إلى جانب الهزيمة التي مُنيت بها منظومة الممانعة في غزة وسوريا ولبنان، وبدرجة أقل في إيران واليمن، لاح مؤشر جديد لم يسبق أن شهدناه منذ قيام إسرائيل. اهتزاز كبير في صورة إسرائيل في الغرب. هذا ليس تفصيلاً عابراً. إسرائيل التي استثمرت في صورتها في الغرب، واشتغلت على صياغتها على نحو دفع بالرأي العام الغربي إلى اعتبارها جزيرة غربية في الشرق، تواجه اليوم رأياً عاماً عالمياً يرى فيها دولة إبادة.
ما كشفه الاستطلاع الذي أجرته محطة CNN أخيراً، اعتُبر تحولاً كبيراً جداً يحدث للمرة الأولى لدى الرأي العام الأميركي، لمصلحة الفلسطينيين. وقد تكون من نتائج هذا التحول الضغوط التي مارسها دونالد ترامب على بنيامين نتانياهو للقبول باتفاق إنهاء الحرب في غزة، والأكيد أن من نتائجه إقبال مزيد من الدول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لكن الأهم من هذه النتائج العملية هو تحوّل إسرائيل من “دولة الناجين” إلى دولة المرتكبين. قد ينطوي هذا الاستنتاج على تسرّع إذا ما قيس بالسنوات التي أمضتها إسرائيل في بناء صورتها في الغرب، لكن نتانياهو وقوى اليمين الديني أنفقا على نحو سريع ذلك الرصيد الذي راكمه الآباء المؤسسون، والذي نالوا بناء عليه دعماً غربياً هائلاً طوال سنوات بناء الدولة.
نتانياهو هو امتداد لخيار صهيوني ضعيف الصلة بالحساسيات الغربية، خصوصاً تلك التي وظّفها ديفيد بن غوريون لبناء سردية الضحية، وإسرائيل التي تشكلت في أعقاب نتائج الحرب العالمية الثانية، بوصفها تعويضاً عما أصاب اليهود من إبادة على أيد أوروبية، هي اليوم صاحبة إبادة موازية.
هذا التحول هو خارج الوعي الإسرائيلي الجديد. لا يحد من جموح بن غفير وسموتريتش لابتلاع مزيد من المساحات من الضفة الغربية. لم يسبق لإسرائيل أن كانت عديمة الاكتراث للمؤشر الغربي على نحو ما هي اليوم.
أوروبا من جنوبها (إسبانيا) إلى شمالها (النروج) ومن وسطها إلى غربها، طالما أننا لا نملك أرقاماً عن شرقها، تحولت إلى مجتمعات منحازة إلى الضحية الفلسطينية. والأهم أن إسرائيل الجديدة غير مكترثة لهذا التحول. الهامش الذي يتحرك فيه يمينها الديني يتّسع كل يوم غير آبه بما أصاب صورة إسرائيل.
علماً أن إسرائيل، بمعنى ما، هي صورتها أكثر مما هي حقيقتها. وهذه الحقيقة تثير رعب ما تبقى من نخب غير دينية في تل أبيب، إلا أنها لا تؤخر مشاريع اليمين الديني.
إقرأوا أيضاً:
لكن الاستعصاء الذي تعيشه الضحية الفلسطينية يكمن في غياب القوى التي يمكن أن تستثمر في تداعي صورة إسرائيل. اعتراف غالبية دول العالم بالدولة الفلسطينية حصل بدفع من مشهد الإبادة، والجهد السياسي السعودي والفرنسي الذي رافقه ما كان لينعقد لولا زخم الجريمة في غزة.
صحيح أن اتفاقات أبراهام اهتزت على وقع القتل اليومي في القطاع، إلا أن اهتزازها يبقى خارج مفاعيل تصدّع صورة إسرائيل. قصف الدوحة كان له أثر أكبر على علاقة أنظمة الخليج بإسرائيل، من مقتل نحو 70 ألف فلسطيني.
يحتاج التعامل مع حقيقة تداعي صورة إسرائيل في الغرب إلى غير ما توفره، سواء أنظمة الممانعة أو الأنظمة الابراهيمية، من صيغ للتعامل مع هذا المؤشر. فبين أن “نرمي إسرائيل في البحر” وبين أن ننخرط بسلام مجاني معها، ثمة طريق ثالث يتعامل مع الحق الفلسطيني بوصفه امتداداً لإرث الضحية التي لا تطمح الى غير ما يفترضه الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ميزان القوى اليوم لا يساعد على استثمار سريع للمشهد العالمي، ذاك أن نتانياهو في ذروة نشوته، ودونالد ترامب لا يطمح إلى الاستجابة لمؤشرات التحول في الرأي العام الغربي، وأكثر ما يطمح إليه هو جائزة نوبل التي لم ينلها. لكن الأمر لن يطول كثيراً، فالجريمة أوضح من أن تُدارى، وإسرائيل حقيقة وواقع، إلا أنها ليست خارج بديهيات إنسانية.
ثمة حقيقة تم توثيقها، وتتمثل في أن إسرائيل ارتكبت إبادة في غزة. بعد وقف الحرب تحتاج فلسطين إلى من يثبت هذه الحقيقة في ضمير عالمي مال مؤخراً إلى جانب الضحية.
هذه الحقيقة تحتاج إلى من يحوّلها إلى فعل سياسي، وهو أمر لن يوفره ما هو متاح اليوم من خيارات ممانعاتية أو ابراهيمية. ربما كانت العودة إلى الانتفاضة الأولى بوصفها خياراً مدنياً تمكّن من تحقيق انجاز لم يكتمل، خياراً مفيداً.
الهزيمة شكلت ذروة فشل الخيار العسكري، وقبل الهزيمة تجاوزت خيارات السلام الابراهيمي الحق الفلسطيني. الخياران كانا خارج الحسابات الوطنية الفلسطينية، واليوم لا أفق إلا بأن يستعيد الفلسطينيون قضيتهم. وهذا مسار صعب وطويل.













