أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.
لبنان يقف على أعتاب أزمة بيئية خطيرة تهدد مستقبله البيئي والاقتصادي وصحة المقيمين فيه، بفعل التداعيات الكارثية للعدوان الإسرائيلي الأخير. من الإبادة البيئية للأراضي الزراعية والغابات بفعل القنابل الفسفورية والمضيئة، إلى انتشار الملوثات الكيميائية السامة في الهواء وعلى التربة، نتيجة أكثر من 12600 غارة جوية أودت بحياة 4000 شخص على الأقل، وأصابت 16000 شخص آخر.
الخطر الأكبر يكمن في إمكانية تسرب هذه المواد السامة إلى المياه الجوفية. تتراكم التحديات أمام السلطات اللبنانية، مما يهدد مستقبل البيئة والصحة العامة. وبرغم أن وضع خطة بيئية سليمة لإدارة هذا الملف قد يكون حلاً لتفادي الكارثة في المدى البعيد، لكن التجارب السابقة في إدارة ملفات بيئية مشابهة وبعض المقترحات الحالية، مثل رمي الردميات في بحر منطقة الأوزاعي، تشير إلى أن السلطات قد لا تمتثل لتوجيهات وزارة البيئة والخبراء البيئيين لمعالجة الأزمة بشكل علمي يحافظ على صحة الناس.
خلال شهرين فقط من بدء توسيع دائرة القصف الإسرائيلي لتشمل مناطق خارج الجنوب اللبناني، وحتى وقف إطلاق النار في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر، نفّذت إسرائيل، بحسب بيانات جيشها، حوالي 12,600 غارة جوية استهدفت مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت، البقاع (شرق لبنان) والجنوب، بالإضافة إلى مناطق أخرى تعرضت لبعض الاستهدافات. أسفرت هذه الغارات، إلى جانب المآسي الإنسانية المتمثلة بمقتل مئات المدنيين، عن تدمير جزئي أو كلي لأكثر من 100 ألف وحدة سكنية، ويشير تقييم أول للبنك الدولي لأثر الحرب على لبنان، إلى أن هذا الرقم تم تسجيله حتى السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر فقط.
في هذا السياق، وفي مقابلة مع “درج”، تصنّف النائبة في البرلمان اللبناني وأستاذة الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت نجاة عون صليبا ردميات هذه الوحدات السكنية ك”أول أثر بيئي ناتج عن العدوان يجب معالجته”، وتشدد على أنها “تسبق في خطورتها الآثار البيئية الأخرى مثل: تلوث الهواء، التربة، والمياه، التي تستدعي بدورها حلولاً علمية مستدامة”.
تتسبب الردميات الناتجة عن قصف الأبنية وتدميرها، خاصة في المناطق الحضرية، في أضرار بيئية جسيمة. تحتوي هذه المخلفات غالباً على مواد خطرة مثل الأسبستوس، والمعادن الثقيلة (كالزئبق والرصاص والكادميوم) والمواد الكيميائية الصناعية، وبقايا المتفجرات غير المنفجرة. هذه المواد يمكن أن تتسرب إلى التربة والمياه الجوفية، مسببة تلوثاً طويل الأمد. على سبيل المثال، أشار تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن الردميات في غزة بسبب القصف الإسرائيلي تحتوي على ملوثات خطرة تُعرِّض المياه الجوفية لخطر التلوث المستدام.
تشير الدراسات أيضاً إلى أن التخلص العشوائي من الردميات، أو معالجتها بطريقة غير سليمة يزيد من المخاطر البيئية والصحية، مثل التسبب في تلوث الهواء من خلال حرق المواد الكيميائية والبلاستيكية. وفي حالات أخرى، يؤدي طمر الردميات في مواقع غير مخصصة إلى تهديد التنوع البيولوجي وتدمير البيئة المحيطة.
تحذر صليبا من احتمال استغلال الردميات لطمر البحر كما حدث في أزمات سابقة، مثل مكب النورماندي الذي تحول اليوم إلى واجهة بيروت البحرية “البيال”، مما يثير المخاوف بشأن استحداث واجهة بحرية جديدة في منطقة الأوزاعي، بحسب ما يخطط بعض السياسيين بحسب صليبا. هذا التوجه قد يؤدي إلى التخلص العشوائي من الردميات في البحر، وهو ما يشكل خطراً بيئياً كبيراً.
المواد الخطرة الموجودة في الردميات، التي ذكرناها في المقطع السابق، تُسبب تلوثاً شديداً للمياه البحرية، يؤدي إلى نفوق الكائنات البحرية، وتدمير الشعاب المرجانية، وتعطيل عمليات التمثيل الضوئي للنباتات البحرية، كما أن تراكم الردميات يغير تضاريس قاع البحر، مما يعطل التيارات البحرية ويضر بالتنوع البيولوجي.
بالإضافة إلى ذلك، يتسبب هذا التلوث في إدخال المواد السامة إلى السلسلة الغذائية، مما يعرض صحة المستهلكين لمخاطر التسمم، كما يمكن لتحلل بعض المواد العضوية والكيميائية في الردميات أن يُطلق غازات مثل الميثان، مما يعزز من أزمة التغير المناخي.
تقارير دولية، مثل تلك الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) والاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) أكدت ضرورة معالجة الردميات بطرق مستدامة لتفادي العواقب البيئية والصحية طويلة الأمد.
قدمت النائبة صليبا مع المحامي شكري حداد كتاباً إلى رئاسة الحكومة، يتناول كافة القوانين والاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالقضايا البيئية، مثل معالجة الردميات والمقالع والكسارات وغيرها. فطالب الكتاب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع التخلص من مخلفات الهدميات عبر ردم الأملاك العامة البحرية أو تكديسها عشوائياً في الجبال والوديان، ووضع آلية فرز وإعادة تدوير مخلفات الهدميات لتحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام في إعادة البناء. كما دعت صليبا إلى تخفيض الاعتماد على استخراج المواد الخام محلياً، عبر منح الحكومة إعفاءات جمركية على استيراد الإسمنت والكلنكر وغيرها من المواد ذات الصلة لمدة سنة.
وتؤكد صليبا أن “اتباع نهج بيئي مستدام لمعالجة الأضرار الناجمة عن العدوان الإسرائيلي، سيجنب لبنان كارثة بيئية على المدى المتوسط والبعيد”.
وفي السياق نفسه، يوافق الدكتور محمد أبيض مستشار وزير البيئة ومدير مختبرات البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت، على اعتبار ملف الردميات أولوية، مشيراً إلى أن “الردميات موجودة بألوف الأطنان، ويجب معالجتها بطريقة علمية للحفاظ على البيئة وصحة المواطنين”، كما يلفت إلى أن الوزارة تعمل على وضع الخطط التفصيلية اللازمة تمهيداً لتقديمها إلى مجلس الوزراء قريباً.
وسبق لوزير البيئة ناصر ياسين أن أصدر تعميماً حدّد فيه مواقع التجميع الموقت للردميات وطرق نقلها والتخلص النهائي منها، وهي المقالع القائمة على الأملاك العامة، وإذا تعذّر وجودها فتلك التي على الأملاك الخاصة بموافقة أصحابها. وفي حال تعذر وجود أي من المواقع هذه، تُحوّل الردميات إلى أملاك عامة تخصص كمواقع تجميع موقتة. وطلبت الوزارة إبلاغها والمحافظين بالمواقع المعتمدة والتقيد بالضمانات البيئية والمبادئ التوجيهية المنصوص عنها في القوانين والأنظمة المرعية، مع التذكير بضرورة عدم الرمي العشوائي لهذه النفايات، بما في ذلك عدم رميها في المكبات العشوائية.
وفي ما يتعلّق بالنقل والمعالجة والتخلص النهائي عممت الوزارة بضرورة إيلاء مبدأ الفرز بهدف إعادة الاستعمال والتدوير الأهمية القصوى، مع أولوية فصل المواد الملوثة والخطرة عن باقي الردميات، تمهيداً لمعالجتها. بالنسبة إلى المخلّفات، التي لا يمكن إعادة استعمالها أو تدويرها، العمل على استخدامها في تأهيل المقالع مع التقيد بالضمانات البيئية.
إتحاد بلديات الضاحية يرفض تطبيق تعميم وزارة البيئة
بدأت بلديات الضاحية الجنوبية في نقل الردميات التي تعيق حركة السير في الطرقات العامة، حيث يتم حالياً إيداعها فوق أنقاض المباني المدمرة. ويقول رئيس اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية محمد ضرغام، إن “بلديات الضاحية الجنوبية ستلتزم فقط بقرار مجلس الوزراء مجتمعاً في هذا الشأن”.
يبرر ضرغام موقفه بالقول إن التعميم “غير واضح”، رافضاً في اتصال مع “درج” توضيح النقاط التي يراها غامضة في تعميم وزارة البيئة، علما أن التعميم المشار إليه يطلب الالتزام بالمعايير البيئية ويحدد مواقع “واضحة”، يمكن نقل الردميات إليها ممقتاً تمهيداً لمعالجتها لاحقاً. رفض ضرغام ومن خلفه الجهة السياسية التي يمثّلها، أي “حزب الله” وحركة “أمل”، يعزز المخاوف من مشروع لردم نفايات الردميات في بحر الأوزاعي.
مع العلم أن هذه الحلول البيئية لا تترتب عليها أي تكاليف مادية إضافية، بل على العكس، فإن عمليات إعادة التدوير تساهم في تقليص تكاليف إعادة البناء، من خلال تشجيع استخدام المواد المعاد تدويرها في مشاريع إعادة الإعمار، وذلك يؤكده الخبراء البيئيون والمنظمات المختصة، كما أوردت كل من منظمتي “غرينبيس” و”ائتلاف إدارة النفايات” في بيان مشترك.
مواد مسرطنة في الهواء والتربة
يشير الدكتور محمد أبيض إلى أن وزارة البيئة ستبدأ في المرحلة المقبلة بأخذ عينات من المواقع المتضررة من القصف، وإجراء الفحوصات المخبرية بالتعاون مع مختبر البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت. الهدف هو تحديد طبيعة المواد الكيميائية السامة الموجودة في هذه العينات بشكل دقيق. وفي تقديراته الأولية، يلفت أبيض إلى أن “الانفجارات العنيفة الناتجة عن الغارات الإسرائيلية، قد أدت إلى انتشار كميات كبيرة من المواد السامة، بما في ذلك الجسيمات الدقيقة التي تتناثر في الهواء، والتي قد تبقى في التربة والمياه لفترات طويلة، مثل الرصاص، الأرسنيك، النيكل، والباريوم. هذه المواد، التي يُحتمل أن تستمر في البيئة لسنوات، قد تكون موجودة حتى منذ حرب تموز 2006”.
الانفجارات الناجمة عن الغارات يمكن أن تُطلق كميات كبيرة من المعادن الثقيلة السامة، مثل الرصاص والأرسنيك والنيكل والباريوم، إلى البيئة. هذه المعادن تبقى لفترات طويلة في التربة والمياه، مما يعرض السكان المحليين لخطر كبير عند استنشاق الغبار أو تناول الماء الملوث، يمكن أن يتراكم الرصاص في الجسم ويسبب مشاكل صحية خطيرة، بما في ذلك السرطان، خصوصاً في الرئة والكبد، وهو ما أكدته دراسات مثل تلك المنشورة في Journal of Environmental Health.
الأرسنيك، من جهته، يُعتبر مادة مسرطنة من الدرجة الأولى من قبل الوكالة الدولية لبحوث السرطان (IARC) ويزيد التعرض له من خطر الإصابة بسرطان الرئة والمثانة، وفقاً لدراسات نشرتها American Journal of Epidemiology. النيكل أيضاً يُعد من المواد المسرطنة، حيث يرتبط التعرض المزمن له بزيادة خطر الإصابة بسرطان الرئة، وهو ما تم تأكيده من قبل National Cancer Institute. بينما الباريوم، على الرغم من كونه أقل سمية من بعض المعادن الأخرى، لكنه يمكن أن يزيد من خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان عند التعرض طويل الأمد. لذا، يُعتبر التلوث الناتج عن الغارات خطراً بيئياً وصحياً كبيراً، ويجب معالجته بطرق مستدامة لضمان صحة وسلامة السكان.
يلفت المستشار أبيض إلى أن الأشخاص الذين تعرضوا لاستنشاق المواد السامة بشكل مباشر، مثل سكان المناطق القريبة من المواقع المستهدفة بالهجمات أو الأفراد الذين اقتربوا من الأبنية المدمرة بغرض التصوير، معرضون بشكل كبير للإصابة بالأمراض المسرطنة. بالإضافة إلى الجسيمات الدقيقة التي تتطاير في الهواء نتيجة الغبار، فإن الحرائق الناتجة عن الانفجارات تؤدي إلى إطلاق جزيئات البلاستيك والكرتون، مما يسهم في نشر مواد مسرطنة مثل الديوكسينات وتدهور جودة الهواء بشكل كبير. تتأثر بشكل خاص الفئات السكانية التي تعيش بالقرب من مواقع الانفجارات.
بينما جزء من هذه المواد ينتشر في الهواء ويتلاشى، فإن القسم المتبقي منها يتسرب إلى الأراضي الزراعية، حيث يمكن أن تمتصها النباتات، وخاصة الورقيات، مما يشكل تهديداً لسلامة الغذاء، ويحوله إلى غذاء مسرطن.
سبق لوزارة البيئة أن قدمت ملف حرق الأراضي الزراعية في جنوب لبنان إلى مؤتمر البيئة والمناخ الذي انعقد في دبي نهاية العام الماضي، وذلك قبل أن يتوسع العدوان الإسرائيلي ليطال كل لبنان. فمنذ الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر وحتى كانون الثاني/ يناير من العام 2023، شهد جنوب لبنان في غضون ثلاثة أشهر فقط احتراق أكثر من 500 هكتار من الأراضي الخضراء، وهو ما يُعرف بسياسة الأرض المحروقة التي اعتمدها الجيش الإسرائيلي. ويُوضح وزير البيئة ناصر ياسين أن هذه العمليات تمت باستخدام قنابل حارقة مضيئة وفسفورية، عمدت إسرائيل من خلالها إلى إحراق مساحات واسعة من الأراضي الخضراء، بما في ذلك الأحراش والأراضي الزراعية وأشجار الزيتون المعمرة، مع الإشارة إلى أن “المركز الوطني للبحوث العلمية” قد نشر خرائط توضح المواقع المستهدفة.
وقد أظهر التقييم الأولي للآثار البيئية لهذه الحرائق، أن الفاتورة البيئية تشمل تدمير الأراضي الزراعية وتلوث البيئة الكيميائي، بالإضافة إلى التلوث الناتج عن المخلفات المتفجرة التي تؤدي إلى فقدان خصوبة الأرض. كما أدى استخدام القصف الفسفوري إلى تلوث المحاصيل والمياه السطحية والجوفية. هذا التلوث لا يقتصر تأثيره على الأراضي الزراعية فقط، بل يمتد أيضاً ليطال الأنظمة الإيكولوجية الطبيعية، مما يتسبب في وفاة الثدييات والطيور والأسماك. علاوة على ذلك، تعرضت الشبكات المائية لتدمير كبير، مما ينذر بانتشار الأمراض المنقولة عبر المياه، وهو ما يشكل تهديداً إضافياً على صحة البيئة والمجتمع.
بعد توسع نطاق العدوان الإسرائيلي وتواصل القصف الجوي وحرق الأراضي في كامل جنوب لبنان، وصولاً إلى ضاحية بيروت الجنوبية، ثم قصف منطقة البقاع (شرق لبنان) المعروفة بسهولها الشاسعة وأراضيها الزراعية، تتضح بشكل جليّ الأبعاد البيئية المدمرة لهذا العدوان. ففي حين كان هناك احتراق لنحو 500 هكتار من الأراضي الخضراء في الأشهر الأولى من العدوان، فقد تكثفت الأضرار البيئية بشكل هائل لتشمل مساحات أكبر بكثير اليوم، مما يعني أن الإبادة البيئية التي كانت تقتصر على الجنوب اللبناني باتت تطال مناطق واسعة من لبنان، مما يشير إلى أضرار بيئية على مستوى غير مسبوق.
يشير تقرير صادر عن البنك الدولي حول تأثيرات الحرب، إلى أن المناطق القريبة من الحدود الجنوبية تكبدت الجزء الأكبر من الأضرار والخسائر المتعلقة بالمحاصيل والثروة الحيوانية. فقد بلغت قيمة الأضرار المباشرة في المحاصيل الزراعية نحو 25 مليون دولار أميركي، في حين وصلت خسائر الدخل إلى 601 مليون دولار أميركي خلال 12 شهراً. وفي ما يخص مزارع الموز، تقدّر الخسائر بنحو 353 مليون دولار بسبب الأضرار المستمرة وصعوبة الوصول إلى المزارع التي تقع على طول الساحل بين صور وصيدا. أما بالنسبة لأشجار الزيتون، فمن المتوقع أن يتسبب تعطيل عملية الحصاد بسبب القصف والنزوح في خسائر تقدر بنحو 58 مليون دولار، إضافة إلى تدمير 12% من بساتين الزيتون في المناطق التي تم تقييمها. كما تضرر إنتاج الحمضيات، إذ بلغت الخسائر حوالي 16 مليون دولار.
كذلك، تسببت الحرب في أضرار كبيرة للمحاصيل الأخرى مثل البطاطا والخضروات، حيث تأثر 23% من الحقول في المناطق التي شملها التقييم، مما أدى إلى خسائر تقدر بنحو 111 مليون دولار أميركي. كما تعرضت مزارع أخرى للأضرار، مثل البساتين المختلطة وحقول التبغ، بالإضافة إلى تدمير 16% من مزارع الكروم. أما في ما يتعلق بالثروة الحيوانية، فقد بلغت الخسائر نحو 99 مليون دولار أميركي، في حين بلغت الخسائر الكلية 533 مليون دولار أميركي، مما أثر بشكل خاص على الأبقار والدواجن والأغنام والماعز. كانت الخسائر الأكبر من نصيب الدواجن التي بلغت 297 مليون دولار، تليها الماشية التي بلغت خسائرها 154 مليون دولار. يضاف إلى ذلك، أن الوضع تفاقم بسبب الاضطرابات في إمدادات الأعلاف والتخلي عن القطعان نتيجة عمليات الإخلاء، مما يجعل عملية التعافي أكثر تعقيداً في المستقبل. ومن المتوقع أن يستغرق التعافي الكامل للقطاع الزراعي ما يصل إلى ثلاث سنوات.
على الصعيد البيئي، تسببت الحرب في أضرار كبيرة لبيئة لبنان، حيث طالت 13% من الغابات و16% من المراعي و17% من النظم الإيكولوجية النهرية في المناطق التي تم تقييمها. في محافظة الجنوب فقط، تضرر 14% من الساحل، كما تعرضت البنية التحتية الخاصة بإدارة النفايات الصلبة، بما في ذلك حاويات النفايات والشاحنات، لأضرار قدرت بحوالي 3.1 مليون دولار أميركي. كما تكبدت مرافق إدارة النفايات أضراراً تجاوزت 0.4 مليون دولار أميركي. من المتوقع أن يؤدي تراجع أداء النظم الإيكولوجية إلى تعطيل عمليات تنقية المياه وجودة الهواء وخصوبة التربة.
تتركز الخسائر المقدرة بنحو 214 مليون دولار أميركي على خدمات النظم الإيكولوجية المعتمدة على الموارد الطبيعية (بنحو 198 مليون دولار أميركي) وكذلك خدمات إدارة النفايات الصلبة (نحو 16 مليون دولار أميركي). تسببت الاضطرابات في خدمات النظم الإيكولوجية في خسائر سنوية تقدر بنحو 198 مليون دولار، تشمل 163 مليون دولار خسائر في النظم الإيكولوجية النهرية، و28 مليون دولار في النظم الإيكولوجية الساحلية، و4 ملايين دولار في خدمات النظم الإيكولوجية للغابات والمراعي. أما الخسائر في إدارة النفايات الصلبة فتعود إلى فقدان الإيرادات من أنشطة إعادة التدوير (بنحو 3 ملايين دولار سنوياً) والتكاليف الإضافية الناتجة عن إدارة النفايات بسبب النزوح (نحو 13 مليون دولار سنوياً).
الكارثة البيئية “المؤجلة”: تلويث مصادر المياه
يشير مستشار وزير الصحة ومدير مختبرات البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت إلى أن “المواد الكيميائية السامة لا تزال موجودة في المسطحات المائية وعلى التربة”، ويرجح أن “آثار التلوث على مصادر المياه لن تتضح إلا بعد انتهاء موسم الأمطار وذوبان الثلوج في الربيع المقبل”، معرباً عن أمله في “نجاح الحكومة في معالجة هذا الملف البيئي بطريقة سليمة لتقليل الأضرار البيئية قدر الإمكان في المرحلة المقبلة”.
وقد حصل “درج” بالتعاون مع “مبادرة غربال” على تقارير نتائج مخبرية أجرتها المصلحة الوطنية لنهر الليطاني على عينات مياه في مناطق الخردلي، الغندورية، طيرفلسيه والقاسمية جنوب لبنان، وقد سجل الفسفور والفوسفات في كافة نقاط الاعتيان في الحوض الأدنى لنهر الليطاني، أرقاماً تبلغ حوالي 20 مرة ضعف معدلها خلال الخمس سنوات الماضية بحسب نتائج التقرير. وهذا الارتفاع الخطر لمادة الفوسفات جعل من مياه الحوض الأدنى للنهر غير قابلة للاستخدام، وتحذّر المصلحة من تهديد جديد للنهر يتمثّل في التلوث الكيميائي، يُضاف إلى التلوث الجرثومي الناتج عن تحويل مياه الصرف الصحي إليه.
إن الأزمة البيئية المستجدة التي تم رصدها بشكل واضح في نهر الليطاني، تستدعي التحرك الفوري، بحسب مصلحة الليطاني، لتحليل شامل لكافة مصادر المياه في الجنوب اللبناني. فالتلوث لا يصيب فقط الأنهار والمسطحات المائية، بل يمكن أن يطال المياه الجوفية والينابيع بفعل التفاعلات الكيميائية، مما يمكن أن يحمل خطراً صحياً جسيماً على سكان الجنوب اللبناني وكل المناطق التي طالها القصف الإسرائيلي.
من المهم الإشارة إلى أن الخطورة تكمن في أن 90% من مياه الآبار والأنهار والينابيع في المناطق الممتدة من ارتفاع 1800 متر عن سطح البحر وصولاً إلى البحر، ملوّثة، وفقاً لدراسة أُجريت أواخر العام 2022 من قبل مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية في لبنان. هذه المياه الملوثة كانت السبب في انتشار مرض الكوليرا خلال الصيف الماضي، مما أدى إلى تصنيف لبنان ضمن “دائرة الخطر الشديد العالي” من قبل منظمة الصحة العالمية. كما تسببت هذه المياه في انتشار فيروس الكبد الوبائي، وهي تستخدم لري المزروعات، مما يزيد من خطورة الوضع.
تعد الأرقام المتعلقة بتلوث المياه في لبنان مقلقة للغاية، حيث يمكن أن تنسحب هذه المشكلة إلى العديد من المناطق في لبنان بسبب عدم معالجة الصرف الصحي. في بعض المناطق الساحلية، يختلط مخزون المياه الجوفية بمياه الصرف الصحي مباشرة، مما يزيد من تفاقم الوضع البيئي والصحي.
في مواجهة هذا الواقع الصعب، يُلاحظ أن من بين أكثر من 80 محطة تكرير موزعة في كافة أنحاء لبنان، هناك عدد قليل فقط من المحطات التي تعمل بشكل فعال. وهذا يعكس فشلاً في تنفيذ مشاريع الصرف الصحي بالرغم من أن لبنان أنفق ما يقارب 1.5 مليار دولار، بين عامي 2001 و2020 على هذه المشاريع، وهو مبلغ كبير بالنسبة لدولة صغيرة مثل لبنان.
حتى المحطات العاملة في لبنان أغلب شبكاتها غير متصلة بكافة القرى والبلدات المحيطة بها، مما يعني أن هذه المحطات، برغم عملها، لا تستقبل مخلفات الصرف الصحي من العديد من المناطق المحيطة بها.
اليوم، يضاف إلى اختلاط المياه الجوفية بمياه الصرف الصحي خطر وصول مواد كيميائية مسرطنة وخطرة إلى المياه، نتيجة عجز محطات تكرير المياه عن معالجتها بشكل كاف. يعود هذا العجز إلى غياب المحطات في بعض المناطق أو تعطلها بشكل متكرر. بالإضافة إلى ذلك، تعاني مؤسسات المياه في لبنان من مشكلة هدر تصل إلى 43% من المياه، وذلك بسبب تسريبات المياه الناتجة عن غياب الصيانة المستمرة وعدم تحديث البنية التحتية. هذه المشكلات مجتمعة تؤدي إلى تفاقم أزمة المياه في لبنان، مع تأثيرات سلبية كبيرة على الصحة العامة والبيئة.
–
هذا التحقيق تم إنجازه في إطار مشروع “الحق في الوصول إلى المعلومات والقضايا البيئية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ” بدعم من منظمة “المادة 19”
إقرأوا أيضاً: