في مقابلة له مع قناة “الحرة” الأميركية، أطلق مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر البداية الجديدة، وربما الفعلية لدخول واشنطن على خط الأزمة المستعصية في لبنان من خلال تلويحه بالتدخل الصارم ضد النظام الحاكم، لا سيما تأكيده أن بلاده تتابع عن كثب إن كانت الحكومة الجديدة ملتزمة بمكافحة الفساد وإخراج لبنان من أزمته المالية.
هذا التصريح دفع الكثير من المراقبين إلى استنتاج مفاده أن هذا المسؤول الأميركي الآتي من أوساط مراكز التحليل والبحث الأميركية المعنية بالشرق الأوسط، يلمح إلى أن إدارة ترامب لن تتردد في فرض عقوبات شديدة مالية واقتصادية على حكومة لبنان، وربما حتى الذهاب إلى إجراءات أكثر صرامة ضد النخب السياسية ومنظومة الفساد السياسي المتجذرة في أوساط الحكم.
في السياق، دعا تقرير صادر عن “معهد واشنطن” أعده ماثيو ليفيت وحنين غدار، نشرته “ذي هيل”، الولايات المتحدة إلى العمل على إرغام الحكومة اللبنانية الجديدة وتمكينها من مواجهة السلطة السياسية الفاسدة، و”فرض عقوبات تستهدف بعض الجهات الفاعلة الأكثر فساداً عبر مختلف ألوان الطيف السياسي والطائفي اللبناني، بموجب قانون ماغنيتسكي الدولي”. ووفقاً للتقرير فإن هناك أدوات أخرى للضغط مثل القسم 7031 (ج) من قانون “اعتمادات وزارة الخارجية والبرامج ضد الصلة لعام 2020”.
من أبرز السياسيين والمسؤولين في دول عدة في العالم الذين يخضعون للعقوبات بموجب قانون ماغنيتسكي “الزعيم الشيشاني رمضان قديروف الموالي لروسيا.
استخدمت وزارة الخارجية هذه الأداة في وقت سابق لاستهداف الفساد في مولدوفا، وقبل أيام في بلغاريا، ولاتفيا وكمبوديا وصربيا وفنزويلا وغواتيمالا وغيرها، وبحسب وزارة المالية الأميركية تمت معاقبة 101 من الأفراد والكيانات في دول كثيرة. وعام 2017 وقع الرئيس ترامب الأمر التنفيذي الذي يجمد ممتلكات الأشخاص المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو الفساد”. كما صادق في العام نفسه على إجراءات ضد أكثر من 460 شخصاً وكياناً بالتورط بأنشطة فساد أو انتهاك لحقوق الإنسان. ومن أبرز السياسيين والمسؤولين في دول عدة في العالم الذين يخضعون للعقوبات بموجب قانون ماغنيتسكي “الزعيم الشيشاني رمضان قديروف الموالي لروسيا. وكان أعضاء في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي وجهوا رسالة إلى الرئيس ترامب يطالبون بتطبيق ماغنيتسكي على جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. وبموجب قانون ماغنيتسكي فرضت وزارة الخزانة في الولايات المتحدة من خلال مكتب مراقبة الأصول الأجنبية عام 2017 عقوبات على كل من ألكسندر باستريكين، ديمتري كوفتون، ستانيسلاف غورديفسكي، غينادي ميلان وادرجتهم في القائمة السوداء حيثُ جُمدت أصولهم لمصلحة المؤسسات المالية الأميركية كما فُرض عليهم حظر الدخول إلى الولايات المتحدة بعد اتهامهم بانتهاكات وعمليات فساد مالي.
في هذا الإطار، ولمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد في 9 كانون الأول/ ديسمبر، أعلن مكتب الرقابة على الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على 40 شخصية أجنبية متهمة بارتكاب عمليات فساد مالي وغسيل أموال من بينها 9 شركات صربية، وعمدة مدينة لاتفيا، متهم بصفقات فساد وتمكين مسؤولين وسياسيين متنفذين في الدولة من الاستحواذ على مبالغ كبيرة من المال العام.
منظومات الفساد السياسي في لبنان والعراق
السؤال الأكثر إلحاحاً الآن بعد مرور أكثر من 3 أشهر على الثورة الشعبية في لبنان، ودخول الثورة الشبابية في العراق شهرها الخامس ضد منظومات الفساد السياسي التي تديرها الأحزاب الحاكمة في البلدين، في إطار عملية نهب منظم للمال العام واستنزاف مقدرات الدولة وتجذير ازمة الحكم والفساد، ما الذي يجب القيام به لمواجهة تمسك الأحزاب الفاسدة بالحكم واستخدامها العنف المنظم والقتل بالرصاص الحي وعمليات اختطاف النشطاء وتعذيبهم وتصفية الكثير منهم جسدياً في العراق بتواطؤ من الحكومة ومؤسسات الدولة الامنية والعسكرية، ورفضها تنفيذ مطالب الحركة الاحتجاجية؟
لم يعد هناك أي طريق لمواجهة هذه (النخب) السياسية الفاسدة والرثة والميليشياوية المسلحة بعد فشل المؤسسات القضائية في الدولتين من القيام بوظائفها الدستورية سوى البحث عن وسائل جديدة لملاحقة المافيات السياسية، وإعادة الأموال الباهظة التي نهبوها وحولوها إلى عقارات وفنادق ومنتجعات واستثمارات في أوروبا ودبي وأميركا اللاتينية وغيرها من دول العالم، وهو ما يمثل أحد أبرز مطالب الحراك الشعبي. هل يمكن اللجوء وبشكل جماعي أو عبر مؤسسات المجتمع المدني في كلا البلدين لبنان والعراق، إلى طلب التدخل الدولي أو الأميركي والأوروبي واستخدام مؤسسات هذه الدول القضائية، بهدف إنفاذ سلطة القانون وإنهاء خضوع المؤسسات المحلية بالكامل للطبقة السياسية الفاسدة والأوليغارشية المرتبطة بها، وانغماسها هي الأخرى في منظومات الفساد وشبكاته المتعددة؟ هل يمكن اللجوء إلى الكونغرس الأميركي وطلب تطبيق قانون ماغنيتسكي لحماية شعبي البلدين من الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان والاقتصاص من منظومات الفساد السياسي التي قوضت أعمدة الدولة وفرص بناء المستقبل وبناء وتحديث الدولة؟ فلبنان بحسب مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره “منظمة الشفافية الدولية” يحتل المرتبة 138 عالمياً من أصل 180 دولة، فيما يحتل العراق المرتبة 12 في لائحة البلدان الأكثر فساداً في العالم. هذه الأرقام المهولة تؤكد أن الفساد في هذين البلدين لم يعد حالة استثنائية، وإنما بات القاعدة، وتحول إلى ممارسة فعلية تهدف إلى توظيف السلطة لمصلحة الفساد، وتوظيف الفساد لممارسة الحكم.
لوبيات لبنانية وعراقية في الولايات المتحدة
من أهم الخطوات التي ينبغي أن يقوم بها نشطاء الحركة الاحتجاجية في البلدين، التحرك باتجاه الكونغرس الأميركي من خلال منظمات المجتمع المدني الأميركية والأوروبية والمحلية، وبمساعدة خبراء في القانون الدولي لإقناع عدد من النواب من الحزبين “الجمهوري” و”الديموقراطي” بطرح المسألة للمناقشة في جلسة بهذا الشأن. وهذا يحتاج أيضاً إلى استخدام آليات محددة، وتحريك لبنانيين وعراقيين لديهم مفاصل وقوة وعلاقات مع اعضاء في الكونغرس، والتوجه إلى اللوبيات العراقية واللبنانية التي لها جاليات كبيرة، وأيضاً إلى مكاتب العلاقات العامة الأميركية لخلق مجموعات ضغط داخل الكونغرس ومجلس الشيوخ، واتباع الآليات القانونية لملاحقة المتهمين بنهب المال العام وارتكاب انتهاكات حقوق الانسان واستخدام القوة المفرطة والقتل العمد ضد المحتجين. وتتوفر فرصة تحريك مثل هذه القضايا في بريطانيا لا سيما أن رئيس الحكومة بوريس جونسون طرح مشروع قانون مماثل للأميركي (ماغينتسكي) على البرلمان الذي تبناه وأصدره، وتلزم بنوده جميع الأراضي البريطانية الواقعة ما وراء البحار، بالكشف عن اصحاب حسابات “الأوف شور”، في إطار مكافحة التهرب الضريبي. ويتيح القانون أيضاً فرض العقوبات على منتهكي حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. وأقر البرلمان الكندي بالإجماع قانوناً مماثلاً، يلاحق المسؤولين الحكوميين المتهمين بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان.
ويتجه الاتحاد الأوروبي هو الآخر إلى إصدار تشريع أوروبي مماثل للأميركي يتيح له ملاحقة المسؤولين الحكوميين المتهمين بانتهاكات حقوق الانسان والفساد وغسيل الأموال في مختلف أنحاء العالم. وذكرت صحيفة “بوليتكو” على موقعها الإلكتروني “أن وزراء خارجية الدول الاعضاء توصلوا إلى اتفاق بهذا الخصوص”. وقالت نقلاً عن مصدر ديبلوماسي رفيع إن “23 دولة أعضاء اتفقت على تشريع قانون (ماغنيتسكي) أوروبي مقابل خمسة دول فقط تحفظت على القرار”. وقال مسؤول الشؤون الخارجية وقضايا الامن جوززيف بوريل إن “القانون المرتقب سيتيح للمفوضية الأوروبية والمؤسسات الأوروبية المعنية فرض عقوبات صارمة ضد افراد ومسؤولين محددين من دول مختلفة متهمين بانتهاك حقوق الانسان وعمليات فساد منظم”، موضحاً أن “العقوبات لن تفرض على الدول، وإنما على أشخاص أو أفراد وهيئات محددة تتحمل مسؤولية ارتكاب هذه الجرائم”. وبحسب ماريو ليفيت وحنين غدار في تقريرها المذكور فإن “تصنيف رجال أعمال ومسؤولين لبنانيين فاسدين بموجب قانون ماغنيتسكي الدولي من شأنه أن يوفر استجابة ملموسة للمطالب المستمرة للمحتجين اللبنانيين، لأن مثل هذا الإجراء سيستهدف شخصيات فاسدة من جميع الطوائف”. هذا يمكن أن يسري بالتأكيد على الحالة العراقية. يرى المحلل السياسي في مركز الدراسات الاوروبية – الاطلسية في صوفيا كريستيان شكفارك” تحرص واشنطن عند استهداف دول محددة تتهمها بالفساد أن تتوجه بالعقوبات ليس ضد السياسيين او المسؤولين، بل ضد مؤسساتها القضائية أو عاملين فيها تتوفر لديها عنهم معلومات بالتورط بالفساد”، موضحاً أن “هذا تصرف مفهوم ومنطقي، لأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير الستاتيكو السياسي، بل استهداف ما يعرف باسم (deep state) اي الدولة العميقة”، مشدداً على أن مثل هذه الخطوة أي استهداف الفاسدين في القضاء تعد أكثر أهمية من استهداف السياسيين لسببين، الأول هو أن عدم فرض سيادة القانون من الجهة التنفيذية المسؤولة يؤدي إلى تعميم الفساد السياسي، وثانياً، أن النظام السياسي يمكن تغييره بسهولة ضمن الآليات الديموقراطية وتحت ضغط المجتمع المدني والانتخابات، وتأثير الميديا المستقلة. ولكن (الدولة العميقة) تتكون من مؤسسات وشبكات علاقات سرية وثيقة تربط بين مؤسسات إنفاذ القانون والسياسيين والاحزاب المتنفذة، وبالتالي فإن استهداف المؤسسة القضاء هو الممر لاستهداف منظومات الفساد السياسي، فالأولى أكثر شمولاً وعمقاً ومتجذرة في الدولة والمجتمع”.
من هو ماغنيتسكي وماهو محتوى القانون؟
سيرغي ليونيدوفيتش ماغنيتسكي (مواطن روسي) ولد في نيسان(أبريل) العام 1972، يحمل شهادة في القانون عمل محامياً ومحاسباً، وتخصص في مجال مكافحة الفساد. تعرض ماغنيتسكي للاعتقال في العام 2008، ومات في السجن في ظروف غامضة بعد 11 شهراً على اعتقاله، مثيراً تساؤلات كثيرة في الإعلام الغربي ومبادرات كثيرة من جهات متعددة، دفعت إلى إجراء تحقيقات وتحريات عن شبهات في كشفه لعمليات احتيال وفساد وانتهاكات حقوق الإنسان على مستويات كبيرة في روسيا تسببت في قتله في نهاية المطاف.
358 يوماً في السجن
أمضى ماغنيتسكي 358 يوماً في سجن بوتركا في موسكو. وفرضت عليه السلطة إجراءات صارمة تسببت في إصابته بأمراض كثيرة مثل التهاب البنكرياس والمرارة، ولم يتلق حسب معارفه وعائلته الرعاية الطبية المطلوبة، بل وذهب مجلس الدفاع عن حقوق الإنسان في روسيا إلى اتهام السلطة بتعذيبه جسدياًـ ما تسبب في موته، وهذا الاتهام أدى إلى تدويل قضيته وتحويلها إلى قضية رأي عام دولي ومكافحة فساد. وكانت صحيفة “الفايننشيال تايمز” ذكرت في أوائل كانون الثاني/ يناير 2013 أن “قضية ماغنيتسكي فاضحة وموثقة جيداً وتسلط الضوء على الجانب المظلم للبوتينية”.
من أهم الخطوات التي ينبغي أن يقوم بها نشطاء الحركة الاحتجاجية في البلدين، التحرك باتجاه الكونغرس الأميركي من خلال منظمات المجتمع المدني.
الشاب ماغنيتسكي كان وصف محنته في السجن في رسائل بعثها إلى والدته ناتاليا قال فيها: “تم نقلي إلى سجن آخر، الظروف هنا أسوأ بكثير من أي مكان آخر. لا توجد ثلاجة أو تلفزيون أو ماء ساخن، وأنا منذ ثلاثة أسابيع أنتظر رؤية الطبيب على رغم أنني ملأت الاستمارة لأرى الطبيب وحتى قدمت شكوى”.
بعد أيام قليلة من وفاته، قالت أمه إنه لم يسمح لها بزيارته إلا مرة واحدة ويومها وجدته منهكاً ونحيلاً. وعندما عادت لزيارته في تشرين الثاني/ نوفمبر أبلغوها أن ابنها مات منذ 12 ساعة. التحقيقات أظهرت أنه كان ضحية حرمان متعمد من العناية في السجن، لكن السلطات الروسية نفت تعرضه لأي عنف جسدي وأغلقت التحقيق.
ماغنيتسكي وبيل براودر
تُعد قصة قيام أحد المستثمرين الأثرياء المولودين في الولايات المتحدة منذ أكثر من عقد بحملة ضد بوتين معروفة جداً لمعظم خبراء السياسة الخارجية، إلا أنها غير معروفة كثيراً بين الناس. وتبيّن الأحداث التي أدت إلى اعتماد قانون ماغنيتسكي في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا مدى استعداد نظام بوتين للقيام بكل ما يسمح به لإسكات منتقديه ونهب الأموال. كما أنها قصة تعاون دولي ناجح – ولكن أيضاً هش – دعماً لحقوق الإنسان.
ولد المستثمر بيل براودر في أميركا وعاش في موسكو، حيث ترأس صندوق «هرميتاج» لإدارة الأموال واستثمارها. وكما كتب براودر لاحقاً في قصته في مجلة «بوليتيكو»، فقد كان ناجحاً للغاية ولكنه واجه قدراً هائلاً من الفساد في الشركات الروسية التي استثمر فيها صندوقه. ونتيجة لهذه الشكاوى العامة كتب براودر: «تسبب الرئيس فلاديمير بوتين بطردي من البلاد وأعلن أنني أشكل تهديداً للأمن القومي. وبعد 18 شهراً من ذلك، داهمت الشرطة في حزيران/ يونيو 2007 مكاتبي في موسكو، وتم استخدام الوثائق التي استولوا عليها لإعادة تسجيل ملكية شركاتنا القابضة للاستثمار، فضلاً عن تغريمنا مبلغ مليار دولار من الالتزامات الضريبية الزائفة. وفي كانون الأول، استخدم المسؤولون الفاسدون (ملكيتهم) الجديدة لشركاتنا والالتزامات الضريبية المزيفة لاسترداد 230 مليون دولار من الضرائب التي دفعناها للدولة في العام السابق». ووفقاً لبراودر، كان ذلك أكبر خصم ضريبي في تاريخ روسيا.
يتجه الاتحاد الأوروبي إلى إصدار تشريع أوروبي مماثل للأميركي يتيح له ملاحقة المسؤولين الحكوميين المتهمين بانتهاكات حقوق الانسان والفساد وغسيل الأموال.
وكلّف براودر المحامي والمحاسب الشاب سيرغي ماغنيتسكي بتولي الدفاع في القضية بعد المداهمات التي حصلت. وفي 2008. كشف ماغنيتسكي عن شبكة من التزوير الضريبي بقيمة 230 مليون دولار. وأدت تحقيقاته إلى الكرملين مباشرة وإلى حاشية بوتين والدائرة الضيقة من المسؤولين المقربين منه شخصيا. وبعدها، أصبح ماغنيتسكي هدفاً للتحقيقات وترهيب الشرطة. وتم اعتقاله من دون توجيه اتهامات له وضربه حتى الموت أثناء احتجازه لدى الشرطة. وكما سرد براودر في وقت لاحق: «لم ينكر أحد تعذيب سيرغي وقتله. وخلال 358 يوماً من الاحتجاز، كان سيرغي قد كتب أكثر من 450 شكوى توثق ما قامت به قوات الشرطة من تعذيب. وتلقينا نسخاً من هذه الشكاوى، قدمت واحدة من أكثر الحسابات العميقة المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان في روسيا خلال السنوات الـ35 الماضية.
الكونغرس يفتح ملف قتل ماغنيتسكي
عام 2011 قام السناتور بنجامين كاردين من الحزب الديموقراطي يدعمه 38 نائباً في مجلس الشيوخ يتصدرهم السيناتور الراحل جون ماكين والسيناتور ماركو روبيو من الحزب الجمهوري والسيناتور جوزيف ليبرمان من الحزب الديموقراطي، بتقديم مشروع قانون يعاقب المسؤولين الروس الذين تم اتهامهم بتعذيب واخفاء وقتل المحامي الروسي ماغنيتسكي في روسيا بعد كشفه ملفات فساد خطيرة. وبعد عام من خضوع مشروع القانون للبحث والنقاش في الكونغرس، رفعت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ تقريراً أعده عضو اللجنة السيناتور جون كيري يوصي باعتماد المشروع باسم قانون (ماغنيتسكي)، ينص على فرض عقوبات على القادة الروس المسؤولين عن وفاته، من خلال حظر دخولهم إلى الولايات المتحدة ومنعهم من استخدام النظام المصرفي الدولي. وحصل القانون على اصوات 92 نائباً، مقابل رفض 4 نواب فقط، وبعد ذلك في 14 كانون الاول عام 2012 وضع الرئيس باراك أوباما توقيعه رسمياً على القانون وأصبح نافذاً.
ولعل الجزء الأكثر أهمية في القانون ويكسبه صفة التطبيق على المستوى الدولي، ويمكن اللجوء إليه في الحالتين اللبنانية والعراقية هو الفقرة الثانية من الجزء الرابع التي تنص على إدراج أي شخصية أو مسؤول في العالم يثبت تورطه أو اشتراكه في تعذيب أو قتل أي شخص في العالم يحاول كشف عمليات فساد يرتكبها مسؤولون حكوميون أو يحاول الكشف عن أي انتهاكات لحقوق الانسان المحددة عالمياً.
عام 2015 تطور محتوى القانون واغتنى بنص جديد اقترحه السيناتور كاردين مدعوماً من زعيم الجمهوريين جون ماكين وأعضاء بارزين في الحزب الديموقراطي يدعو إلى توسيع القانون ليصبح (غلوبال ماغنيتسكي)، وتم تمريره عام 2016، بحيث أصبح بإمكان الإدارات الأميركية ملاحقة المسؤولين الحكوميين الاجانب المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان والفساد السياسي في جميع أنحاء العالم.
وتتمثل أهمية القانون في أنه لأول مرة في القانون الجنائي الدولي أصبحت السلطة التنفيذية ومعها التشريعية وليس القضائية فقط، وهنا المقصود الولايات المتحدة الأميركية تمتلك سلطة التحقيق وفرض العقوبات، إذ ينص القسم الثالث من قانون عام 2016 على منح رئيس الولايات المتحدة صلاحية فرض عقوبات اقتصادية ومالية على أي شخص تتوفر معلومات عن قيامه بانتهاكات بحق حقوق الإنسان، أياً كانت صفته أو منصبه في دولته، حتى وان كانت تلك الانتهاكات لا تتعلق بأشخاص يمتلكون الجنسية الأميركية وليسوا مقيمين في الولايات المتحدة ولم يحصلوا على تأشيرة دخول إلى أميركا، وليست لهم علاقة مادية أو معنوية بالولايات المتحدة. ما يعني أن العقوبات يمكن أن تشمل كل شخص أو مؤسسة أو منظمة أو جهة علمت أو ساندت أو حاولت التستر أو حمت الذين يرتكبون الجرائم المنصوص عليها في القانون.
“تم نقلي إلى سجن آخر، الظروف هنا أسوأ بكثير من أي مكان آخر. لا توجد ثلاجة أو تلفزيون أو ماء ساخن، وأنا منذ ثلاثة أسابيع أنتظر رؤية الطبيب على رغم أنني ملأت الاستمارة لأرى الطبيب وحتى قدمت شكوى”.
ومنح القانون الكونغرس الأميركي صلاحية الطلب من الرئيس التحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان أو الفساد المالي في بلد آخر، بحيث يتحتم عليه خلال 120 يوماً، من استلامه طلباً من رئيس الكونغرس أو أحد اللجان المختصة للتحقيق في معلومات تعذيب أشخاص أو قتلهم، وأن يقرر فرض العقوبات المنصوص عليها في القانون على المعلومات المقدمة من الحكومات والمنظمات غير الحكومية المعنية بمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان، وكذلك المنظمات المعنية بمكافحة الفساد المالي والإداري من دون تحديد جنسية تلك المنظمات، ما يعني أنه يسري على جميع المنظمات غير الحكومية في العالم.
ماغنيتسكي وسيادة الدول
يواجه تطبيق هذا القانون انتقادات واتهامات بانتهاكه لمبدأ سيادة الدول المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن خبراء القانون الدولي يردون على ذلك بأنه لا يطبق على أراضي الدول الأخرى، بل يطبق على أراضي الولايات المتحدة، أو الدول التي أصدرت قوانين مشابهة، وبنوده لا تضم إلقاء القبض على المتهمين، بل تمنعهم من دخول الولايات المتحدة، إضافة إلى حرمانهم من الاستفادة من النظام المصرفي الدولي لتدوير واستخدام أموالهم التي اكتسبوها من عمليات فساد.
تتحكم الولايات المتحدة بالنظام المصرفي العالمي، وفي حال فرضها عقوبات مالية أو اقتصادية على أي دولة أو شخصية، فإن قرارها هذا يلزم جميع المصارف في العالم بتجميد الأرصدة المالية ووقف التعاملات المالية كافة مع المدرجين في لوائح العقوبات بتهمة الفساد المالي وغسيل الأموال وانتهاك حقوق الإنسان، وفي حال رفضها تنفيذ القرار تتعرض لعقوبات قاسية. يؤكد المحلل السياسي بيتر كارابويف أن “قانون (ماغنيتسكي) ليس القانون الوحيد الذي يمكن أن تستخدمه واشنطن لفرض عقوبات على المسؤولين الحكوميين الفاسدين في دول العالم المختلفة، إذ هناك القسم المرقم 7031 (ج) من أحكام وقواعد مكافحة المسؤولين الفاسدين، ومنتهكي حقوق الإنسان، الواردة في قانون اعتمادات وزارة الخارجية والعمليات الخارجية ذات الصلة” الذي “تستند إليه جهود الادارة المالية في اجراءاتها لمكافحة الفساد على المستوى العالمي، الذي يمس المصالح السياسية والاقتصادية والأمن الوطني للولايات المتحدة والدول الشريكة”. وأوضح أن “هذا يوفر للإدارة الأميركية حظر دخول هؤلاء المسؤولين الفاسدين وأفراد عائلاتهم للولايات المتحدة وتجميد أرصدتهم المالية”.
سارع الرئيس بوتين في كانون الأول 2012 إلى توقيع قانون يمنع المواطنين الأميركيين من تبني الأطفال الروس
لم يتأخر الكرملين في الانتقام من تشريع هذا القانون فور صدوره، حيث سارع الرئيس بوتين في كانون الأول 2012 إلى توقيع قانون يمنع المواطنين الأميركيين من تبني الأطفال الروس، ما أدى إلى منع مغادرة مئات الأيتام الروس من الاستفادة من عمليات تبينهم من قبل عائلات في الولايات المتحدة. وكانت روسيا حتى عام 2012 واحدة من «الموردين» الرئيسيين للأطفال الذين يتم تبنيهم من قبل الولايات المتحدة. وعند توقيع قانون حظر التبني، كان هناك 120 ألف يتيم في روسيا بانتظار أن تنتهي أوراقهم لينتقلوا إلى الولايات المتحدة، والكثير منهم كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة. واعتبر محللون أن قرار موسكو كان عقاباً للأطفال الأيتام الروس أكثر منه عقاباً للولايات المتحدة، واعتبر أحد المعلقين قرار بوتين «مثالاً واضحاً على الحرب الديبلوماسية المتبادلة”.