تزوّج حبيبي بعد سفري إلى روما، لكنني لم أكرهه، بل كرهت زوجته، ليس بدافع الحسد والغيرة، إنما لأنها كانت صديقتي منذ الطفولة، والشاهدة على قصة حبي الطويلة.
شيطان الغيرة أغواها، فاستغلّت غيابي، ونصبت لحبيبي فخاً محكماً، وتمكّنت من خطفه منّي، الله لا يسامحها.
كرهتها؛ مع أني أحاذر الوصول إلى هذا الشعور في علاقاتي، حتى امتلأ قلبي حقداً عليها، وعذري معي، فلقد تسببت لي بألم عاطفي لا شفاء منه، وكم أتمنّى لو ينالها ألم تعجز عن مداواته؛ مع أني أحاذر الوصول إلى هذا الشعور في أمنياتي، كالألم الذي سبّبته لي، أو أن تنشقّ الأرض وتبتلعها، فأرتاح من خلقتها.
قبل أن تسرقه مني، لم أكن شريرة كما أبدو لكم الآن، كنت فتاة بريئة، طيبة، مسالمة “البسينة بتاكل عشاها”، لكن محنة فقدان حبّ عمري، فاقت قدرتي على الاحتمال، فتحوّلت إلى وحش حرفياً. لهذا، لا أخجل من الإفصاح عن كرهي لها، أمام أي كان، حتى أمام أقاربها وأصدقائها، الذين ينقلون إليها بأمانة، كل ما يسمعونه مني.
أحياناً، أتوجّس من أن يعتاد قلبي على مشاعر الكره، فأقرر أن أنسى وأسامح، وفي ليالي الجمعة، أجلس على السطح، ليصلني صوت القارئ الجميل، وهو يتلو دعاء كميل عبر ميكروفون الحسينية، فأستسلم لعذوبة المناجاة، وتحلّق بي نحو عالم نوراني ليس فيه خيانات ولا عذابات.
ما عدا ليلة الجمعة، أقود على مدى أيام الأسبوع ولياليه، صراعاً شرساً في داخلي بين مشاعر الحب والكره، ساعة أرفع صوتي بالدعاء عليها، وأتمنّى أن يعلّقها الله من قلبها على غصن شجرة الزقوم في جهنم، وساعة يجتاحني رعب إنساني، من أن تكون أبواب السماء مفتوحة، فتستجيب لطلباتي الشريرة، فأتراجع فوراً.
أحيانا أخرى، أتسلّى لشدة خيبتي، فأفعل كما تفعل الساحرات الشريرات في قصص الأطفال، ألتفت إلى مرآتي، وأسألها: Mirror, Mirror on the Wall, Who’s the Fairest of Them All?
فأسمعها تجيبني: “أنت أجمل وأهضم منها، ولا مجال للمقارنة بينكما”، فأتشجّع وأنزل ببطء إلى الأرض أمام المرأة، أجلس بوضعية اليوغا، أرفع عيني وأقرأ فيهما: أنت طبيبة ناجحة، وامرأة مستقلّة، ومثقّفة، وثريّة، وحرّة، وبنت ناس وعالم، وتتقنين ثلاث لغات غير العربية، وطبّاخة ماهرة، ومنذ سافرت إلى روما وأصبحت طليانية، صرت أكثر جمالاً وجاذبية، وصار لك عدد كبير من المعجبين، بأسلوب حياتك وأناقتك ولفظك الجذّاب لأسماء الأكلات الإيطالية: ألفريدو وروزيتو وفوكاتشا وبروشيتا وتيراميسو، ومهارتك في إعدادها في مطبخك العامر بالطيّبات على أنغام Lasciatemi cantare.
أما غريمتك “خطّافة الرجال”، فبشعة من الخارج كما الداخل. لها أنف واسع المسامات مثل حبة فريز بذرة أميركية، وبشرة ملأى بالتصبّغات وآثار حبّ الشباب، وشعر غير صحّي، وأسنان صفراء بارزة.
هل ينبغي أن أذكّرك أنك بعكسها في كل شيء، أنت امرأة شهية، أما هي فشكلها يسدّ النفس، برغم اعتنائها بجسمها، وبرغم كسلك وكيلوغراماتك الزائدة مؤخراً. أنظري إلى استداراتك الممتلئة نعمة، وتلكما الكتلتين الدافئتين اللتين نبتتا على خصرك coussins d’amour كما تسمّينهما بالفرنسية، وانظري إليها طويلة مثل زرافة، ونحيفة مثل عود كبريت.
وهي؛ والحكي بيناتنا، بخيلة “بتموت على القرش”، تدّك كل ما تجنيه بـ”القصبة”، حتى إنها لا تساهم مع زوجها في مصروف البيت! بينما أنت تصرفين كل شهر، ثروة جرّارة على السفر والسهر والشوبينغ وصنع الحلويات الإيطالية.
أنت صادقة وعفوية، وهي كاذبة، وكل حركاتها مصطنعة، من لعب دور الزوجة السعيدة، والكنّة الأصيلة، إلى الإصرار على التحدّث مع أطفالها بإنكليزية مضحكة، والعمل from home لمنح بيتها أكثر وقت ممكن، إلى ادّعائها بأن نحافتها المرضية جهد شخصي، وبأنها تمارس الرياضة يومياً، وتتجنّب السكريّات والكاربس في طعامها، وتتّبع نظام الصيام المتقطّع.
كلما عاد “الفالنتين”، أحسّ أن غدرها ما زال حياً، وأودّ لو أنها تجيبني بصراحة عن أسئلة كثيرة تقهرني من جوّا، كيف طاوعها قلبها أن تخدعني، أنا التي أمّنتها على أسراري؟ ولماذا كانت متفانية إلى هذا الحد، في ترتيب لقاءاتنا وتسهيلها وتغطية غيابنا؟ هل كانت مذاك تضمر لي شرّاً لم ألحظه؟ أم أن هناك من دفعها دفعاً إلى هذا التصرّف؟ هل كان له دور كما كان لأمه وأمها؟
وطمعاً في إيجاد إجابات شافية، أتقمّص دور المحقّق البوليسي، أرسم في خيالي مسرح الجريمة، أسمّي المتّهمين أولاً، ثم أرتّب الأدوات والظروف والأحداث بحسب تسلسلها الزمني وأهميتها، وأعيد تمثيل كل مشهد فيها.
تزوّج حبيبي بعد سفري إلى روما، لكنني لم أكرهه، بل كرهت زوجته، ليس بدافع الحسد والغيرة، إنما لأنها كانت صديقتي منذ الطفولة، والشاهدة على قصة حبي الطويلة.
خالي الشيوعي، عاشق أنطونيو غرامشي ومونيكا بيلوتشي بلا تفاضل بينهما، الذي كانت له علاقات طيبة مع اليسار الإيطالي، نصحني ذات يوم، بتعلّم لغة الطليان الرومانسية، في المعهد الإيطالي في صيدا،على أن يتدبّر لي بعد أن أُنهي الدورات، منحة لدارسة الطبّ في روما.
ويا لطيف، ماذا جرى بعد انتشار الخبر، جُنّت أمك، وطوّلت لسانها عليّ وعلى عائلتي، وأعلنت معارضتها للمشروع أمام نساء الحي،
وقالت حرفياً: “أنا ما بيعجبني تفكير الشيوعية”، ونقلت عنها إحدى جاراتنا قولها: “لو عندن شهامة ما بيخلوها تسافر لوحدها، بناتي ما سمحتلهن يتعلموا ببيروت، من شو بتشكي جامعة صيدا؟ شو الكنيسة القريبة ما بتشفي؟”.
وأنت اسم الله عليك، وافقت على كل تصريحات الوالدة، لم أسمع منك استنكاراً ولا إدانة، وكأنه كان همّك أن “تقصقص جوانحي”، فالغيرة من الفرصة التي سنحت لي، أعمت بصرك وبصيرتك، وحين التقينا لنناقش الأمر، صرّخت كثيراً عليّ، وهدّدتني بقطع العلاقة… لا أنا تراجعت ولا أنت! ذكوريتك الفائضة منعتك من الاعتراف بحقّي في انتهاز فرصتي الخاصة، فإما أن تتهيأ لك فرصة مماثلة، وإما أن أرفض فرصتي. صراحة، صعقني تفكيرك وأسفت على أيامي التي راحت في حبّك على الفاضي، لكنني بقيت أحبك.
وسافرت في صباح اليوم التالي، وكنا على خصام، واشتغلت زوجتك المصون، التي كانت لا تزال صديقتي، عميلاً مزدوجاً، فكانت تقتصد في نقل أخبارك لي، وتبهّر أخباري التي تنقلها إليك، وشيئاً فشيئاً صارت تنسحب، حتى غابت تماماً، كانت في هذه المرحلة قد حاكت آخر قطبة في مؤامرة خطفك بمساعدة أمك وأمها.
وأنا على هبلي، ظننت أنني أتعبتها بمشاكلي، كما ظننت أن البعد سيجعلك تحنّ لأيامنا الجميلة، فتتّصل نادماً، لكنك طنّشت.
لاحقاً، استسلمت لفكرة أن علاقتنا عاشت أكثر مما ينبغي، وأننا من صنف العشاق الذين تنتهي علاقاتهم بقلوب محطّمة.
وتراكمت مسافات الجفاء بيننا حتى صار يرعى الغزال فيها، أنت في النبطية وأنا في روما، أنت تحضّر سراً لعرسك، وأنا أصل الليل بالنهار، درساً وعملاً وانشغالات تافهة. كان فراغ الويك آند وأيام العطل الطويلة كالأحكام العرفية، أركن فيها إلى ذكريات حبنا، أبكي وأضحك وأسترجع مشاعر أيامنا الحلوة بأغاني أم كلثوم “كان لك معايا أجمل حكاية”…
تذكّرت يوم نجحنا أنا وسناء شقيقتك في “الترمينال” بدرجة جيد جداً، فقرّرت عمتي الحاجة حياة، التي تقود النساء في “حملة البتول” لزيارة العتبات المقدّسة، أن تهدينا زيارة الإمام علي في النجف.
وفي المقام، تعلّقت بحدائد الضريح ودعوت: “اللهم زدني حباً وتعلّقاً به”، واشتريت لك من السوق الكبير “خاتم النجمة”، وربطته بشريطة خضراء وطوّفته حول القفص، وسمّيته الخاتم المقدّس. بعدما رجعنا، زرت سناء، ولمحتك جالساً على المرجوحة في الدار، وكدت أقع أرضاً، حين رأيت “خاتم النجمة” يلمع في إصبعك.
تذكّرت يوم اختارتك لجنة الحسينية، من بين كل المتقدّمين لتؤدي دور العبّاس في مسرحية عاشوراء، فعزمتني على ترويقة فول في مطعم “الكومودور” في سوق النبطية، واشترينا نظارات شمسية من سوق الاثنين ماركة Ray-Ban السورية، ورافقتك إلى كل البروفات، وصرت أناديك بلقب العبّاس “قمر بني هاشم”، حتى أني طبعت العبارة على “ماغ”، وأهديتك إيّاه في عيد ميلادك.
ثم طوى البحر المتوسط خبر زواجك، فقطعت دراستي وعدت، كنت سأموت لوعة لو بقيت وحدي في روما، على المطار ارتميت في حضن أمي ناحبة، حزينة حدّ الانكسار.
في الطريق إلى النبطية، كان حديد السيارة يئن لوجع قلبي، وجه أبي اختفت تفاصيله، أمي تبكي بصمت، وصوت عمتي حياة يرجف، وهي تصدح بـ”فراقيّاتها”الشجية:
“حبابي أوعدوا وبالوعد حلّوا
عليي يحرموا وللغير حلّوا
عليي نذر لو بالدار حلّوا
تا إزرع كل طرقانن عشاب”
سنتان من حياتي، أهملت فيهما دراستي وساعات ستاجي ومهنتي المستقبلية، أمضيتهما وأنا أفتّش عن نصائح وإرشادات، تساعدني على الخروج من صدمة ما بعد الخيانة، وكم قرأت كتباً ودراسات ومقالات وتجارب عن الموضوع: كيف تجعلينه يندم، ارتبطي برجل أفضل منه، اهتمّي بجمالك وأناقتك ومظهرك، سافري، طوّري نفسك ومهنتك، ابتعدي عن الأماكن التي يرتادها، مارسي هواية ممتعة، تعلّمي مهارة جديدة، اقتني كلباً… لم ينفعني شيء.
أهدرت ساعات طويلة أحكي وأبكي في العيادات النفسية، جرّبت أنواعاً كثيرة من المهدّئات، تداويت بالأعشاب، بالتأمّل، استعنت بالتصوّف، غرقت في الروحانيات، صنعت لي جدتي حجاباً حشته بكل ما تحفظه من التعاويذ والرقى، تركت نسخة من القرآن قرب سريري، مفتوحة على سورة “ياسين” أياماً وليالي، قصدت سانت ريتا في كاسيا، أضأت عندها شموعاً كثيرة، وأشعلت أعواد البخور حتى احترقت أطراف أصابعي مثل قلبي، سافرت إلى الهند وإلى بالي، كما فعلت جوليا روبرتس في فيلم eat, pray, love.
ولم أستطع نسيانك… لم أخرج من مستنقع الاكتئاب، إلا بعدما كبر حزني حتى أصبح أشجاراً، وبعدما تركت لنفسي أن تزعل ما تشاء.
في فالنتين هذا العام، أعترف أن محنة حبك جعلتني امرأة أخرى، لم أكن أعرف أنها موجودة في داخلي، امرأة متخفّفة من كل أحمال الحب والتعلّق وهموم العلاقات العاطفية.
أما ذكرياتي هذه، فليست سوى مشاهد مصوّرة، يسترجعها عقلي الباطن في لحظات غير واعية، ومؤخراً، هي عبارة عن صراع هورموني داخلي، فأنا على مقربة من الدخول في مرحلة menopause لا تبشّر بالخير! سأحرص فيها على القيام بأفعال ستة فقط: العمل، السفر، الطبخ، القراءة، النوم والنسيان…
إقرأوا أيضاً: