منذ انفصالي عن شريكي السابق تيو، وأنا أعيد تركيب حياتي مع الوحدة. أجدد عبرها طقوساً ماتت، بعضها تأجل. ولأن الانفصال، يتشابه مع الفقد، فإن هذا التركيب كان يحتاج إلى جهد مضاعف، وعزلة لا بد من اقترافها. قادني القدر إلى غرفة مستقلة. أعلّق فيها أرواح الموتى الذين حملتهم معي، من سفري الكثير وتنقلي بين مدن وأبنية وشقق لم أعد أذكر منها سوى أيدي الآخرين. آثارهم التي تحيا على جسدي. ولأن الغرفة كل ما نحتاجه، نساء ومثليين (بالإذن من فيرجينيا وولف)، فإن غرفتي الجديدة كانت أشبه بكهف ناسك في عزلته الأبدية. وهي غرفة تقع على سفح هضبة مونمارتر، حيث عاش الرسامون والفنانون البوهيميون حيواتهم في باريس، والتي لم يبق من زمنها هذا سوى الشوارع والساحات والمقاهي التي صارت مجرد محطات. نراها في أفلام السينما أو الصور الفوتوغرافية أو في تذكارات لم تعد تباع في زمن الجائحة.
ولم يكن من السهل عليّ، في هذه الغرفة، تجاوز هذا الانفصال أو تبديده بكؤوس النبيذ والهرب إلى مساحات المدينة المؤنسة ولقاءات عابرة برجال آخرين. جاء الحجر الصحي مجدداً، ليعيد حقيقة الفقد وقسوته وظلاله. وكان علي أن أخضع لمشاعر العجز أحياناً، ثمّ الحنين ونوبات البكاء المفاجئة. لكن الراديو، وهو آخر الأغراض التي بقيت في شقتنا السابقة، وأتيت به متأخراً الى غرفتي الجديدة، كان له أثر الشفاء الذي جعلني أستعيد علاقتي مع الوحدة الشفيفة.
الراديو صديق العزلات المرهفة، سنعرف قيمته أكثر كلما حبستنا فايروسات العالم في بيوتنا مثل الفئران الصغيرة.
اقتنيت في حياتي التي نمت بشكل عشوائي وبين بيوت عدة ومدن لا تتشابه، أكثر من عشرة راديوهات وبأحجام مختلفة. ولأني اعتزلت باكراً مشاهدة التلفزيون، وجد الراديو طريقه إلى حياتي التي دفعت دفعاً إلى العزلة داخل العزلة، وأنسها وأحياناً كثيرة حزنها الذي يشبه ستائر الشيفون الناعمة التي تهبط من علو النوافذ، كأنها مرايا وظلال لما عشناه وما سنعيشه.
لا أتذكر أن الراديو فارقني منذ طفولتي. كان التلفاز ممنوعاً في بيت أبي، الذي كان يردد كلمة الشيخ الضرير عبدالحميد كشك: “المفسديون”، باعتبار هذا الصندوق الذي تخرج من الألوان والأصوات المبهجة والرقصات والهمهمات، نافذتنا إلى الشر والفساد. احتل الراديو مساحته في شقتنا في القبة وتُرك في مطبخ أمي. تستمع فيه إلى الأغاني والبرامج الصباحية. وحين اشتريت أول راديو صغير من ساحة التل، كنت أخفيه بين أغراض جارتنا المردلية المكومة أمام بيتها. هناك وللمصادفة اكتشفت أول مجلة جنس، ورأيت أول قضيب لممثل بورنو. أخفيت الراديو الصغير بين كراكيب جارتنا السبعينية التي كلما رأتني على الدرج حملتني أغراضها التي كانت بمثابة تعلقي الأول بأغراض عتيقة أو “الفينتج”، والتي عادة ما يرميها الناس لقدمها. رحت أتفقد الراديو، ذا الصوت الرديء، عند عودتي من المدرسة. استمعت عبره إلى الأغاني التي منعت في بيتنا. أما راديو الشقة فكان أيضاً يحط إشارته على محطة إذاعة التوحيد الإسلامية التي عرفتني إلى أحمد رامي وأبو دجانة وأناشيد أبو راتب والتي ما زلت أحفظها إلى اليوم. كان أبي يشغل الراديو ليلاً ليستمع إلى صوت لبنان ومذيعته المفضلة وردة الزامل، ثم ينتقل إلى إذاعة “راديو مونتي كارلو” وبرامج “بي بي سي” ومذيع الأخبار المفضل عنده على راديو الشرق محمد السباعي، ومن هنا اكتشفت أنني أحب الصحافة. فصنعت لنفسي جريدتي البيتية الأولى من علب “الكليكنس” وقطع الكرتون التي تكون في أسفلها، وصرت أقلد صوت محمد السباعي مخترعاً نشرة إخبارية.
ولأني اعتزلت باكراً مشاهدة التلفزيون، وجد الراديو طريقه إلى حياتي التي دفعت دفعاً إلى العزلة داخل العزلة، وأنسها وأحياناً كثيرة حزنها الذي يشبه ستائر الشيفون الناعمة التي تهبط من علو النوافذ، كأنها مرايا وظلال لما عشناه وما سنعيشه.
حين صرت في بيروت اقتينت لنفسي راديو صغيراً، ثم أهملته. عادت علاقتي بالراديو في فرنسا. في تولوز، كان الراديو أنيس وحدتي. من “فرانس كولتور” إلى راديو “فيب”، وراديو “جاز”، وراديو “كلاسيك”، صارت حياتي مملوءة بالألوان الآتية عبر أصوات بعيدة. أشعر بها تحيطني. وأصير أفكر بالأشخاص الذين مثلي في هذه اللحظة، كيف يستمعون إلى المقطوعة ذاتها لشوبان، أو كيف يتفاعلون مع صوت بيلي هوليداي، أو عمق الحب في صوت كالاس وسيزاريا إيفورا. أفكر بهؤلاء الذين يجلسون مثلي على كنباتهم يحتسون النبيذ، مع ضوء شحيح يهبط على أثاث غرفهم وصالوناتهم في المساء، وهذه الأصوات والموسيقى تعبرهم هادئة وترافقهم منذ الصباح إلى عزلتهم الذاتية في الليل.
في باريس، صار الراديو يبقى شغّالاً أكثر من 16 ساعة متواصلة. صار هو خلفية البيت. هذا المسرح الضيق حيث أكتب وأطبخ وأرقص وأرسم، وأتأمل. ساعدني الراديو على الانفصال عن تعاسة الأخبار الآتية من بلادي. ومعه صرت أسافر، مثل الكتب التي تحملنا إلى عوالم وبلدان ولهجات وقصص وحكايات لا نعرفها. كان الرايو صديقي وما زال، لا بل هو أهم صديق في حياتي اليوم. يرافقني في كل شيء ويخفف عني، ويجعلني أتحمل عبء هذا العالم التعس وحروبه.
أقول لنفسي كل مساء، تخيل أن الحياة بلا هذه الأصوات الآتية مثل وشائج دافئة، كم سيكون صعباً علينا تحملها. الراديو صديق العزلات المرهفة، سنعرف قيمته أكثر كلما حبستنا فايروسات العالم في بيوتنا مثل الفئران الصغيرة.