منذ أول ظهور جزئي له في مقابلة مسجّلة بثتها قناة عربية كبرى أواخر عام 2013، وحتى آخر ظهور له عبر وسيلة إعلام إلكترونية مقرّبة من تنظيمه قبل أيام، ثمة تغيّرات مهمة طرأت على كلمات “أبو محمد الجولاني”، زعيم ما يعرف الآن بـ”هيئة تحرير الشام”، ورسائله. ما بين المقابلتين مضى أكثر من خمسة أعوام، شهدت خلالها الجماعة الجهادية التي يقودها، تحوّلات عدة من فرع تنظيم “دولة العراق الإسلامية” في سوريا، إلى فرع لتنظيم القاعدة عرف بـ “جبهة النصرة لأهل الشام”، ثم غيّرت اسمها إلى “جبهة فتح الشام” أواسط 2016 وقبل مضي عام على ذلك، استقرّت على اسم “هيئة تحرير الشام”.
تغيير الأسماء ترافق مع تغيّرات تدريجية في الخطاب السياسي للجماعة من التشدّد المفرط إلى إبداء بعض المرونة والاعتدال، أمر تعزّز بعد انتزاعها السيطرة مطلع هذا العام على كامل مناطق المعارضة تقريباً، فما الذي يمكن أن تكشفه مقارنة بين مقابلتَي الرجل المذكورتين حول التغيّرات في الجماعة؟
من الجهاد إلى الثورة
خلال مقابلته الأولى، رسم الجولاني صورة جماعته على أنها امتداد للحركة الجهادية العالمية التي “نهضت لتحكيم شرع الله في أرضه” وطبعت هذه الهوية شكل العلاقة بين الجماعة والمجتمع السوري الذي وصفه زعيم الجماعة بالقول “كان فيه من الخير الكثير، لكن كان ينقصه المحرّض والمرشد والداعي”. كانت ساحة عمل الجماعة في ذلك الوقت متّسعة، فتحدّث عن تضحيات عناصرها في العراق ولمّح إلى نيتهم التدخل في لبنان وشرح مطولاً الصراع بين الأمم الكبرى في هذا العالم ودور جماعته المفترض في الدفاع عن “أهل السنة”. لكن ساحة العمل في المقابلة الأخيرة كانت تقلّصت إلى حدود “المناطق المحررة” أي محافظة إدلب وما لحق بها من أرياف حلب وحماة، ولم يتحدّث الجولاني هنا عن أهداف عابرة للحدود بل قال إنهم جزء من الثورة السورية. وكان تركيز حديثه ينصب حول فكرة حماية المحرّر والدفاع عنه بدلاً من وعود الفتوحات والتحرير. كذلك لم يلفظ الجولاني كلمة الجهاد سوى مرّة واحدة في مقابلته الأخيرة، ولم يصف مقاتلي جماعته بالمجاهدين كما فعل سابقاً بل بالجنود هذه المرة.
قد تؤدّي محاولات دفع الهيئة نحو الاعتدال دوراً في كسر تماسكها وإحداث مزيد من التصدع بين تياراتها أو حتى إلى تفككها جزئياً
من الهيئات الشرعية إلى حكومة مدنية
تحدّث الجولاني عن الهيئات الشرعية التي أقامتها جماعته خلال السنوات الأولى للثورة بوصفها هيئات حكم إسلامية تنهض بوظائف الدولة كافة، من القضاء وصولاً إلى خدمات المياه والكهرباء والخبز وغيرها، كان ذلك في مقابلته الأولى حيث كرّر الحديث عن تحكيم الشريعة في مواضع عدة، بينما نجده في المقابلة الأخيرة يتحدث عن تسليم إدارة المناطق إلى إدارة مدنية من الكفاءات والمختصين “وهم كثر وفي مختلف الاختصاصات في المناطق المحرّرة”، يقول ويدافع بشدة عن فصل الإدارة المدنية عن الفصائل، واعداً الأهالي بأنهم “سيرون تطوّراً هائلاً في الأداء”. وحتى عبارة “تحكيم الشريعة” لم ينطقها الجولاني في مقابلته الأخيرة، سوى مرّة واحدة في وقت متأخر من المقابلة التي تحدث فيها مطولاً عن أهمية توحيد الجهود العسكرية والمدنية لتحسين مستوى الحياة في “المناطق المحرّرة”.
من رفض أي حل سياسي إلى تمرير الرسائل
اتفق كثر من المعلّقين على أن الجولاني وجه دعوة سياسية صريحة حين قال إنهم “يعتقدون بضرورة إزالة حزب العمال الكردستاني” من مناطق شرق الفرات، والرسالة مفادها أن بإمكان تركيا الاعتماد على الهيئة عوضاً عن الفصائل التي كانت تدعمها، هذا الموقف الراغب في تحقيق القبول والانخراط في اللعبة السياسية، يختلف كثيراً عن موقف الجماعة عام 2013 حين قال زعيمها في مقابلته الأولى إن الحلول السياسية تهدف إلى إعادة تأهيل النظام ورفضها بالجملة، كان الحدث حينها هو مؤتمر (جنيف2) وبقي ذلك التعنّت سمة الموقف الرسمي للجماعة طيلة السنوات الماضية مع تتالي مؤتمرات جنيف ثم استانا وسوتشي، بل إن كثيراً من تلك المؤتمرات شكّلت ذرائع للجماعة لتستأصل مزيداً من الفصائل السورية المعارضة. الآن وبعدما نجحت في التخلص من كل الفصائل المناوئة لها تقريباً في إدلب وغسلت خطابها السياسي، هل تنجح الجماعة في تحقيق الحد الأدنى من القبول الدولي الذي ينجيها من مصير تنظيم “داعش” كما فعلت حركة طالبان مثلاً؟
من حيث المبدأ لا يبدو ذلك مستحيلاً في عالم يستعد لإعادة قبول بشار الأسد ونظامه المسؤول الأوّل عن كل ما يحدث في سوريا، بل قد يكون الأمر أكثر سهولة في حالة الجولاني وهيئته. والأمر هنا لن يكون حيلة الجولاني التي تنطلي على المجتمع الدولي، بل هي رغبة الأخير في إسكات الصراخ السوري بأي شكل ممكن. لكن تلك ليست مشكلة الجولاني الكبرى، فنحن نتحدّث عن جماعة تضم بقايا تنظيم جند الأقصى ومجموعات كبيرة من الجهاديين الأكثر تطرّفاً في سوريا، ولطالما كانت تمثل التماسك الذي يولده التشدد العقائدي، وهو نقطة القوة الأهم لديها، وقد تؤدي محاولات دفع الهيئة نحو الاعتدال دوراً في كسر ذلك التماسك وإحداث مزيد من التصدع بين تياراتها أو حتى إلى تفككها جزئياً على الأقل.
إقرأ أيضاً:
“مباحثات أضاعت الحل”: حصيلة 4 سنوات من وساطة ديمستورا
“حلوان السجان”قصّة نجاة معتقل سوري