“حالة من الخوف تملّكت قلبي، وشعرت بأن شيئاً قد أصاب أسرتي بسبب شدة الانفجار وقوته، فهرعت إلى المكان لأُصدم بهول ما رأيته، فمنزلي دُمّر بالكامل”، يروي محمود أبو حصيرة، وهو مصور صحافي سقط صاروخ على منزله في غزة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، فقتل زوجته وطفليه زياد ورغد و32 فرداً من أسرته.
يشرح أبو حصيرة أن ما يزيد من حزنه وألمه أن جثث زوجته وأطفاله وعائلته لا تزال حتى اللحظة تحت أنقاض منزله المدمر، فأثناء الحرب لم تستطع فرق الدفاع المدني الوصول إليهم بسبب استهداف الجيش الإسرائيلي آلياتهم، كذلك لم تتمكن فرق الإغاثة من انتشالهم بعد بسبب كثافة الركام وصعوبة إزالته، ولعدم دخول معدّات تساعد على رفع الأنقاض إلى قطاع غزة حتى الآن.
تركت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة خسائر مادية ضخمة، بخاصة في المباني السكنية والمؤسسات والمدارس والمستشفيات، فدمرت 70 في المئة من المنازل بشكل كلي، ونتج من ذلك دمار يقدّر بمجمله بـ 50 ألف طن من الركام بحسب التقديرات الأممية. كما سقطت منازل كثيرة على رؤوس سكانها، وبسبب كثافة الدمار وعدم وجود المعدّات والآليات المخصصة لرفع الركام، لا يزال هناك أكثر من 10 آلاف جثة تحت الأنقاض، بحسب وزارة الصحة في قطاع غزة.
فقدت فاطمة زعرب أكثر من 150 شخصاً من أفراد عائلتها، 5 منهم اختفوا وانقطع الاتصال بهم منذ شهر أيار/ مايو 2024، وحتى الساعة غير معروف هل هم تحت الأنقاض أم في مكان مجهول؟!
تقول زعرب: “أبناء إخوتي لا يزالون حتى الآن تحت الأنقاض. فقدنا الاتصال بهم بعد دخول الدبابات إلى شوارع رفح الغربية نزولاً إلى تل زعرب، من دون سابق إنذار، وعلى رغم أن الجيش الإسرائيلي سمح لهم بالخروج، فقد باغتهم القصف وحوصروا حيث هم ولم يتمكنوا من الفرار ولا حتى النجاة، إذ استهدف القصف المنزل، فسقط فوق رؤوسهم، وهم الآن جثث تحت الركام”.
البحث في كومة “ركام”
استُحدثت لجنة خاصة للبحث عن الجثث وفرزها، وضعت آلية كاملة وشاملة ومفصلة، وضمت الجهات المعنية (أهالي المفقودين) والجهات المتخصصة، وهي: الهلال الأحمر، وحدة الإسعاف والطوارئ التابعة لوزارة الصحة، الدفاع المدني، الخدمات الطبية، المباحث، الأوقاف، الطب الشرعي، الصحة، قيرطان، النيابة ووزارة العدل.
وحسب الآليات التي حدّدتها هذه اللجنة المشتركة، تتم عملية متسلسلة بالتعامل مع الجثة منذ انتشالها حتى دفنها، وتقسم هذه العملية إلى شقين، شق يهتم بالجثث التي يمكن التعرف عليها، والشق الآخر يُعنى بالجثث المجهولة الهوية والمتحلّلة.
الناطق باسم الدفاع المدني في قطاع غزة محمود بصل يقول لـ”درج” إن “عمليات انتشال بعض الجثث الموجودة في الطرقات والشوارع ما زالت قائمة، والجهود كبيرة جداً في كل المناطق، إلا أن الواقع في شمال القطاع يختلف كلياً عن باقي المناطق، فهو عبارة عن كومة من الركام بعد العملية البرية التي دامت أكثر من 100 يوم، هناك تتكدس جثث الناس في الطرقات، وتختلط الأشلاء ببعضها بعضاً، لذلك فإن عملية الانتشال في الشمال هي صعبة للغاية.
ولفت إلى أن “عدد الجثث التي انتُشلت حتى الآن قليل، ومن مناطق متفرقة، وذلك نتيجة الصعوبات التي تواجهها طواقم الدفاع المدني، وعدم وصول معدّات لتسهيل العمل. هناك بعض المناطق التي تعتبر آمنة لعمل الطواقم مثل رفح، بدأت فيها عمليات الانتشال، بالإضافة إلى أن بعض الجثث انتُشلت بجهد من المواطنين”.
من جانبه، أوضح الناطق الرسمي باسم الهلال الأحمر الفلسطيني لـ”درج” أن “الهلال الأحمر الفلسطيني، هو جهاز مساند للدفاع المدني في عملية الانتشال، والجهد المباشر له يكون للتعامل مع الجثث الموجودة على الطرقات، وليس تلك التي تحت الأنقاض”.
وقال إن “الجثث تُنقل عبر آليات معينة وفرق متخصصة، هناك بروتوكول خاص للتعامل مع الجثث المتحللة، لحماية الكوادر ومركبات الإسعاف، حتى لا يتم نقل أي جراثيم في حال استُخدمت لنقل مرضى آخرين. فهناك سيارات مخصصة صُمِّمت داخلياً، ورُفدت بفرق متخصصة للتعامل مع هذا النوع من الاستجابة، وتسلَّم الجثث للمراكز الصحية المعتمدة، ومن ثم تتم متابعتها القانونية والتوثيقية والشرعية من خلال الجهات الرسمية من وزارة الصحة مع جهات دولية.
تابع مصبح، “الكثير من الجثث لم يتم التعامل معها حتى الآن، خصوصاً في الشمال مثل بيت لاهيا وجباليا، والجثث التي وصلت إلى المستشفيات نقلها الأهالي، وليس الكوادر المتخصصة، لأن الاحتلال استهدف ما لا يقل عن 29 سيارة تابعة للهلال ودمّرها كلياً”.
ونوّه إلى الصعوبات القائمة حالياً في القطاع بما فيها قلة الإمكانات والمعدّات، وغياب كلّي للفرق الهندسية، التي تساهم في خطة رفع هذه الأنقاض، لأن أي تعامل عشوائي مع الأنقاض، قد يؤدي إلى إخفاء معالم بعض الجثث أو حتى فقدانها، وبالشكل القانوني وحسب البروتوكول “كلما كانت الجثة بوضعها الكامل، يسهل التعرف على صاحبها أكثر، من خلال دلائل وعلامات ومؤشرات يعرفها ذووه”.
يقضي القانون الدولي الإنساني بوجوب التعامل مع رفات من ماتوا أثناء النزاعات المسلّحة، بطريقة ملائمة وصون كرامتهم. ويقضي أيضاً بوجوب البحث عن القتلى وجمع جثثهم وإجلائها، للمساعدة في ضمان عدم وجود أشخاص في عداد المفقودین.
وتضم فروع أخرى من القانون الدولي، كالقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي لمواجهة الكوارث، أحكاماً ترمي إلى ضمان التعامل الملائم مع الموتى وصون كراماتهم، وتحتوي كذلك على أحكام توجب الكشف عن مصير المفقودين واستجلاء أماكن وجودهم، سواء كانوا مفقودين لأسباب تتصل بنزاع مسلح أو لأسباب أخرى.
إقرأوا أيضاً:
ملفات تحت بند المجهول
كشف مصبح عن وجود إشكالية مهمة، وهي أنه لا توجد في قطاع غزة خدمة تحليل الـ DNA، وبالتالي ستُغلق بعض الملفات تحت اسم مجهول، لعدم تطابق الجثث مع الأسماء الموجودة بشكل أساسي، ولهذا طبعاً، تبعات نفسية واجتماعية ومجتمعية على المجتمع.
يشرح استشاري الطب الشرعي في مجمع ناصر الطبي الدكتور أحمد ضهير لـ”درج”، آلية التعامل مع الجثث بعد وصولها إلى القسم، ومن ثم توثيقها وفق طريقة معينة: “في البداية من خلال معرفة مكان انتشال الجثة، وكل المتعلقات الشخصية، أو أي مؤشرات قد تدلل على هوية المتوفى كالعمر والجنس، ثم التعرف عليه من الأهل لدفنه”. ويتابع، “أما في حال لم يتم التعرف على الجثة لعدم وجود أي شيء يدلل على هويتها، فيتم تصويرها وإدخال كل هذه البيانات وتوثيقها بأرقام وأحرف مميزة، والاحتفاظ بها لمدة محددة، وفي حال لم يتم التعرف عليها خلال هذه المدة، تُدفن بقرار من النيابة صادر من وزارة الأوقاف في مقابر محدّدة للرجوع إليها مستقبلاً”.
يؤكد مصبح “عدم توافر إمكانية إجراء التحاليل لمعرفة هوية الجثة، إنما يتم الاعتماد على العوامل الظرفية الزمانية والمكانية، ومن ثم الدفن، وفي حال المراجعة اللاحقة من الأهل، تتوافر الصور لعمل مقارنات وتحديد ما إذا كانت الجثة تتوافق مع هوية المفقود ومواصفاته”، لافتاً إلى أن عمل الطب الشرعي في هذه المرحلة “هو تنظيم العملية ككل، بطريقة تضمن الرجوع إلى الجثث مستقبلاً من دون أخطاء، في ظل قلة الإمكانات المتاحة في القطاع”.
أبو حصيرة وزعرب هما مثال بسيط عن معاناة أهالي قطاع غزة، الذين أُجبروا على التكيف مع الواقع الصعب، ليترددوا بين الحين والآخر على ركام منازلهم المدمرة، علّهم يشفون شوقهم إلى من فقدوهم، ويستطيعون إخراجهم من تحت الركام ودفنهم بطريقة تليق بكرامتهم الإنسانية.
إقرأوا أيضاً: