بدأ الأمر حين قرأتُ تقريراً للـUNFPA صدر عام 2020.
أربع أسطر لفتت انتباهي، وهي بالضبط على الشكل التالي: “التقييمات من أواخر 2019 تظهر أن العنف القائم على النوع الاجتماعي مستمر في الارتفاع، مع تزايد أشكال العنف الجديدة في شدّتها وتأثيرها، مثل (البلوغ القسري/ Forced Puberty) الذي يتضمن حقن الفتيات الصغيرات بالهرمونات للحث على البلوغ لأغراض مثل زواج الأطفال أو الاستغلال الجنسي”.
مصطلح Forced Puberty لم يكن مألوفاً لديّ حين ترجمته الى العربيّة (البلوغ القسريّ)، هناك الزواج القسريّ، الإجهاض القسري، الاختفاءالقسريّ. لكن البحث السريع بعد الصدمة باللغة الإنكليزيّة كشف تقارير أخرى عن هذه الممارسة وفي الشمال السوريّ، لكن لم تشر هذه التقارير إلى تفاصيل هذا الانتهاك، فقط الإشارة إلى وجوده، ومن هنا، بدأ البحث.
أكتب الآن عن التحقيق الذي نُشر في موقع “درج” بعنوان “البلوغ القسري في مخيمات الشمال السوري… أدوية هرمونية لتسريع الدورة الشهرية وتزويج الفتيات”، بسبب حجم الانتقادات التي تعرض لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعبر منصات إعلامية وعبر شخصيات معروفة، واستهدفتني والزملاء في “درج”، والفاعلين على الأرض من عاملين في المجتمع المدنيّ، اتهمتـ(نا) بـ”هتك الأعراض”، والإساءة الى أهالي المخيمات، وأن التحقيق يتناول ظاهرة غير موجودة لم يسمع بها أحد، بل اتُّهمت بالتعميم والاعتماد على حالة فرديّة واحدة.
أكتب هنا لأؤكد مهنية ومصداقية ما ورد في التحقيق الذي استغرق العمل عليه أكثر من عامين، أجريت خلالها والزملاء الذين تعاونت معهم على إنجازه، مقابلات مع فتيات وذويهن وأطباء وعاملين في مجال الصحة وشخصيات رسمية.
تشاركت أنا والزملاء في “درج” كل المعلومات والمقابلات التي أجريتها وجمعتها والمصادر التي استخدمتها، والتزمت إدارة التحرير بحمايتها من النشر العلنيّ، حرصاً على سلامة وخصوصية الضحايا والناشطين والعاملين الخاضعين لـ”سلطات” متعددة في المخيمات السوريّة.
بدايات التحقيق
بحثت أكثر عن مصطلح البلوغ القسري، وبعد البيان الصحافي عن UNFPA تواصلنا مع مصادر مختلفة منها داخل UNFPA، لمعرفة السبب الذي دفعها الى إصدار بيان صحافي بخصوص هذه الممارسة. تبين إثر الحديث، وجود حالات مؤكدة في شمال سوريا والشمال الغربي، في إدلب، وفي شمال حلب حسب وثائق رسميّة حصلنا عليها من UNFPA أكدت انتشار “عادات جديدة ومنذرة بالخطر بدأت تلاحظ في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال البلوغ القسري والزيادة في حالات الاستغلال الجنسي، استمرت بالظهور مؤكدةً أن الأزمة المستمرة منذ سنوات والتي تمر بها البلاد، قد ساهمت في إعادة هيكلة الديناميكية الاجتماعية لعدد كبير من المجتمعات السورية”.
وهنا أشير إلى أن تلك الوثائق الرسمية التي حصلنا عليها من UNFPA هي جزء من تقرير كبير يكشف حقائق ومعلومات أكبر بكثير مما ذكر في التحقيق.
تزامنت التقارير السابقة مع قرارات صادرة عن كل من مديرية صحة حلب وإدلب حول منع بيع الأدوية الهرمونية الجنسية المسببة للبلوغ القسري (كما أطلقت عليه UNFPA) من دون وصفة طبية.
هذه المعلومات كلها تتزامن وتوثق، بينما ما زال صوت الضحايا بعيداً، إذ أردت تتبع الأمر وفق هرم معكوس، من التقرير العام والذي يذكر فيه كلمة “بلوغ قسريّ”، حتى الحالات الفردية. إثر ذلك حاولنا والفريق الذي أعمل معه، شراء هذه الأدوية من الصيدليات، وهذا ما فعلناه، وعلى رغم قرارات مديريتي صحة إدلب وحلب، والتي تشير الى منع بيع الأدوية الجنسية الهرمونية إلا بوصفة طبية، تمكنا من شراء الأدوية، وبيعها لم يتوقف، بل يمكنني القول بعد تجربتنا إن شراءها كان أمراً سهلاً للغاية، ولم يكن سعر الدواء عائقاً أمام شرائها حتى من دون وصفة طبية، وآخر علبة دواء قمنا بشرائها من دون وصفة طبية كانت في أيار/ مايو 2023.
سألنا الدكتور رضوان كردي، مدير صحة محافظة حلب الحرة، عن “سهولة” شراء هذه الأدوية رغم تعليمات مديرية الصحة، فقال إنه لا يوجد تنسيق بين المديريات والكوادر والمؤسسات الصحية لتنظيم تداول الأدوية الهرمونية، وأضاف “صدور تعميم تحذيري لا يكفي لوضع الأمور في نصابها، كما أن تداول هذه الأدوية مرتبط بالضمير الأخلاقي والمهني للأطباء والصيادلة حصراً”.
الضمير الأخلاقي والمهني، هذه العبارة بالضبط هي أكثر ما حزّ في نفسي حين الحديث مع الاختصاصيين، أي ولو كان شراء الأدوية سهلاً، ولو كانت الفتاة القاصر تخضع لضغوط أسريّة، ما يجب أن يحميها هو “ضمير وأخلاق” الصيدلي، الذي كان عليه أن يمتنع عن البيع من دون وصفة.
أسأل هنا مفترضةً، هل حال المخيمات في سوريا سيئ الى هذه الدرجة، إلى حد أن صيدلياً قد يبيع أدوية قد تؤذي طفلةً في سبيل المال؟ لا أمتلك إجابة.
أين الضحايا؟
الأدوية متوافرة، ويمكن شراؤها رغم التعليمات الرسميّة، لكن أين الضحايا؟
على مدى أشهر، عملنا للتواصل مع الضحايا، لا فقط أولئك اللاتي ذكرن في تقارير الـUNFPA، بل أولئك اللواتي اختبرن ويختبرن هذه الممارسة، وعبر شبكة من القابلات القانونيات والناشطين في الصحة الإنجابيّة، تمكنتُ من الحديث مع فتيات (ضحايا) وأمهاتهن.
التواصل الصحافي بخصوص موضوع كهذا، يتطلب الحذر الشديد، فأنا أقتحم حميمية “العيادة” ، أناقش شأناً شديد الحساسية وفي الوقت ذاته شديد القسوة، لم يكشف فقط عن تفاصيل الانتهاك الجسدي الذي تتعرض له الفتاة القاصرة، بل تركيب العائلات أحياناً، وطبيعة القوة التي تخضع لها الفتاة ووالدتها وحماتها، كنت أمام لحظات، أعجز عن وصفها، بعضها لم يذكر في التحقيق للحفاظ على القيمة الصحافيّة.
أشير أيضاً، الى أننا تعمدنا استخدام مصطلحات مبسطة لوصف أثر الأدوية الهرمونية السلبي على الفتيات الصغيرات على المدى القريب والبعيد، لتكون أقرب الى القارئ، بعيداً من تعقيد المصطلحات العلميّة، تم ذلك بعد استشارة مصادر طبية مختلفة، ولقاءات خاصة قمنا بها و نشرنا إحداها مع التفاصيل الكاملة في التحقيق.
التحقيق استلزم عملاً شمل:
مقابلات مع عاملين على الأرض شمال سوريا وشمال غربي سوريا في مجال الصحة الإنجابية والعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
مقابلات مع فتيات تناولن أدوية لتسريع الدورة الشهرية وأمهات، بالإضافة إلى شهادات لأمهات وفتيات وردت في تقرير UNFPA.
مصادر من داخل UNFPA.
مقابلة مع مدير مديرية صحة حلب الحرة الدكتور رضوان كردي، ومقابلة مع مصدر في مديرية صحة إدلب.
مقابلتين مع صيادلة في الشمال السوري.
مقابلة مع المحامية السورية رهادة عبدوش التي تحدثت عن قوانين تحمي أطفال ضحايا لمثل هذا النوع من الانتهاك وآليات التبليغ.
مقابلة مع فهد موسى، رئيس لجنة الحريات وحقوق الإنسان في نقابة المحامين الأحرار، الذي تحدث عن آليات تبليغ لمثل هذا النوع من الحالات.
مقابلة مع كنان أوغلو، طبيب نسائية حول الآثار السلبية لتناول هذه الحبوب على المدى القريب والبعيد.
قرارات صادرة من كل من مديرية صحة حلب وإدلب حول منع بيع تلك الأدوية من دون وصفة طبية.
أعود للسؤال، أين الضحايا؟ لن أجيب بوضوح ولن أحدد بدقة، لا نريد ضحايا جدداً إثر كشف هذا الانتهاك، خصوصاً أن الإنكار الذي ووجه به التحقيق، يعني أن الانتهاك سيستمر، وقد لا يحاسب أحد، ولا نعلم، إن تم التشديد على بيع الأدوية الهرمونيّة من دون وصفة الآن وقد أصبح الشأن علنياً.
اتُّهمت بالتعميم، وافتعال المقابلات، وانتهاك الأعراض، وغيرها من التهم التي أنكرت وجود البلوغ القسريّ، وأنكرت بيع الأدوية الهرمونيّة من دون وصفة، بحجج مختلفة أحياناً أنها غالية ويبلغ ثمن العلبة 50 دولاراً. تم التذرع بحالات البلوغ المبكر لتبرير ما يحصل، وهذا بالضبط سبب السريّة، التي وصلت إلى حد حماية الفاعلين في المجتمع المدني وإغفال أسمائهم في التحقيق، فأولئك الذين يعلمون على الأرض، معرضون للخطر سواء من المجتمع المحيط أو من السلطات المحلية في مناطق وجودهم ، ولهذا السبب بالضبط، حافظت على السريّة، حرصاً على أن يكون الانتهاك علنيّاً وموثقاً، لكن من دون أن يُنتج رد الفعل عليها ضحايا جدداً.
بعد 12 عاماً على الثورة والحرب، فإن السكوت عن هذه الممارسات ومهاجمة من يتحدث عنها، يعنيان أننا لم نحقق أي تقدم على صعيد الحريات وعلى جميع الصعد.