fbpx

ترامب وأدوات الديكتاتور العربي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الواقع أن وصف ترامب الدائم لرأي كل من يعارضه، بعبارة “أخبار كاذبة”، سيبقى إلى الأبد في ذاكرة المنتمين إلى المجتمعات المعرفية، الذين شعروا للمرة الأولى في الولايات المتحدة بالإحباط والهزيمة والتجاهل التام خلال فترة توليه منصبه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اقتحم حشد من مؤيدي ترامب مبنى الكابيتول خلال جلسة احتفالية لفرز أصوات المجمع الانتخابي والمصادقة على فوز الرئيس المنتخب جو بايدن. كانت هذه الحادثة الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة بأكمله، لكن الذين يعيشون في العالم العربي شعروا بأنها شديدة الشبه بما يحدث في أوطانهم.

سرعان ما انتشرت النكات والمقارنات على منصات التواصل الاجتماعي. وفي لبنان، تبادل الناس الدعابات حول أوجه التشابه بين أنصار ترامب وحشود “حزب الله” في الشوارع -ومؤيدي الجماعات الشبيهة في البلدان المجاورة- الذين غالباً ما يتسببون في الفوضى ويعرقلون الديموقراطية، وشعروا بأنهم في هذه اللحظة يتشاركون الإحساس ذاته بالعجز مع المواطنين الأميركيين. لكن خطاب الكراهية هذا وتأثيره في الجماهير، أمر غير جديد على الشرق الأوسط.

في الحقيقة، كانت تصرفات ترامب طوال فترة ولايته تشبه كثيراً تصرفات أيّ ديكتاتور عربي، وكانت الولايات المتحدة خلال سنوات حكمه الأربع تشبه نوعاً ما الأنظمة الاستبدادية التي نعرفها جيداً، ربما باستثناء الميزانية الأعلى بكثير. 

حينما شاهدت العنف، والغضب الذي يحرك هذه الحشود المتوجهة إلى مبنى الكابيتول الشهير لاقتحامه، لم يسعني سوى استحضار كلمات علاء الأسواني في كتابه “متلازمة الديكتاتورية”، الذي وضع فيه قائمة تحدد سمات الديكتاتور العربي، جاعلاً الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك محور دراسته، إلى جانب أمثلة أخرى لبعض الاستبداديين سيئي السمعة من العالمين العربي والغربي. عندما تصفحت الكتاب مرة أخرى، وجدت أن جميع الصفات المذكورة في قائمة سمات الدكتاتور تنطبق على ترامب.

نظرية المؤامرة

كتب علاء الأسواني، “حقق كافة الاستبداديين، دون استثناء، الذين وصلوا إلى السلطة خلال العصر الحديث نجاحاً باهراً من فكرة نظرية المؤامرة”. ووفقاً للأسواني، يستغل الديكتاتور نظرية المؤامرة لحصد الكثير من المزايا، وسنوضح في ما يلي الوسائل التي يستخدمها لتحقيق ذلك والتي ذكرها الأسواني في كتابه. 

أولاً، يتم تشويه صورة أيّ معارضٍ للزعيم، مع اعتباره خائناً للوطن، وهو ما يجعل من اليسير التحريض على كراهيته من دون قيد أو شرط.  يأتي هذا بالتزامن مع أداة خطيرة، تتمثل في بث الخوف في النفوس، لأن الذين يصدقون تلك التهم يخافون بالفعل من أن تؤتي هذه المؤامرة ثمارها وتنتصر عليهم، ومن أن تتضرر حياتهم بشدة.

يوضح الأسواني ذلك كاتباً، “سوف تستاء الجماهير -المسحورة بشخصية زعيمها والتي تؤمن بنظرية المؤامرة-  من  أفراد المعارضة أولئك، وسوف تحتقرهم بل وحتى ستقتلهم إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لأن المعارضة من وجهة نظرهم تتشكل من حفنة من الخونة والعملاء الذين يتآمرون على الأمة”.

من السهل تطبيق ذلك على الوضع في الولايات المتحدة: فقد حرض ترامب أتباعه على الديموقراطيين مراراً وتكراراً، ولجأ إلى الأيديولوجيا لجعل من يؤيدونه يصدقون حقاً أن من لا يتفق معهم في الرأي يريد أن يلحق ضرراً جسيماً بالوطن.

ثانياً، تكمن قوة نظرية المؤامرة في أنها تعفي الديكتاتور من أيّة مسؤولية عن جرائمه. فعندما يرتكب الديكتاتور أيّ خطأ، سوف يحيل السبب في هذا الفشل إلى تلك المؤامرة الكبرى، بغض النظر عن طبيعتها، وسوف “تتشبث الجماهير أكثر به، لأنه وحده القادر على مواجهة أولئك المتآمرين”. 

أفضل مثال على قيام ترامب بذلك هو طريقة تعامله مع أزمة “كورونا”، فقد خُلد فشله الذريع في محاربة الوباء: بدايةً من ثقته المفرطة التي لم تكن في محلها، إلى قمعه آراء خبراء الصحة وهوسه بالاقتصاد على حساب صحة مواطنيه. لكنه على رغم ذلك، أعفى نفسه كلياً من أيّ مسؤولية عندما صار من الجلي للغاية أن الولايات المتحدة تمر بأزمة صحية كبيرة. بل في المقابل اتهم الحكومة الصينية ومنظمة الصحة العالمية وكذلك الديموقراطيين “بالمبالغة في خطورة الفايروس”. وكانت فكرة تحويل الحوار إلى حظر السفر مع الصين فعالة بوجه خاص، فقد أبعدت الأنظار عن طريقة إدارته بالغة السوء للوضع وجعلتها تتمحور بدلاً من ذلك حول قراره “الشجاع” الذي سيجعل أميركا آمنة من “خطر” الأجانب. ووصف أيّ شيء ينطوي على توجيه أيّ نقد له بالمؤامرة التي يحيكها من يعتزمون إلحاق الضرر بالأمة، وكانت تلك هي طريقة تعامله مع الوضع خلال التصريحات التي أدلى بها بعد ذلك.

ثالثاً، قد تكون نظرية المؤامرة بالغة الخطورة إذا ما قُدمت ضمن هذا السياق، وهي أن تصبح ذريعة لتأجيل إرساء قواعد الديموقراطية في سبيل “الحماية” من حدوث ضرر محدق. أوضح الأسواني ذلك قائلاً، “عادةً ما يتحدث الديكتاتور بإسهاب حول الظروف التي تمر بها بلاده وكأن الظروف هي التي تعوق تحقيق الديموقراطية في الوقت الراهن”.

في الفترة التي أفضت إلى وقوع أحداث اقتحام مقر الكونغرس الأميركي، كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن مكالمة هاتفية استمرت ساعة، تحدث خلالها ترامب مع سكرتير ولاية جورجيا، وطلب منه مرات عدة إعادة إحصاء الأصوات، وأصرّ على وجود 11780 صوتاً مفقوداً. وعلى رغم أنه غني عن البيان أن جو بايدن انتخب من دون تحيّز ومن خلال المسار الديموقراطي، رئيساً للولايات المتحدة، فقد أصبحت نظرية المؤامرة التي يتبناها ترامب حول “الأصوات المفقودة” بالغة الأهمية ومثيرة للفوضى إلى الحد الذي جعل أتباعه يتنصلون من “الديموقراطية”، و”يثورون” تكريماً له.

فقد بدا ذلك جلياً في ما قاله ترامب لِسكرتير الولاية، مشدداً باستمرار على حدوث مؤامرة، “من المستحيل أن أكون قد خسرت الأصوات في جورجيا، لا يمكن أن يحدث ذلك بأي حال. فقد فزنا بفارق مئات الآلاف من الأصوات”.

فضلاً عما قاله ترامب في إحدى تغريداته يوم اقتحم أنصاره مبنى الكونغرس الأميركي، “الولايات تريد إعادة التصويت، لقد اكتشفوا أنهم صوتوا بناءً على احتيال وتزوير، والمجالس التشريعية لم توافق أبداً. دعوهم يصوتون مجدداً. كونوا أقوياء!”.

الاضطراب الفكري

يقول الأسواني في كتابه، “عندما يصل الديكتاتور إلى السلطة، يعزل المفكرين والمثقفين من واجبهم الطبيعي في تنوير العقول وتوفير الزخم اللازم للنشاط الفكري”. مضيفاً أنه “في المجتمع الاستبدادي، لا مجال لأي فكر جاد مستقل، وذلك لأن النشاط الفكري لا يؤتي ثماره إلا في المجتمع الحر”.

