منذ إعلان ترامب عن مكالمته الهاتفية مع بوتين، والتي دامت أكثر من ساعة ونصف الساعة، وأكرانيا وأوروبا لا يهدأ لهما بال. البعض يتحدث عن هزيمة بعد ثلاث سنوات من انطلاق الحرب الأوكرانية – الروسية، والبعض الآخر يفضّل انتظار ما ستسفر عنه المفاوضات بين العملاقين الأميركي والروسي.
لكن تواتر تصريحات المسؤولين في الإدارة الأميركية الجديدة يؤكد نية ترامب عقد صفقة مع نظيره الروسي تفضي إلى إنهاء الحرب وتسليمه الأراضي الأوكرانية المحتلة (20 بالمائة من أوكرانيا)، من دون أية ضمانات لكييف بعدم عودة الروس لاحتلال ما تبقى منها في المستقبل، أي أنه في الأخير، سيحقق لبوتين كل ما حلم به من خلال هذا الصراع: استسلام القوات الأوكرانية والتسليم بالأمر الواقع على الأرض وتبخّر أحلام أوكرانيا بالانضمام الى حلف شمال الأطلسي لضمان أمنها. والأهم من هذا كله، إعادة روسيا إلى مجموعة السبع ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
هكذا جاءت تصريحات ترامب مثل الدش البارد لحلفائه التقليديين، وزادت في تعميق أثرها الصادم انتقادات نائبه، جيمس ديفيد فانس، اللاذعة للأوروبيين، خلال مؤتمر ميونيخ حول الأمن، في ما اعتبره “تراجعاً لحرية التعبير في أوروبا” وتدخلها “السافر” في الانتخابات في رومانيا، في حين لم يتطرق إلى المسألة الأوكرانية وإلى كيفية مساهمة الولايات المتحدة في إنهاء الحرب.
فجأة وجدت أوروبا ومن ورائها أوكرانيا نفسهيما وحيدتين أمام مصيرهما، وتحديداً أمام العدو الروسي الذي لا ينوي التراجع عما احتلّه من الأراضي الأوكرانية، وله مطامع حتى في تجاوز هذه الحدود والتقدم نحو الغرب لاحتلال أراضٍ أخرى قد تتجاوز أوكرانيا نفسها.
لكن اللافت في هذا كله، أن الولايات المتحدة قلبت رأساً على عقب النظام الدفاعي الأوروبي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت هي من تتولى الدفاع عن أوروبا وتدعم بشكل كبير حلف الناتو، ففي سياسة ترامب الجديدة، كل من يريد الانتفاع من خدمات بلاده العسكرية يجب أن يدفع، بما فيها أوكرانيا التي يعتبر الرئيس الأميركي أنها حصلت على دعم كبير عسكري ومالي من دون أن تقدم شيئاً لبلاده. من هنا، أتت مطالبته زيلينسكي بتمكينه من الحصول على 50 في المئة من المعادن التي تحتويها الأراضي الأوكرانية وفتحها للاستثمار الأميركي.
إقرأوا أيضاً:
سارع الأوروبيون تحت آثار الصدمة إلى عقد سلسة من الاجتماعات، كان أولها في باريس للتشاور، حول الرد على هذا التحول المفاجئ والراديكالي في موقف الإدارة الأميركية الجديدة. تم الحديث عن إرسال قوات على الأرض لحماية أوكرانيا في حال انتهت الحرب باتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين الأوكراني والروسي. لكن المحادثات أثبتت الانقسام الأوروبي في ما يخص هذه المسألة. فلئن كانت فرنسا وبريطانيا متحمستين للفكرة، فإن باقي البلدان الأوروبية التي شاركت في هذه المحادثات لم تبدِ استعداداً لذلك مثل ألمانيا وبولونيا. وعاد الحديث مرة أخرى حول ضرورة الترفيع في النفقات العسكرية لكل دولة عضو داخل حلف الناتو، الأمر الذي رفضته دول أعضاء عدة.
في الأثناء، لم يتوقف ترامب عن إصدار تصريحاته النارية ضد أوروبا وأوكرانيا، بخاصة عندما تحدث عن عدم تشريك الأوروبيين في مفاوضات السلام مع روسيا، أو عندما صرّح بأن حضور الرئيس الأوكراني ليس بالأمر الضروري. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل اتهم زيلينسكي بأنه “دكتاتور” وأنه “فاقد للشعبية في بلاده”، محدثاً حالة من الصدمة لدى الشعب الأوكراني.
ما يمكن أن نستشفّه من هذا كله أن ترامب يعتمد الاستراتيجية نفسها التي يتبعها دائماً للحصول على ما يريد. أولاً، يرفع سقف مطالبه عبر تصريحات صادمة يضغط من خلالها على الطرف المقابل، ويواصل الضغط ليجبره على الاستجابة لمطالبه. والمرجح هنا أن الرئيس الأميركي يريد الضغط على أوروبا لتتحمّل مسؤولية أكثر في ما يخص الصراع الأوكراني-الروسي، من حيث تغطية نفقات إنهاء الحرب ونشر قوات على الأرض بعد اتفاق وقف إطلاق النار.
لكن في الجانب المقابل، لا تبدو أوروبا جاهزة لتحمّل هذا العبء، فحسب تصريحات الخبراء، لن تستطيع إرسال أكثر من 25 ألف مقاتل كأقصى حد، في حين تطالبها أوكرانيا لضمان أمنها بإرسال 200 ألف مقاتل، كما أنه سيكون من الصعب الاتفاق حول حصة كل بلد أوروبي وحول من سيقود هذه القوات.
من جهتها، أوكرانيا أيضاً لا تستجيب بسهولة لمطالب ترامب، إذ إن الرئيس الأوكراني رفض أن يوقع على الاتفاق الذي حمله له ممثل الإدارة الأميركية إلى كييف للتخلّي عن استغلال نصف المعادن الثمينة في أوكرانيا لفائدة الولايات المتحدة، ما دامت هذه الاخيرة لم توفر له ضمانات لحماية بلده من اعتداءات روسية في المستقبل، وهو ما أثار حنق ترامب، الذي كال له مجموعة من الاتهامات من ضمنها اتهامه “بالدكتاتور”.
هي إذا معركة كسر عظام بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين، لم تفض في الوقت الحالي إلى نتيحة واضحة. لكن الرابح الأكبر فيها يبقى بوتين الذي يشهد الانقسام الغربي وضعفه في مواجهة مطامحه التوسعية. وتدفع أوكرانيا فاتورة باهظة الثمن من دون أي ضمانات مستقبلية لأمنها.