fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

تذكّر بوش (الأب) عربيّاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الرئيس الأميركيّ جورج هيربرت بوش، الذي رحل قبل أيّام قليلة، خلّف أثرين مهمّين على السياسات العربيّة: في العراق وفي فلسطين – إسرائيل. لكنْ بغضّ النظر عن فرز الإيجابيّ عن السلبيّ في تأثيراته، يبقى من الضروريّ، أوّلاً، أن يشار إلى أنّه كان آخر رئيس يمثّل التقليد الوسطيّ الجمهوريّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الرئيس الأميركيّ جورج هيربرت بوش، الذي رحل قبل أيّام قليلة، خلّف أثرين مهمّين على السياسات العربيّة: في العراق وفي فلسطين – إسرائيل. لكنْ بغضّ النظر عن فرز الإيجابيّ عن السلبيّ في تأثيراته، يبقى من الضروريّ، أوّلاً، أن يشار إلى أنّه كان آخر رئيس يمثّل التقليد الوسطيّ الجمهوريّ. فهو منذ كان نائباً للرئيس رونالد ريغان (الذي نافسه على الترشّح الجمهوريّ في 1980) عبّر عن التقليد المذكور الذي يحاول كبح جماح اليمين الجمهوريّ المتطرّف الذي كان ريغان بطله.

لقد شهدت رئاسة بوش الأب (1988 – 1992) انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، بحيث وقّع مع آخر الرؤساء السوفيات، ميخائيل غورباتشوف، معاهدة “ستارت” (معاهدة خفض السلاح الاستراتيجيّ) في صيف 1991، ثمّ أعلن، مع الرئيس الروسيّ بوريس يلتسن، عن “الشراكة الاستراتيجيّة الأميركيّة الروسيّة” التي اعتُبرت النهاية الفعليّة للحرب الباردة.

ومن ضمن هذا التصوّر لعالم يكون أقلّ توتّراً، وأكثر نزعاً لأسباب الحروب، كان تدخّله الكبير في الصراع الفلسطينيّ/ العربيّ – الإسرائيليّ.

فهو رفض الموافقة على تقديم ضمانات لقرض بقيمة عشرة بلايين دولار طلبَه رئيس حكومة إسرائيل يومذاك، اسحق شامير، بهدف المساعدة على استيعاب الهجرة اليهوديّة من الاتّحاد السوفياتيّ.

أهمّ من ذلك أنّه بمطالبته الدولة العبريّة بتجميد بناء الاستيطان كشرط للموافقة على القرض، مارس، للمرّة الأولى، ربط المساعدة الأميركيّة لتلّ أبيب بخطوات انفراجيّة تخطوها الأخيرة. وبالفعل ففي العام نفسه، 1991، باشر وزير خارجيّته جيمس بايكر جولات مكّوكيّة دامت ثمانية أشهر وتأدّى عنها انعقاد “مؤتمر مدريد” برعاية مشتركة من بوش وغورباتشوف. لكنْ لئن قضت الصيغة الممكنة يومذاك بحضور الفلسطينيّين من ضمن الوفد الأردنيّ، فإنّ “مؤتمر مدريد” ومناخ التواصل الذي أحدثه كانا السبب المؤسّس لـ “اتفاقيّة أوسلو” للسلام الفلسطينيّ – الإسرائيليّ في 1993، ولـ “معاهدة وادي عربة” بين إسرائيل والأردن بعد عام واحد.

هذا السلوك هو ما نرى اليوم نقيضه في سياسة دونالد ترامب الفلسطينيّة والإسرائيليّة. فقد جاء نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس والتخلّي عن دعم “وكالة أونروا”، فضلاً عمّا بات متواتراً حول “صفقة قرن” أحاديّة وظالمة، لتوفّر وقوداً جديداً للنزاعات والكراهية، وقوداً قد يتجاوز ما سبقه من عوامل التسعير.

 

فهو رفض الموافقة على تقديم ضمانات لقرض بقيمة عشرة بلايين دولار طلبَه رئيس حكومة إسرائيل يومذاك، اسحق شامير، بهدف المساعدة على استيعاب الهجرة اليهوديّة من الاتّحاد السوفياتيّ.  أهمّ من ذلك أنّه بمطالبته الدولة العبريّة بتجميد بناء الاستيطان كشرط للموافقة على القرض، مارس، للمرّة الأولى، ربط المساعدة الأميركيّة لتلّ أبيب بخطوات انفراجيّة تخطوها الأخيرة

 

المداخلة العربيّة الأخرى لبوش الأب كانت بالطبع حرب تحرير الكويت في 1991، بعدما غزاها صدّام حسين في صيف العام السابق. ففضلاً عن الانتصار العسكريّ الساحق والسريع على من أراد، بكثير من البَلَه والعجرفة، الجلوس في المقعد الذي خلّفه الانهيار السوفياتيّ، دلّت إدارة بوش الأب عن براعة سياسيّة وديبلوماسيّة مسنودة بسنوات خبرته المديدة في العمل السياسيّ. ذاك أنّه مهّد للعمليّة العسكريّة التي باتت تُعرف بـ “عاصفة الصحراء”، بجهد ديبلوماسيّ تأدّى عنه إنشاء تحالف ضمّ 34 دولة، وكان الحلفَ العسكريّ الأكبر منذ الحرب العالميّة الثانية. هكذا أمكن حشد قوّات عسكريّة قارب عددها المليون جنديّ، ثلاثة أرباعهم أميركيّون.

إلى ذلك، فبعد تحرير الكويت، امتنع بوش عن الزحف إلى بغداد لاقتلاع صدّام، عملاً بما طالب به عراقيّون وغير عراقيّين كثيرين، مكتفياً بإقامة منطقة حظر جويّ في شمال العراق. ولئن كانت السياسات الكبرى لا تخلو من نذالات كبرى، فإنّ النذالة الكبرى لتلك التجربة جسّدها ترك المنتفضين العراقيّين في الجنوب، ممّن دعاهم بوش الأب إلى الانتفاض، من دون أيّ غطاء أو ضمانة.

وكما تصحّ المقارنة بين سياستي بوش الأب وترامب في الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، تصحّ المقارنة بين سياسته وسياسة نجله جورج دبليو بوش في الموضوع العراقيّ. فبخبرة سياسيّة معدومة، وبمعرفة فولكلوريّة وضحلة بالعراق، وعبر أكاذيب أريد منها التستّر على ضعف المبرّرات القانونيّة للحرب، وفي ظلّ خلاف وتوتّر شابا العلاقة مع حلفاء كفرنسا وألمانيا، شنّ بوش الابن حربه على العراق في 2003. يومها طغى التقدير الإيديولوجيّ لـ “المحافظين الجدد”، ضدّاً على مشورة بوش الأب، بحيث سادت صورة مبسّطة تقول إنّ العراقيّين موحّدون في رغبتهم إطاحة صدّام حسين وفي تعلّقهم بالديمقراطيّة، لا ينقصهم إلاّ حضور الجنود الأميركيّين لتثبيتها. لقد انعكس هذا التفاؤل نقصاً في الإعداد العسكريّ الأميركيّ وفي عدد الجنود الذين أرسلوا إلى بغداد وهم يتوقّعون أن يُستقبَلوا بالورد والأرزّ. أمّا ما حصل في العراق بعد ذاك فمعروف جيّداً.

إنّ أكثر ما يحفظ سيرة بوش الأب وصورته أنّه لم يكن إيديولوجيّاً. تجربتاه العربيّتان تقولان ذلك، وتتركان التفاصيل لمعالجات أخرى.

 

إقرأ أيضاً:

الشعبويون إذ يدمرون البيئة أيضاً

وللذكر مثل حظ .. الأنثى

03.12.2018
زمن القراءة: 4 minutes

الرئيس الأميركيّ جورج هيربرت بوش، الذي رحل قبل أيّام قليلة، خلّف أثرين مهمّين على السياسات العربيّة: في العراق وفي فلسطين – إسرائيل. لكنْ بغضّ النظر عن فرز الإيجابيّ عن السلبيّ في تأثيراته، يبقى من الضروريّ، أوّلاً، أن يشار إلى أنّه كان آخر رئيس يمثّل التقليد الوسطيّ الجمهوريّ.

الرئيس الأميركيّ جورج هيربرت بوش، الذي رحل قبل أيّام قليلة، خلّف أثرين مهمّين على السياسات العربيّة: في العراق وفي فلسطين – إسرائيل. لكنْ بغضّ النظر عن فرز الإيجابيّ عن السلبيّ في تأثيراته، يبقى من الضروريّ، أوّلاً، أن يشار إلى أنّه كان آخر رئيس يمثّل التقليد الوسطيّ الجمهوريّ. فهو منذ كان نائباً للرئيس رونالد ريغان (الذي نافسه على الترشّح الجمهوريّ في 1980) عبّر عن التقليد المذكور الذي يحاول كبح جماح اليمين الجمهوريّ المتطرّف الذي كان ريغان بطله.

لقد شهدت رئاسة بوش الأب (1988 – 1992) انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، بحيث وقّع مع آخر الرؤساء السوفيات، ميخائيل غورباتشوف، معاهدة “ستارت” (معاهدة خفض السلاح الاستراتيجيّ) في صيف 1991، ثمّ أعلن، مع الرئيس الروسيّ بوريس يلتسن، عن “الشراكة الاستراتيجيّة الأميركيّة الروسيّة” التي اعتُبرت النهاية الفعليّة للحرب الباردة.

ومن ضمن هذا التصوّر لعالم يكون أقلّ توتّراً، وأكثر نزعاً لأسباب الحروب، كان تدخّله الكبير في الصراع الفلسطينيّ/ العربيّ – الإسرائيليّ.

فهو رفض الموافقة على تقديم ضمانات لقرض بقيمة عشرة بلايين دولار طلبَه رئيس حكومة إسرائيل يومذاك، اسحق شامير، بهدف المساعدة على استيعاب الهجرة اليهوديّة من الاتّحاد السوفياتيّ.

أهمّ من ذلك أنّه بمطالبته الدولة العبريّة بتجميد بناء الاستيطان كشرط للموافقة على القرض، مارس، للمرّة الأولى، ربط المساعدة الأميركيّة لتلّ أبيب بخطوات انفراجيّة تخطوها الأخيرة. وبالفعل ففي العام نفسه، 1991، باشر وزير خارجيّته جيمس بايكر جولات مكّوكيّة دامت ثمانية أشهر وتأدّى عنها انعقاد “مؤتمر مدريد” برعاية مشتركة من بوش وغورباتشوف. لكنْ لئن قضت الصيغة الممكنة يومذاك بحضور الفلسطينيّين من ضمن الوفد الأردنيّ، فإنّ “مؤتمر مدريد” ومناخ التواصل الذي أحدثه كانا السبب المؤسّس لـ “اتفاقيّة أوسلو” للسلام الفلسطينيّ – الإسرائيليّ في 1993، ولـ “معاهدة وادي عربة” بين إسرائيل والأردن بعد عام واحد.

هذا السلوك هو ما نرى اليوم نقيضه في سياسة دونالد ترامب الفلسطينيّة والإسرائيليّة. فقد جاء نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس والتخلّي عن دعم “وكالة أونروا”، فضلاً عمّا بات متواتراً حول “صفقة قرن” أحاديّة وظالمة، لتوفّر وقوداً جديداً للنزاعات والكراهية، وقوداً قد يتجاوز ما سبقه من عوامل التسعير.

 

فهو رفض الموافقة على تقديم ضمانات لقرض بقيمة عشرة بلايين دولار طلبَه رئيس حكومة إسرائيل يومذاك، اسحق شامير، بهدف المساعدة على استيعاب الهجرة اليهوديّة من الاتّحاد السوفياتيّ.  أهمّ من ذلك أنّه بمطالبته الدولة العبريّة بتجميد بناء الاستيطان كشرط للموافقة على القرض، مارس، للمرّة الأولى، ربط المساعدة الأميركيّة لتلّ أبيب بخطوات انفراجيّة تخطوها الأخيرة

 

المداخلة العربيّة الأخرى لبوش الأب كانت بالطبع حرب تحرير الكويت في 1991، بعدما غزاها صدّام حسين في صيف العام السابق. ففضلاً عن الانتصار العسكريّ الساحق والسريع على من أراد، بكثير من البَلَه والعجرفة، الجلوس في المقعد الذي خلّفه الانهيار السوفياتيّ، دلّت إدارة بوش الأب عن براعة سياسيّة وديبلوماسيّة مسنودة بسنوات خبرته المديدة في العمل السياسيّ. ذاك أنّه مهّد للعمليّة العسكريّة التي باتت تُعرف بـ “عاصفة الصحراء”، بجهد ديبلوماسيّ تأدّى عنه إنشاء تحالف ضمّ 34 دولة، وكان الحلفَ العسكريّ الأكبر منذ الحرب العالميّة الثانية. هكذا أمكن حشد قوّات عسكريّة قارب عددها المليون جنديّ، ثلاثة أرباعهم أميركيّون.

إلى ذلك، فبعد تحرير الكويت، امتنع بوش عن الزحف إلى بغداد لاقتلاع صدّام، عملاً بما طالب به عراقيّون وغير عراقيّين كثيرين، مكتفياً بإقامة منطقة حظر جويّ في شمال العراق. ولئن كانت السياسات الكبرى لا تخلو من نذالات كبرى، فإنّ النذالة الكبرى لتلك التجربة جسّدها ترك المنتفضين العراقيّين في الجنوب، ممّن دعاهم بوش الأب إلى الانتفاض، من دون أيّ غطاء أو ضمانة.

وكما تصحّ المقارنة بين سياستي بوش الأب وترامب في الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، تصحّ المقارنة بين سياسته وسياسة نجله جورج دبليو بوش في الموضوع العراقيّ. فبخبرة سياسيّة معدومة، وبمعرفة فولكلوريّة وضحلة بالعراق، وعبر أكاذيب أريد منها التستّر على ضعف المبرّرات القانونيّة للحرب، وفي ظلّ خلاف وتوتّر شابا العلاقة مع حلفاء كفرنسا وألمانيا، شنّ بوش الابن حربه على العراق في 2003. يومها طغى التقدير الإيديولوجيّ لـ “المحافظين الجدد”، ضدّاً على مشورة بوش الأب، بحيث سادت صورة مبسّطة تقول إنّ العراقيّين موحّدون في رغبتهم إطاحة صدّام حسين وفي تعلّقهم بالديمقراطيّة، لا ينقصهم إلاّ حضور الجنود الأميركيّين لتثبيتها. لقد انعكس هذا التفاؤل نقصاً في الإعداد العسكريّ الأميركيّ وفي عدد الجنود الذين أرسلوا إلى بغداد وهم يتوقّعون أن يُستقبَلوا بالورد والأرزّ. أمّا ما حصل في العراق بعد ذاك فمعروف جيّداً.

إنّ أكثر ما يحفظ سيرة بوش الأب وصورته أنّه لم يكن إيديولوجيّاً. تجربتاه العربيّتان تقولان ذلك، وتتركان التفاصيل لمعالجات أخرى.

 

إقرأ أيضاً:

الشعبويون إذ يدمرون البيئة أيضاً

وللذكر مثل حظ .. الأنثى