الواقع أن وصف ترامب الدائم لرأي كل من يعارضه، بعبارة “أخبار كاذبة”، سيبقى إلى الأبد في ذاكرة المنتمين إلى المجتمعات المعرفية، الذين شعروا للمرة الأولى في الولايات المتحدة بالإحباط والهزيمة والتجاهل التام خلال فترة توليه منصبه. فقد شن حرباً ضد الصحافيين، وشبه كل من يعارضه بأنه عدو؛ فقد أصبح المفكرون خونة يتعين كرههم لا تصديقهم. وقد فعل الشيء نفسه مع خبراء الصحة أثناء أزمة جائحة “كورونا”، وتلاعب بالحقائق العلمية وتجنب الاستماع إلى أي شخص يتمتع بأي خبرة في هذا المجال.

“عندما يصل الديكتاتور إلى السلطة، يعزل المفكرين والمثقفين من واجبهم الطبيعي في تنوير العقول وتوفير الزخم اللازم للنشاط الفكري”.

وراهناً كانت لجنة فرعية معنية بفايروس “كورونا” تابعة لمجلس النواب الأميركي أصدرت تقريراً يوثق تعرض العلماء للتجاهل أو تعديل مقترحاتهم لما يصل إلى 47 مرة. فضلاً عن أن ترامب هدد بأنه إذا أُعيد انتخابه فإنه سيُقيل الدكتور أنتوني فاوتشي، الذي يرأس المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية منذ عام 1984، وكثيراً ما كان يُعتبر صوت العقل والمنطق الوحيد خلال الجائحة في الولايات المتحدة (بعد الكثير من المناسبات التي شكك فيها ترامب في آراء فاوتشي على نحو خطير في ذروة الأزمة).

الواقع أن المفكرين لا مكان لهم في الأنظمة الاستبدادية، نظراً إلى أنهم قد ينفرون الجماهير بعيداً من دكتاتورِهم المخادع، ويوجهونهم نحو العقل، وهو ما يعتبر العدو المطلق في ظل أي نظام ديكتاتوري مُسيطر. إذ يعتمد الديكتاتور “الناجح” في حكمه على المشاعر لا المنطق.

يقول الأسواني، “إن الديكتاتور لا يخاطب أبداً العقل، بل يحاول التأثير في عواطف الجماهير الذين يذعنون تماماً لمشاعرهم، ولا يُعملون تفكيرهم، بل يتعاطفون مع الديكتاتور… وهذا يُعد شكلاً من أشكال التنويم المغناطيسي الجماعي”.

الديكتاتورية والإرهاب

كان لخطاب ترامب الذي اتسم دائماً بالكراهية والعداء وتوجيه الاتهامات عواقب وخيمة؛ تماماً مثلما كان للأنظمة الاستبدادية العربية أو القوى المحتلة، عواقب وخيمة فيما يتعلق ببزوغ عصر جديد من الإرهاب. إذ إن الاستمرار في التلاعب بالجماهير للاعتقاد بأن كل من هم خارج دائرة مؤيدي الزعيم يريدون إلحاق الأذى بهم، وأنهم لا حول لهم ولا قوة من دونه، من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى شعور مُهلك بأنهم ضحايا، واتخاذ موقف دفاعي فتاك. إن تصوير ترامب الدؤوب للمعارضة بوصفها متطرفة وخطيرة “ويسعون للنيل منا”، هي أداة تستخدمها نفس المجموعات التي يزعم ترامب أنها إرهابية في هذه المنطقة.

يقول علاء الأسواني في كتابه، “إن الشعور بالدونية، والظلم الاجتماعي، والإحساس باليأس وفقدان الأمل في التقدم المهني، جميعها عوامل مُهيِئة للإرهاب…”، مضيفاً “أن الرغبة في الانتقام من هذا الإذلال الذي تتعرض له يُشكل عاملاً مهيئاً للإرهاب”.

كان من السهل للغاية أن تمر جميع سنوات الضرر الذي ألحقه بسلام، لكن إذا كان جيشه من الإرهابيين قد نشأ على مدى فترة ولايته فقط، ومن خلال محاكاة مجموعة أدوات الديكتاتور العربي، فلك أن تتخيل ما جناه الرجال الذين يسيطرون على الحكم في الشرق الأوسط على مدى العقود الماضية. لقد تعلمنا من قصة ترامب مدى فعالية هذه الأساليب، ولكن السّؤال الذي لا زال مطروحاً الآن هو: كيف لنا أن نبدأ قلب الموازين؟

إقرأوا أيضاً:

ديانا مقلد - صحافية وكاتبة لبنانية | 08.10.2024

كي لا نشارك في الخديعة  

هناك من يقول ألا قيمة للنقاش ولا لرأينا في ظل ما يجري، ربما. لكن مع هذا، هو وقت النقاش الصريح، لا وقت الحذر والهرب منه. نعم ربما هي آراء لن تضع حداً للحرب لكنها بالحد الأدنى محاولة لعدم المشاركة في الخديعة التي تعاد صياغتها مجدداً على دم من قضوا وأرواحهم.

الواقع أن وصف ترامب الدائم لرأي كل من يعارضه، بعبارة “أخبار كاذبة”، سيبقى إلى الأبد في ذاكرة المنتمين إلى المجتمعات المعرفية، الذين شعروا للمرة الأولى في الولايات المتحدة بالإحباط والهزيمة والتجاهل التام خلال فترة توليه منصبه.

اقتحم حشد من مؤيدي ترامب مبنى الكابيتول خلال جلسة احتفالية لفرز أصوات المجمع الانتخابي والمصادقة على فوز الرئيس المنتخب جو بايدن. كانت هذه الحادثة الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة بأكمله، لكن الذين يعيشون في العالم العربي شعروا بأنها شديدة الشبه بما يحدث في أوطانهم.

سرعان ما انتشرت النكات والمقارنات على منصات التواصل الاجتماعي. وفي لبنان، تبادل الناس الدعابات حول أوجه التشابه بين أنصار ترامب وحشود “حزب الله” في الشوارع -ومؤيدي الجماعات الشبيهة في البلدان المجاورة- الذين غالباً ما يتسببون في الفوضى ويعرقلون الديموقراطية، وشعروا بأنهم في هذه اللحظة يتشاركون الإحساس ذاته بالعجز مع المواطنين الأميركيين. لكن خطاب الكراهية هذا وتأثيره في الجماهير، أمر غير جديد على الشرق الأوسط.

في الحقيقة، كانت تصرفات ترامب طوال فترة ولايته تشبه كثيراً تصرفات أيّ ديكتاتور عربي، وكانت الولايات المتحدة خلال سنوات حكمه الأربع تشبه نوعاً ما الأنظمة الاستبدادية التي نعرفها جيداً، ربما باستثناء الميزانية الأعلى بكثير. 

حينما شاهدت العنف، والغضب الذي يحرك هذه الحشود المتوجهة إلى مبنى الكابيتول الشهير لاقتحامه، لم يسعني سوى استحضار كلمات علاء الأسواني في كتابه “متلازمة الديكتاتورية”، الذي وضع فيه قائمة تحدد سمات الديكتاتور العربي، جاعلاً الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك محور دراسته، إلى جانب أمثلة أخرى لبعض الاستبداديين سيئي السمعة من العالمين العربي والغربي. عندما تصفحت الكتاب مرة أخرى، وجدت أن جميع الصفات المذكورة في قائمة سمات الدكتاتور تنطبق على ترامب.

نظرية المؤامرة

كتب علاء الأسواني، “حقق كافة الاستبداديين، دون استثناء، الذين وصلوا إلى السلطة خلال العصر الحديث نجاحاً باهراً من فكرة نظرية المؤامرة”. ووفقاً للأسواني، يستغل الديكتاتور نظرية المؤامرة لحصد الكثير من المزايا، وسنوضح في ما يلي الوسائل التي يستخدمها لتحقيق ذلك والتي ذكرها الأسواني في كتابه. 

أولاً، يتم تشويه صورة أيّ معارضٍ للزعيم، مع اعتباره خائناً للوطن، وهو ما يجعل من اليسير التحريض على كراهيته من دون قيد أو شرط.  يأتي هذا بالتزامن مع أداة خطيرة، تتمثل في بث الخوف في النفوس، لأن الذين يصدقون تلك التهم يخافون بالفعل من أن تؤتي هذه المؤامرة ثمارها وتنتصر عليهم، ومن أن تتضرر حياتهم بشدة.

يوضح الأسواني ذلك كاتباً، “سوف تستاء الجماهير -المسحورة بشخصية زعيمها والتي تؤمن بنظرية المؤامرة-  من  أفراد المعارضة أولئك، وسوف تحتقرهم بل وحتى ستقتلهم إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لأن المعارضة من وجهة نظرهم تتشكل من حفنة من الخونة والعملاء الذين يتآمرون على الأمة”.

من السهل تطبيق ذلك على الوضع في الولايات المتحدة: فقد حرض ترامب أتباعه على الديموقراطيين مراراً وتكراراً، ولجأ إلى الأيديولوجيا لجعل من يؤيدونه يصدقون حقاً أن من لا يتفق معهم في الرأي يريد أن يلحق ضرراً جسيماً بالوطن.

ثانياً، تكمن قوة نظرية المؤامرة في أنها تعفي الديكتاتور من أيّة مسؤولية عن جرائمه. فعندما يرتكب الديكتاتور أيّ خطأ، سوف يحيل السبب في هذا الفشل إلى تلك المؤامرة الكبرى، بغض النظر عن طبيعتها، وسوف “تتشبث الجماهير أكثر به، لأنه وحده القادر على مواجهة أولئك المتآمرين”. 

أفضل مثال على قيام ترامب بذلك هو طريقة تعامله مع أزمة “كورونا”، فقد خُلد فشله الذريع في محاربة الوباء: بدايةً من ثقته المفرطة التي لم تكن في محلها، إلى قمعه آراء خبراء الصحة وهوسه بالاقتصاد على حساب صحة مواطنيه. لكنه على رغم ذلك، أعفى نفسه كلياً من أيّ مسؤولية عندما صار من الجلي للغاية أن الولايات المتحدة تمر بأزمة صحية كبيرة. بل في المقابل اتهم الحكومة الصينية ومنظمة الصحة العالمية وكذلك الديموقراطيين “بالمبالغة في خطورة الفايروس”. وكانت فكرة تحويل الحوار إلى حظر السفر مع الصين فعالة بوجه خاص، فقد أبعدت الأنظار عن طريقة إدارته بالغة السوء للوضع وجعلتها تتمحور بدلاً من ذلك حول قراره “الشجاع” الذي سيجعل أميركا آمنة من “خطر” الأجانب. ووصف أيّ شيء ينطوي على توجيه أيّ نقد له بالمؤامرة التي يحيكها من يعتزمون إلحاق الضرر بالأمة، وكانت تلك هي طريقة تعامله مع الوضع خلال التصريحات التي أدلى بها بعد ذلك.

ثالثاً، قد تكون نظرية المؤامرة بالغة الخطورة إذا ما قُدمت ضمن هذا السياق، وهي أن تصبح ذريعة لتأجيل إرساء قواعد الديموقراطية في سبيل “الحماية” من حدوث ضرر محدق. أوضح الأسواني ذلك قائلاً، “عادةً ما يتحدث الديكتاتور بإسهاب حول الظروف التي تمر بها بلاده وكأن الظروف هي التي تعوق تحقيق الديموقراطية في الوقت الراهن”.

في الفترة التي أفضت إلى وقوع أحداث اقتحام مقر الكونغرس الأميركي، كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن مكالمة هاتفية استمرت ساعة، تحدث خلالها ترامب مع سكرتير ولاية جورجيا، وطلب منه مرات عدة إعادة إحصاء الأصوات، وأصرّ على وجود 11780 صوتاً مفقوداً. وعلى رغم أنه غني عن البيان أن جو بايدن انتخب من دون تحيّز ومن خلال المسار الديموقراطي، رئيساً للولايات المتحدة، فقد أصبحت نظرية المؤامرة التي يتبناها ترامب حول “الأصوات المفقودة” بالغة الأهمية ومثيرة للفوضى إلى الحد الذي جعل أتباعه يتنصلون من “الديموقراطية”، و”يثورون” تكريماً له.

فقد بدا ذلك جلياً في ما قاله ترامب لِسكرتير الولاية، مشدداً باستمرار على حدوث مؤامرة، “من المستحيل أن أكون قد خسرت الأصوات في جورجيا، لا يمكن أن يحدث ذلك بأي حال. فقد فزنا بفارق مئات الآلاف من الأصوات”.

فضلاً عما قاله ترامب في إحدى تغريداته يوم اقتحم أنصاره مبنى الكونغرس الأميركي، “الولايات تريد إعادة التصويت، لقد اكتشفوا أنهم صوتوا بناءً على احتيال وتزوير، والمجالس التشريعية لم توافق أبداً. دعوهم يصوتون مجدداً. كونوا أقوياء!”.

الاضطراب الفكري

يقول الأسواني في كتابه، “عندما يصل الديكتاتور إلى السلطة، يعزل المفكرين والمثقفين من واجبهم الطبيعي في تنوير العقول وتوفير الزخم اللازم للنشاط الفكري”. مضيفاً أنه “في المجتمع الاستبدادي، لا مجال لأي فكر جاد مستقل، وذلك لأن النشاط الفكري لا يؤتي ثماره إلا في المجتمع الحر”.

الواقع أن وصف ترامب الدائم لرأي كل من يعارضه، بعبارة “أخبار كاذبة”، سيبقى إلى الأبد في ذاكرة المنتمين إلى المجتمعات المعرفية، الذين شعروا للمرة الأولى في الولايات المتحدة بالإحباط والهزيمة والتجاهل التام خلال فترة توليه منصبه. فقد شن حرباً ضد الصحافيين، وشبه كل من يعارضه بأنه عدو؛ فقد أصبح المفكرون خونة يتعين كرههم لا تصديقهم. وقد فعل الشيء نفسه مع خبراء الصحة أثناء أزمة جائحة “كورونا”، وتلاعب بالحقائق العلمية وتجنب الاستماع إلى أي شخص يتمتع بأي خبرة في هذا المجال.

“عندما يصل الديكتاتور إلى السلطة، يعزل المفكرين والمثقفين من واجبهم الطبيعي في تنوير العقول وتوفير الزخم اللازم للنشاط الفكري”.

وراهناً كانت لجنة فرعية معنية بفايروس “كورونا” تابعة لمجلس النواب الأميركي أصدرت تقريراً يوثق تعرض العلماء للتجاهل أو تعديل مقترحاتهم لما يصل إلى 47 مرة. فضلاً عن أن ترامب هدد بأنه إذا أُعيد انتخابه فإنه سيُقيل الدكتور أنتوني فاوتشي، الذي يرأس المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية منذ عام 1984، وكثيراً ما كان يُعتبر صوت العقل والمنطق الوحيد خلال الجائحة في الولايات المتحدة (بعد الكثير من المناسبات التي شكك فيها ترامب في آراء فاوتشي على نحو خطير في ذروة الأزمة).

الواقع أن المفكرين لا مكان لهم في الأنظمة الاستبدادية، نظراً إلى أنهم قد ينفرون الجماهير بعيداً من دكتاتورِهم المخادع، ويوجهونهم نحو العقل، وهو ما يعتبر العدو المطلق في ظل أي نظام ديكتاتوري مُسيطر. إذ يعتمد الديكتاتور “الناجح” في حكمه على المشاعر لا المنطق.

يقول الأسواني، “إن الديكتاتور لا يخاطب أبداً العقل، بل يحاول التأثير في عواطف الجماهير الذين يذعنون تماماً لمشاعرهم، ولا يُعملون تفكيرهم، بل يتعاطفون مع الديكتاتور… وهذا يُعد شكلاً من أشكال التنويم المغناطيسي الجماعي”.

الديكتاتورية والإرهاب

كان لخطاب ترامب الذي اتسم دائماً بالكراهية والعداء وتوجيه الاتهامات عواقب وخيمة؛ تماماً مثلما كان للأنظمة الاستبدادية العربية أو القوى المحتلة، عواقب وخيمة فيما يتعلق ببزوغ عصر جديد من الإرهاب. إذ إن الاستمرار في التلاعب بالجماهير للاعتقاد بأن كل من هم خارج دائرة مؤيدي الزعيم يريدون إلحاق الأذى بهم، وأنهم لا حول لهم ولا قوة من دونه، من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى شعور مُهلك بأنهم ضحايا، واتخاذ موقف دفاعي فتاك. إن تصوير ترامب الدؤوب للمعارضة بوصفها متطرفة وخطيرة “ويسعون للنيل منا”، هي أداة تستخدمها نفس المجموعات التي يزعم ترامب أنها إرهابية في هذه المنطقة.

يقول علاء الأسواني في كتابه، “إن الشعور بالدونية، والظلم الاجتماعي، والإحساس باليأس وفقدان الأمل في التقدم المهني، جميعها عوامل مُهيِئة للإرهاب…”، مضيفاً “أن الرغبة في الانتقام من هذا الإذلال الذي تتعرض له يُشكل عاملاً مهيئاً للإرهاب”.

كان من السهل للغاية أن تمر جميع سنوات الضرر الذي ألحقه بسلام، لكن إذا كان جيشه من الإرهابيين قد نشأ على مدى فترة ولايته فقط، ومن خلال محاكاة مجموعة أدوات الديكتاتور العربي، فلك أن تتخيل ما جناه الرجال الذين يسيطرون على الحكم في الشرق الأوسط على مدى العقود الماضية. لقد تعلمنا من قصة ترامب مدى فعالية هذه الأساليب، ولكن السّؤال الذي لا زال مطروحاً الآن هو: كيف لنا أن نبدأ قلب الموازين؟

إقرأوا أيضاً: