في عام 1982، هزمت إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية، وهي حركة تأسست في عام 1964 كرمز للمقاومة الفلسطينية، وفي العام التالي تأسس حزب الله. وبعد اغتيال إسرائيل مؤسّسيه، تولى قيادته زعماء أكثر تطرفاً. إلى جانب ذلك، وثقت التقارير القادمة من غزة مشاهد مروعة للمجازر وقع ضحيتها سكان فلسطينيون وصحافيون، مع تسجيل عدد قياسي من القتلى العاملين في مجال الإعلام: 180 بين عامي 2023 و2024. مع جراح لم تلتئم تماماً، وعدو تاريخي عند الأبواب، وإعلانات عبر منصة X عن القصف المستقبلي من قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF)، يواجه الصحافيون اللبنانيون الحرب بشجاعة.
أرقام تبعث على الراحة — عليا
“فكرة أنني أصبحت ماهرة جداً في التمييز بين صوت الانفجار وصوت الطائرة المقاتلة مزعجة، ومع ذلك تمنحني نوعاً غريباً من الراحة”. تروي عليا إبراهيم، مؤسسة ومديرة موقع “درج” الإعلامي، في مقال شاركته على موقعها الإلكتروني، جزءاً من سيناريو قلب حياتها فجأة رأساً على عقب. تسلط شهادتها الضوء على الحيرة الأولية التي سرعان ما استُبدلت بحس نقدي أكثر، وبكبت عاطفي. “أبقى مع الأرقام فقط، حفاظاً على سلامتي العقلية”، إذ تجد عليا في الإحصاءات ملاذاً مؤقتاً لعقلها. لكن فكرة الموت تظل حاضرة دائماً، محسوسة في كل مكان: الشوارع فارغة، النوادي والمقابر تتحول إلى مراكز لاستقبال اللاجئين، قوات الدفاع الإسرائيلية تنشر عبر X رسائل دعائية وتحذيرات حول القصف المستقبلي، الرحلات الجوّية من بيروت وإليها مقيّدة بشدّة، والانفجارات أصبحت القاعدة الجديدة.
في هذا السياق، تأتي فكرة الموت ليس فقط من أعداد الضحايا الذين تقتلهم الصواريخ الإسرائيلية، ولكن أيضاً من السرعة أو النكران في إقامة الجنازات وتدمير القبور. التحيات، التكريمات، الحرمان والذكريات تثقل كاهل أذهان الأقارب والأصدقاء، الممزّقين باستمرار بسبب شبح الحرب. لكن مقال عليا لا يركز فقط على الموت والدمار في مدينتها، بل يهدف إلى تسليط الضوء على خلود الأمل، المرجع الوحيد لأي شخص يستطيع الحفاظ على أعصابه ثابتة. على مدى سنوات، تسبب الوجود المتزايد للشعب اللبناني في عناوين الأخبار وغياب أي مساعدة حقيقية من الخارج في خلق علاقة تعاطف متبادلة بين الناس، بالإضافة إلى إنشاء مراكز كثيرة لدعم النازحين ومجموعات الدعم على المنصات الرقمية المختلفة.
رغم أهوال الحرب الأمل باقٍ
على الرغم من الرعب الذي يجتاح لبنان، تشعر عليا بالامتنان لوجود موقع “درج”، الذي، على الرغم من كل شيء، يثبت قدرته على تحديد أولوياته التحريرية بشكل مستقل، مع وضع المصلحة العامة دائماً في المقدمة. ورغم كونه منصة صغيرة لا تمتلك القدرة على التأثير في الرأي العام حول أحداث كبرى مثل الحرب بين إسرائيل ولبنان، إلا أنه ينجز أمراً بالغ الأهمية: إعطاء صوت لأولئك الذين غالباً ما يتم تجاهلهم.
في ظل موقف واضح من الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، اختارت مؤسسة “درج” الحفاظ على نزاهة صحافية، ممتدة في نقدها لتشمل حزب الله، وحماس، وإيران. ومع ذلك، فإن نقدها إسرائيل يحمل القوة نفسها، نظراً الى الدور الكبير الذي تلعبه الدولة في هذا الصراع. تقول عليا: “ما تدمره إسرائيل يتجاوز بكثير حزب الله وبنيته التحتية العسكرية. نية العقاب الجماعي واضحة، ولا يوجد أي دليل يمكن أن يبرر هذا المستوى من العشوائية”.
صحافة تمثّل صوت الضحايا
يتخطى دور “درج” كونه منصة إخبارية صغيرة؛ فهو يجسد التزاماً بالمبادئ الصحافية التي تهدف إلى الكشف عن الحقائق وتقديم صوت للضحايا والمهمشين. وعلى رغم محدودية الإمكانات، فإن قوة الأمل والرؤية المستقلة تمكّنه من مواجهة أصعب التحديات.
ماذا يدور في ذهن الصحافي في بيروت؟ —رشا
يتعامل كل صحافي مع حالة الطوارئ بطريقة مختلفة. من وجهة نظر نفسية، تستعرض رشا كاتبة في موقع “درج”، نماذج من ردود فعل الصحافيين الذين تعرفهم شخصياً:
الصحافية الأولى تعيش في منطقة تُعتبر الأكثر عرضة للهجمات في المدينة، المنطقة المعروفة بـ”المنطقة الحمراء”، وهو تصنيف سطحي بالنظر إلى أن بيروت مدينة صغيرة نسبياً، حيث تصل أصوات الانفجارات إلى أماكن تبعد 15 دقيقة فقط عن موقع القصف. تقول رشا : “بدت متوترة، شاردة، أبطأ في حركتها، وأكثر تعباً، وتواجه صعوبة في التركيز على عملها”.
أما الصحافي الآخر، الذي يعيش في ما يُعرف بـ”المنطقة البرتقالية”، والتي تقل فيها احتمالية التعرض لهجمات مباشرة، فقد أصبح أكثر نشاطاً واجتهاداً، إذ بدأ بالسفر بشكل دائم إلى مواقع القصف والمناطق الحدودية التي تكثر فيها الاشتباكات.
بعض الصحافيين يجدون أنفسهم بحاجة إلى الانفصال عن الأحداث، بينما يختار آخرون مواجهة الموقف مباشرة، في محاولة لإيجاد شعور – حتى لو بشكل مؤقت – بأنهم يسيطرون على الوضع.
ثم هناك الصحافيون المخضرمون، الذين يملكون خبرة طويلة اكتسبوها من تغطية صراعات كثيرة عبر مسيرتهم المهنية. كثيرون منهم يظلون هادئين في مواجهة الحرب، ذلك العدو الذي لم يتوقعوا يوماً أن يصل إلى أبواب منازلهم. يحافظون على حسهم النقدي، لا يسمحون لعواطفهم بأن تسيطر عليهم، ويعتمدون على الأمل أو الإيمان، على أمل أن يساعدهم ذلك على الصمود.
لكن ليس رد الفعل الإنساني تجاه الأحداث وحده هو ما يُشكل شخصية الصحافي، بل أيضاً تلك التجارب التي تمر بهم، والتي تترك آثارها في نفوسهم وفي طريقة تعاملهم مع كل ما يجري.
البعد الاقتصادي والديني: تحديات إضافية للصحافيين
عامل آخر ذو أهمية كبيرة هو البعد الاقتصادي. إذ تقسم رشا الصحافيين إلى مجموعتين رئيسيتين: أولئك الذين ينتمون إلى الطبقات الميسورة، وأولئك الذين ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية الأقل حظاً.
الصحافيون الميسورون غالباً ما يظهرون ثقة زائدة، يمزحون حتى في أحلك الظروف، ويتبنون أسلوب الفكاهة السوداء. لديهم القدرة على تأمين مساكن أفضل وتغطية النفقات الأساسية بسهولة أكبر، مثل الأدوية، الطعام، الملابس، والاحتياجات الأخرى. في المقابل، الصحافيون الأقل حظاً اقتصادياً يظهرون تسامحاً أقل تجاه الظروف المحيطة، يحتفظون بغضبهم وحزنهم، وغالباً ما يواجهون صعوبات أكبر في تأمين احتياجاتهم الأساسية، بخاصة أن كثراً منهم لا يعتنون بأنفسهم فقط بل يساهمون في إعالة أسرتهم.
البعد الديني وتأثيراته
أما البعد الديني، فهو يلعب دوراً مهماً أيضاً. يستهدف القصف الإسرائيلي حزب الله، الحزب الذي يتألف أساساً من المسلمين الشيعة. وبناءً على ذلك، أصبح أي صحافي مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بهذا الحزب أكثر عرضة للقلق والارتياب، معتقداً أنه هدف أسهل للقصف. كما أن الصدمات الناتجة من الهجمات الإسرائيلية تُختبر بشكل أكثر حدة وتأثيراً على عائلات هؤلاء الصحافيين، ما يزيد من تعقيد ظروفهم النفسية والاجتماعية.
هذه العوامل، الاقتصادية والدينية، تُضاف إلى قائمة التحديات التي يواجهها الصحافيون في ظل الحرب، إذ يتوجب عليهم التوفيق بين مهامهم المهنية ومعاناتهم الشخصية.
إقرأوا أيضاً:
الشباب اللبنانيون في الخطوط الأمامية — هبة
هبة منذر، 31 عاماً، رئيسة قسم الابتكار في موقع “درج”، تتابع أحداث مدينتها منذ الهجمات في أيلول/ سبتمبر 2024. تقول: “إسرائيل تركت ندوباً فيناً منذ كنا أطفالاً، قبل أن تفعلها مجدداً ونحن بالغون”، في إشارة إلى القصف الإسرائيلي لبيروت عام 2006.
منذ بدء الهجمات الإسرائيلية على العاصمة، ركزت هبة على متابعة الإعلانات عبر منصة X حول القصف وتوثيق كل ما يمكن من تفاصيل الحياة اليومية. هذه طريقتها لتجنب الانجراف وراء العواطف. تقول: “مع تجربة غزة، كنا نعرف ما قد يحدث”.
خلال القصف الأولي، ركز فريق “درج” على وضع خطة لإعادة توزيع أعضاء غرفة الأخبار، ونقل أولئك الذين يعيشون في المناطق ذات الخطورة العالية. ورغم الانتقال إلى مكان آمن نسبياً، إلا أن الوضع لم يتغير؛ الصواريخ لا تزال تسقط، والطائرات المسيّرة لا تتوقف عن التحليق.
جيل جديد من الصحافيين اللبنانيين
الجيل الجديد من الصحافيين اللبنانيين، ومنهم هبة، طوروا قدرات فريدة نتيجة التجربة المستمرة. تعلموا تمييز صوت الانفجار الصوتي، الناتج من اختراق الطائرات لحاجز الصوت، عن أصوات الانفجارات العادية. كما أصبح بإمكانهم التعرف على أنواع الطائرات التي تحلق باستمرار فوق مدينتهم، ومعرفة أيها تحمل متفجرات وأيها تقوم بمهام استطلاعية.
لكن هذا الجيل أيضاً هو الأكثر تعرضاً للحرب النفسية التي تشنّها إسرائيل. يستخدم الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي منصة X لنشر مواقع المناطق التي ستُقصف، ما يزيد من الضغط النفسي. ورغم ذلك، يمثل الشباب اللبناني جزءاً من الشريحة التي اختارت البقاء، توثيق الأحداث اليومية، أن يكونوا شهوداً عليها، وألا ينسوها. هدفهم استخدام هذه التجربة كتحذير للأجيال القادمة.
في خضم هذه التحديات، يُظهر هؤلاء الشباب التزاماً غير عادي بوظيفتهم وشجاعتهم، ما يجعلهم أصواتاً أساسية لنقل الحقيقة في أصعب الظروف.
عدم اليقين بعد الحرب وأمل المستقبل — أنطوني
“ماذا يجب أن نفعل كصحافيين ومالكي وسائل إعلام مستقلة بعد الحرب؟” هذا هو السؤال الذي يطرحه أنطوني بركات، صحافي (26 عاماً) وأحد مؤسسي منصة “نقد ميديا”.
شجاعة الشباب اللبنانيين وصلابتهم وتصميمهم، رغم أهميتها، لا تكفي لمواجهة الواقع المرير. الكثير من الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام، من ذوي المواهب الاستثنائية والتفاني الكبير، يفكرون جدياً في مغادرة البلاد. يقف وراء هذا القرار شعور عميق بالعزلة والإهمال، نتاج سنوات من التهميش وزيادة الضعف. يشعرون بأنهم تُركوا وحدهم، بلا الدعم اللازم لمواجهة الضغوط الخارجية من القوات الإسرائيلية، والتهديدات الداخلية التي يمثلها فاعلون مثل حزب الله.
إنها هجرة صامتة، تحمل معها تداعيات مدمرة على حرية التعبير والذاكرة الجماعية لمنطقة بكاملها. لكن البقاء على قيد الحياة وقبول الأحداث وحدهما لا يمكن أن يكونا الحل. يقول أنطوني: “علينا أن نفكر أبعد من البقاء، ونركز على إعادة بناء بيروت كمركز للصحافة، والتحقيقات، وصناعة المحتوى”.
بيروت: أكثر من مجرد عاصمة
بيروت، بتاريخها المعقّد ودورها الثقافي الفريد، تمثل أكثر من مجرد مدينة. إنها رمز للصمود، التنوع، والحرية في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني غالباً من الصراعات، الرقابة، والأنظمة القمعية. رغم الصعوبات التي واجهها لبنان على مدار العقود — من الحرب الأهلية إلى الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية — تظل بيروت متميزة بانفتاحها وكونها ملتقى للثقافات والأديان والأفكار.
لعقود عدة، كانت بيروت ملاذاً لأولئك الذين يبحثون عن مساحة لرواية القصص الحقيقية، متحدّين السلطة ومقاومين الخوف. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، هناك حاجة الى إعطاء بيروت بُعداً جديداً لدورها، ليس فقط كموقع للمقاومة، بل كمختبر للأفكار، الابتكار، والإبداع.
يجب أن تستعيد المدينة مركزيتها، لتصبح مثالاً يُحتذى به في المنطقة بكاملها، ورمزاً للأمل والإصرار على بناء مستقبل يتجاوز آثار الحرب والصراعات.
إقرأوا أيضاً: