نصدّق شهادات الناجين والناجيات
كنت أنام وهاتفي المحمول تحت الوسادة، مضبوطاً على وضع الاهتزاز، أخشى أن يوقظني اتصال منتصف الليل: طفل أو طفلة مفقودان، شابّة أو شابّ تعرضّ للتحرّش الجنسي، أو محاولة جديدة لإنهاء الحياة.
لم تكن تلك الأيّام مجرّد أيّام عمل، بل كانت يومياتي كمديرة لمؤسّسة تُعنى بالأطفال المنفصلين قسراً عن عائلاتهم ومجتمعاتهم. عندما قرّرت تحمّل هذه المسؤولية، لم يكن هدفي قيادة مؤسّسة وحسب، بل التعرّف عن كثب إلى واقع الرعاية المؤسّساتية، كمهنية في مجال حماية الأطفال، وكأمّ. كنت أدرك أن العنف يترك ندوباً غائرة في النفس.
حينها، اصطدمتُ بالحقيقة: الصورة الوردية التي تُقدَّم عن هذه المؤسّسات لا تشبه الواقع. ففي الداخل، يعيش الأطفال “متلازمة الامتنان”، حيث يُتوقع منهم تقديم الشكر على ما يُمنح لهم، حتى لو كان الطعام مغموساً بالإهانة، والرعاية مشوبة بالعنف والحرمان، ويُطلب منهم الامتنان للمؤسّسة، وللجهة المانحة من خلفها… أية جهة.
وغالباً ما تكون تلك التبرّعات مشروطة، تسودها المصالح الشخصية والسياسية، وتُوظّف في الوقت المناسب. لا تزال ذاكرتنا تحتفظ بمشاهد التزلّف للمتبرّعين على الشاشات، وتمجيدهم بما يخدم أجندات واضحة. ملايين الدولارات تُضَخّ في مؤسّسات أثبتت فشلها عالمياً، لكنّنا ما زلنا نُغلّب مصلحة المؤسّسة، ثم الطائفة، فالمموّل، على حساب مصلحة الأطفال.
حتى نحن، كأفراد، نقع أحياناً في فخّ متلازمة الامتنان، فنخشى تصديق الشهادات. كيف نصدّق شاباً يروي قصّة اغتصابه المتكرّر؟ كيف نمنح الثقة لفتاة تتحدّث عن السحل أو الركل؟ شهادات كثيرة وُثّقت، ولكنّنا نطلب دليلاً ملموساً، وإن وُجد، نغضّ الطرف.
كأننا نخاف من الاعتراف بالحقيقة، فنُعلي شأن المؤسّسة والطائفة والسياسي، بينما يظلّ الجرح نازفاً في قلب الناجي.
في الداخل، يعيش الأطفال “متلازمة الامتنان”، حيث يُتوقع منهم تقديم الشكر على ما يُمنح لهم، حتى لو كان الطعام مغموساً بالإهانة، والرعاية مشوبة بالعنف والحرمان، ويُطلب منهم الامتنان للمؤسّسة، وللجهة المانحة من خلفها… أية جهة.
ما حدث في لبنان ليس بعيداً عمّا شهدته كندا. هناك، في المؤسّسات الرعائية التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية للأطفال الأصليين، انتهى الأمر بخيانة تلك الرسالة. في عام 2022، قدّم البابا فرنسيس اعتذاراً رسمياً، وصف فيه ما جرى بأنه “خطأ كارثي لا يُغتفر”، واعترف بأن البُنى والسياسات المتّبعة ساهمت في إنتاج العنف.
ما كان لافتاً، أن البابا لم يطلب تقارير طبية أو أدلّة مادية؛ بل صدّق شهادات الناجين والناجيات، واحترم آلامهم، وأقرّ بأن كلمة الناجي كافية لتكون شهادة.
هذا الاعتذار المتأخّر أعاد التذكير بأن العدالة تبدأ من الإصغاء للألم، ومن الاعتراف الصريح بالخطايا الجماعية. وفق لجنة الحقيقة والمصالحة الكندية، قدّم أكثر من 6000 ناجٍ وناجية شهاداتهم عن العنف الجسدي والتحرّش والانفصال عن العائلات واللغات والهوّيات.
الضرر لم يكن لحظياً، بل أفرز أجيالاً تحمل آثار الصدمة، وولّد حلقة عنف جديدة، حيث بات كثير من الأطفال الخارجين من الرعاية عرضة للسجون أو الاستغلال، فقط لأن أحداً لم يمدّ لهم يد النجاة.
ورغم دعوات تقليص أعداد الأطفال في الرعاية المؤسّساتية في كندا، فضّلت الحكومات تعزيز هذه الأنظمة بدلاً من الاستثمار في دعم اجتماعي وتعليمي وثقافي آمن. ولبنان ليس استثناءً؛ فبدل تطوير بدائل تُمكّن الأسر، تمسّكنا بنموذج أثبت فشله، فقط لأنه يخدم مصالح قائمة على الزبائنية.
نسمع اليوم شهادات مؤلمة من شبّان وشابات خرجوا من المؤسّسات: عنف جسدي، تحرّش جنسي، وإهمال عاطفي، والحقيقة أن هذا النموذج لا يُنتج إلا الألم.
إن لم تكفنا شهادات 6000 ناجٍ في كندا لإدانة هذا النموذج، فلتكن القبور الجماعية التي اكتُشفت دليلاً إضافياً، لقد صدّق العالم صرخاتهم من دون أن يطلب إثباتات.
أما في لبنان، فلم يعد ممكناً تجاهل الحقيقة. حان وقت الإصغاء إلى الشابات والشبّان الذين خَبِروا نظام الرعاية، يجب احترام أصواتهم، وردّ شيء من العدالة إليهم.
من خلال تجربتي كمديرة لمؤسّسة رعاية بين العامين 2002 و2009، ثم عبر عملي في إصلاح أنظمة حماية الطفولة في دول عدّة، واليوم من موقعي في كندا، تعلّمت أن أثق بكلمات الناجين والناجيات، فالكشف عن قصّة اعتداء يحتاج إلى شجاعة استثنائية، ولا يحقّ لنا أن نطلب أدلّة إضافية.
مسؤوليتنا اليوم، في لبنان وفي كلّ مكان، أن نواجه الحقيقة، وأن نفي بالتزاماتنا تجاه من تركوا المؤسّسات مثقلين بالجراح، وأن نحمي من لا يزالون فيها، وكما آمن البابا فرنسيس بشهادات الضحايا من دون شروط، يجب أن نؤمن نحن أيضاً، لأن العدالة تبدأ من التصديق، وتنتهي بانتصار الضحايا.