أن تعيش حياة الكتابة، لهو أمر رائع، أو أنك تظنه هكذا. عند صعودك السلم والدرجات الأولى منه، ستكون متحمسا لأنك تفعل شيئاً تحبّه ببساطة، حتى تقابلك الحجرة الاولى التي سيتضح في ما بعد أنها كومة من الحجارة التي تمنعك من الوصول، بدءاً من السخرية منك ومما تفعل لأنك دخلت عالماً ليس لك. وان كنت صغير السن ستكون الكارثة أكبر:
هل تجرؤ على مقارنة نفسك بكبار عالم الأدب؟
قد يجرؤ أحدهم. لكن هل تجرئين؟ هذه مسألة أعقد. أديبة؟ مع تاء التأنيث؟ بالنسبة إلى كثر من “متذوقي” الأدب في بلادنا الممعنة في ذكوريتها، المرأة غير قادرة على كتابة جملة مفيدة واحدة. وكأن معظم الكتب التي كتبتها نساء، حتى تلك الحائزة “نوبل”، لا تقدم شيئاً بنظر هؤلاء، سوى قطع المزيد من الأشجار واستهلاك الورق.
“عودي إلى المطبخ”.
لا أمزح، كانت هذه خلاصة ما قاله لي كاتب عراقي، أرسلت له، وأنا في فورة حماستي، عدداً من القصائد التي كتبتها، وكنت في التاسعة عشرة.
“أرجو ان تتركي هذه الفكرة تماماً، مساعدة أمك في المنزل أفضل بكثير مما قرأته”. أجابني هكذا، أو بمعنى آخر: “عودي إلى المطبخ”.
بكيت يومها كثيراً. لم أجبه ولم أتخيل ان يدي قد تعيد الكرّة وترسل نصوصي لآخرين. احتفظت بها لنفسي، ثم صرت أنشرها على الحيز التجريبي المتاح لنا جميعاً: مواقع التواصل الاجتماعي. هناك صرت أختبر الصح والخطأ. والتشجيع بـ”لايكات” وتعليقات.
إلى أن طلب مني، في أحد الأيام، محرر القسم الثقافي في صحيفة محلية، أن أرسل له بعض النصوص لنشرها في الجريدة. طرت من الفرح. لكن سرعان ما شعرت بأنني تعثّرت بحجرة أخرى: لم تكن بريئة رسائله وأحاديثه المتضمنة تلميحات غير مريحة. طلبت إليه ألا ينشر النصوص. تخليت عن فرحتي كلها، وعن حلمي بأن أرى اسمي منشوراً في جريدة.
يومها جريت سريعاً، نحو أمي، وأخبرتها بأن هذا العالم ليس مثالياً كما اعتقدت وأنا أقرأ الكتب والاقتباسات الأخلاقية، هل كان هذا كله مجرد كلام؟ حددت لي بهدوء غير معهود منها، طريقين لا ثالث لهما: إما التقدم أو الانسحاب. تقدّمت مشياً على الأصابع، أصابع يديّ التي أستخدمها للكتابة. وبدأت بكتابة “غابة الأصابع”، وكان عنوان كتابي الشعري الأول.
صدر الكتاب ووصلتني نسخة منه، ومنحته يومها مساحة كبيرة من الوسادة لينام بقربي. رحت أقرأ بشكل يومي قصائدي بصوت عال، كما لو أنني أهبها صوتاً وأطلقه في الفضاء. لطالما كانت الكتابة بالنسبة إلي، حقنة مهدئة من عالم يعتاش على الفوضى، ولم تدم هذه السعادة مطلقاً. بين ليلة وأخرى كانت جيوش من الشتّامين على صفحتي. كانوا فعلاً جيوشاً شرسة. كنت أسير مع أبطال قصائدي، فلم افهم حقاً وقتها، سبب كل تلك التعليقات الجارحة والشتائم والطعن الهائل بالشرف، لقد تداولوا في صفحاتهم وهم أشخاص لا أعرفهم، صوري ومقاطع من قصائدي، لكن جميع التعليقات كانت تحوم حول وجهي وملامحي التي لا تبدو ملامح كاتبة كما يقولون. كالوا شتائم بالجملة بحقي وحق والدي، جعلتني اعاني الاكتئاب والتساؤلات لأشهر طويلة.
المعضلة ان من يشن الهجمات كان يتهمني بالاساءة للأدب من خلال منشور يحمل كمية هائلة من الشتائم. والمحزن في هذا، أن معظم من نغّص أحلامي، بأنياب الشتائم والتجريح، كانوا من الادباء العراقيين، ولم اتلقّ دعماً أو مساندة من الصامتين الواقفين على الحياد في معركة كانت تبدو أخلاقية أكثر من كونها ثقافية.
استمرت الحملات وأصبحت فكرة رؤية المنشورات التي تحمل اسمي وصوري ومقاطع من قصائدي، أمراً مسلماً به، لأن الموضوع لم ينته في شهر أو اثنين، بل امتد لسنوات، حتى صدور كتابي الثاني والثالث. وفي كل مرة، ومع كل كتاب، تزداد الهجمات، ثم تخفت تدريجاً، لتنتقل الجوقة إلى مهاجمة كاتبة شابة أخرى. فلم أكن بالطبع الوحيدة التي تتعرض لهذا الضغط، الكثير من الكاتبات الشابات، واجهن الجيوش ذاتها، والعبارات نفسها، والاتهامات كما هي، بعضهن فضل الرد، وبعضهن انسحب، حتى إنني أتذكر ان شاعرة موهوبة، اختفت لسنوات، بسبب ما عانته من رمي سهام الأذى على أحلامها. لم أعش هذا الشعور لوحدي كان إحساساً مشتركاً تعيشه كل امرأة تتجرأ على دخول عالم الثقافة والكتابة والأدب والشعر.
ولم يتوقف الأمر عند العالم الافتراضي. رفضت مقالاتي في إحدى الصحف لأن “رئيس التحرير لا يستلطفك ويرى فيكِ شخصاً معقداً منزوياً”، قال لي أحد المحررين بصدق يقارب الفجاجة. لا يستلطفني أنا، رئيس التحرير، ولا علاقة للأمر بنصوصي. أنا شخصياً، لا مقالاتي وكتاباتي. وهذا أبشع ما قد تواجهه في بحر الأدب المستوحش هذا. تيقنتُ أنني سمكة صغيرة وسط حيتان، ولا يمكنني النجاة، بحسب قاموسهم، إلا عبر الاحتماء بأحد الحيتان والتملق له، أو عليّ أن أصارع وحيدة الموج والتنمّر والكراهية والذكورية.
والذكورية التي نتحدث عنها هنا، ليست حكراً على الرجال. بين جيوش المتنمرين، نساء متنمرات، وبينهن كاتبات قررن أن يكنّ جزءاً من منظومة الحيتان الذكورية، حتى إن هناك كاتبات يرفضن أن نُحسب عليهن، نحن الكاتبات الشابات، اللاتي يسرن بخطوات حذرة، متلمسات طريق الأدب الموحش والمظلم.
عام 2019، ترجم احد كتبي إلى اللغة الفرنسية، واستطعت من خلال النسخة المترجمة أن أقدم عروضاً ومحاضرات في الجامعات الفرنسية. شعرت بامتنان كبير للكتابة التي وهبتني فرصة الحديث عن بلادي وحروبها وأدبها وضحاياها في بلاد أخرى بعيدة، وبلغة أخرى، قادرة على تجاوز الحدود. لكن سرعان ما عدت من فرنسا لأجد أرشيفاً من المنشورات المتضمنة أنواعاً جديدة من الشتائم المقرونة باتهامات بالعمالة، وبأنني دفعت أموالاً لكي يترجم كتابي ويروج له في فرنسا!
بدا لي أن هذا المصير حتمي. مهما فعلت انا أو غيري من النساء، سيقابل بهذه الطريقة. قد لا أكون موهوبة في الكتابة، لكنني على الأقل أقوم بشيء مسالم أحبه وهو يمنحني الكثير من السلام الداخلي الذي أحتاجه في بلادي التي تعج بالحروب والذكورية والسلاح والمسلحين. لكنني، لم أعد اشعر بخوف منهم، ليكتبوا ما يريدون. وأنا سأكتب حتماً ما أريد: هذه التجربة، مثلاً؟
إقرأوا أيضاً: