر، لا توجد منطقةٌ وسطى يمكن للخيال أن يتحرك فيها بحريةٍ من دون أن يُقابل إما بالرفض، أو بالسخرية. فنحن غالباً لا نعرف كيف نتعامل مع الجسد، خصوصاً عندما يظهر لنا فجأةً في سياقٍ غير مألوفٍ عن النمط الاجتماعي المقبول. وعند الخروج من الفن والعالم الافتراضي إلى الواقع، لا تنحصر المسألة في مجرد ضحكةٍ ساخرة، بل قد تتصاعد إلى جرائم الانتهاك المختلفة!
على رغم ذلك كله، تبرز المفارقة الحقيقية عند تأملي طبيعة الجمهور: لأنّ ما عرضته بالأوصاف السابقة، يشيع في مصر عادةً عند الحديث عن الطبقات الشعبية وأهل الريف—أو “الفلاحين” بالاصطلاح الدارج.
غير أنّ المفارقة الأشد غرابةً في تجربتي أنّ جمهور الحفلة، بكل ضجيجه واندفاعه، كان ينتمي الى الطبقة الأكثر ثراءً وانفتاحاً—الطبقة التي يُفترض أنها الأرقى والأكثر تحضّراً، والتي يصفها المصريون ساخرين بـ”طبقة إيجيبت” تمييزاً لها عن عموم المصريين.
لا أتحدث هنا عن ردِّ الفعل الساخر على آهات البطلة فحسب، فلم يتوقف الأمر عند حدود ذلك؛ بل تخطّاه إلى سلوكٍ صادمٍ لا يمت بصلةٍ الى الذوق العام!
الوهم الطبقي في مصر: تميز في المظهر وتلاقٍ في الانحطاط
ما إن تلاشت ضحكاتُ البداية حتى تكشّفت أمامي تصرّفاتٌ للحضور أكثر غرابةٍ وبُعداً عن أي مفهومٍ للتحضّر؛ فقد دخلوا جميعهم القاعة محمّلين بوجباتٍ دسمة، لا مجرد أكياس فشارٍ أو علب مقبلاتٍ صغيرة، بل أطباقٌ كاملةٌ صارت أصواتُ مضغها تتردّد في كل أرجاء القاعة بلا انقطاع. وفي الخلف، يُسمع هسيسُ المشروبات، وتتناثر رائحة الطعام في الهواء، وكأنك في مطعمٍ مزدحمٍ لا في دار عرض.
ولم يكتفِ بعضُهم بذلك؛ فمنهم مَن جلس—بعد انتهاء الوجبة—يتحدّث عبر هاتفه مرفوعِ الصوت، لا يعير وضْع الصامت أيَّ اهتمام. وها هو أحدُهم يخلع حذاءه، يرفع قدمه على المقعد الأمامي كأنما يعيش لحظة استرخاءٍ في غرفة منزله، لا في قاعة سينما يُفترض أن لها قواعدها. أمّا الضحكات الصاخبة والمحادثات الجانبية فاستمرّت بمعزلٍ حتى عن أجواء الفيلم، ما أفقدني التركيز، وحوّل التجربة برمّتها إلى احتقانٍ غاضب.
المذهل حقّاً أنّ ذلك الصخب لم يتوقّف لحظةً حتى نهاية الفيلم، وقد انشغلتُ حينها بسؤالٍ لم يكفّ عن الدوران في رأسي: إذا كانت هذه التصرفات تصدر عن أفراد الطبقة الأكثر رقيّاً في حدود قاعة عرض، تصرّفاتٌ تلغي كل الحدود المفترضة مع الطبقات الشعبية الأخرى… فما هو جوهرُ التميّز الطبقي في مصر إذاً؟
لا أقصد هنا مناقشة المسألة الطبقية من زاوية العدالة الاجتماعية، لكني أفتّش فقط عن جوهر الاختلاف بين مَن يُطلق عليهم “طبقة إيجيبت” وبين مَن يُسمَّون بالفلاحين أو عامة الشعب.
دعنا نوسّع أفقَ السؤال، من خلال مثالٍ تاريخي أكثر وضوحاً: الطبقة الأرستقراطية في الماضي الأوروبي.
كانت الطبقات الأرستقراطية في أوروبا تميل إلى الاعتقاد بأن أسلافها قد استحقّوا هذا التميّز الطبقي في المجتمع، بسبب ما أظهروه من بسالةٍ وفضيلة، أو ما قدّموه من خدماتٍ مميزة للملك والمجتمع.
ولم تتعقّد مشكلة الأرستقراطية الأوروبية إلا لسببٍ وحيد: اعتقادهم بأن تلك “الفضائل” وراثية، وتنتقل عبر الدم إلى نسلهم. لكن النقطة الفارقة هنا، والتي تحمل دلالةً كبيرة، هي اعترافهم—بوجهٍ عام—بأنهم لا يحتكرون تلك الأخلاقيات المميزة.
نتيجةً لذلك، كان بعضُهم مستعدّاً لتقبّل فكرة أن الأفراد من عامة الناس الذين يتضح تمتعهم بمثل هذه الصفات، يستحقّون الحصول على لقب “نبيل”. والأكثرُ أهميةً هنا: لم يعترف الأرستقراطيُّ الأوروبيُّ بأن الثروة من أي نوعٍ كانت أحدَ مؤهلات الانضمام إلى رتبته الأعلى اجتماعيّاً.
إذاً، كان التميّز الطبقي في النهاية مرتبطاً—بشكلٍ ما—بصفاتٍ أخلاقيةٍ نادرة، ولم تكن له علاقةٌ جوهريةٌ بالثروة، أي إنّ ثروة النبلاء مجرّد نتيجةٍ لصفات النبالة، وليست هي الأصل.
ولو تأملنا تلك الفكرة عن التميّز الطبقي في سياق حالتنا الاجتماعية التي نرصدها من خلال حادثةٍ عابرة، سنجد أنّ التميّز الطبقي في مصر يكاد يكون مقلوباً تماماً. إذ يكفي امتلاكُ ثروةٍ مادّيةٍ لكي يُحسَبَ الفردُ في خانة الطبقة الأعلى اجتماعيّاً، وليس هذا فحسب، بل يكفي امتلاك “مظهر الثراء” للدخول في تصنيفٍ اجتماعيٍّ مختلف!
وبلا شكّ تلعب الفروقُ الماديةُ دوراً كبيراً في اختلاف أنماط المعيشة بين المصريين، لكن عند نقطةٍ معيّنة، لن تجد فارقاً جوهريّاً على مستوى السلوك أو الثقافة. وعلى رغم حرص أبناء الطبقة الأغنى في مصر على تلقّي التعليم في مؤسساتٍ أوروبيةٍ أو أميركية، تظل المسألة محصورةً في امتلاك مظهرٍ مختلفٍ بغرض التمييز فحسب.
لن تجد أفكاراً مغايرة أو سلوكياتٍ أرقى، أو حتى التزاماً حقيقيّاً بقواعد “لإتيكيت والذوق العام؛ وكل ما ستجده هو هوسٌ بإبراز المظاهر، وقد قادني ذلك إلى استنتاجٍ بسيط قد يبدو مبالغاً به: الفروق الطبقية في مصر ليست سوى وهمٍ لا يخلق أيّ سخونةٍ تنافسيّةٍ بين فئات المجتمع؛ إذ لا وجود لتغييرٍ سلوكيٍّ أو ثقافيٍّ حقيقيٍّ بين مجموعة مراهقين على مقهى في طرف الحارة الشعبية، وبين تجمّعٍ شبابيٍّ بالسيارات ليلًا في كومباوندٍ مغلق.
السخونة الاجتماعية بين طبقات المجتمع شرطٌ أساسيٌّ لدوران عجلة التغيير؛ فمن خلال صراع الطبقات الأدنى في أوروبا ومحاولتها انتزاع حقّ الصعود الاجتماعي بإثبات امتلاكهم مهاراتٍ وفضائلَ احتكرها النبلاء بدعوى الوراثة، ظهرت الطبقة الوسطى الأوروبية التي خلقت ثقافة العالم الحديث.
في سياقنا المصري، فهذه الحالة تختلّ تماماً، إذ نحتفظ بتقسيمٍ طبقيٍّ شكليٍّ في عالمٍ تجاوز إلى حدٍّ بعيد التقسيم الطبقيّ التقليديّ، وفي الوقت نفسه لا تسعى الطبقة الوسطى المصرية في صعودها إلّا إلى امتلاك مزايا المظهر لدى الطبقات الأعلى، وهو ما يُشكّل عبئاً حياتياً على أفراد الطبقة المتوسطة، من دون أيّ تحسينٍ فعليٍّ في موقع الفرد الاجتماعي؛ أي أنّنا لا نشهد صعوداً للأفراد بقدر ما نرى مجرّد تبدّلٍ في الملابس!
ظلّت هذه المفارقة الرهيبة ماثلةً أمامي في القاعة؛ ففي أحد مشاهد الفيلم الشهيرة، استدرج الوحشُ نوسفيراتو ضحيّته إلى القلعة، ومع ذلك لم يستطع الخيالُ الأدبيّ والسينمائيّ تجاهل “الشرط الأساسي” لفكرة أنّ الوحش يتجسّدُ في هيئةِ “كونتٍ أوروبيٍّ” من سلالة النبلاء: حافظ الوحش الأرستقراطي في المشهد على قواعد الضيافة وآداب المائدة أثناء استقباله ضحيّته!
لم يعد نوسفيراتو مرعباً بعد الآن، بل بات مجرد خلفيةٍ لمسرحيةٍ عبثية.
وفي ظلّ هذا التقابل الصادم بين شاشة العرض التي تقدّم وحشاً ملتزماً باللباقة الاجتماعية، وبين فوضى الحضور، قاطعت حبيبتي حبل أفكاري متسائلةً: إذا لم نستطع الالتزام ببعض أعراف المشاهدة من أجل المتعة في قاعةٍ صغيرة، فكيف يمكننا تحمُّل المسؤولية اليومية في المجتمع؟
إقرأوا أيضاً: