fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

ترف الانهيار المؤقت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أنا هنا أم لا؟ لا يهمّ، أمام هذه الشاشة البيضاء، وأمام هذا الجسد الذي يتداعى، وأمام الروتين الذي لا يرحم… في الخارج، العالم ينهار بوتيرته المعتادة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل السادسة مساءً بقليل، وفي مشهدية سينمائية تعود إلى أوائل القرن العشرين، كانت اللحظة الأكثر إعياءً والأكثر سخرية، أمسك طبيبي النفسي الهاتف اللاسلكي وضغط الأزرار. ممسكٌ بكوب الشاي، على وجهه ابتسامة بلهاء، ربما لم تكن كذلك فعلاً، لكن هذا ما استشعرته، رنّ لأخي وبدأ: “مسا الخير كيفك، معك الدكتور فلاني طبيب أختك النفسي، بتمنى تكون منيح…”، ومن دون إفساح المجال لتبادل الحديث في البداية، أكمل الطبيب: “أختك قدامي، وهيي كتير حزينة، وعندها أفكار سودا، بحاجة تكون العيلة والمحبين حدّها، وواجبي كطبيبها إني بلّغك…”.

الصحيح أنني لم أرغب في ذلك، لكن وجدتني تحت ضغطه من دون مفرّ. أكمل بعدها من دون أن أستمع جيداً، إذ إن تدفّق الأصوات في رأسي مع رؤيتي للمشهدية في العيادة، حال دون تمكّني من فهم أية كلمة. بعد توقيعي على ورقة تؤكّد عدم رغبتي في الذهاب إلى المستشفى، وأنه قد أبلغني بالفعل بذلك، خرجت… مطر غزير، وإذ بي أجد أخي على مدخل المبنى ينتظرني مبتسماً.

نسيت الوقت عنده، لم أتمكّن من معرفة كم الساعة، وكأن الوقت بدا هشّاً مع الأصوات في رأسي. أحضرت الدواء الجديد القوي الذي “ح يخليكي أقل ارتباك ومرخية وتخف هالأفكار”، حسب قوله. بلعتها مع ما تبقّى من الحبوب التي آخذها ونمت. لدي عمل غداً، هل يمكنني أخذ عطلة مرّة أخرى؟ كيف تبدو الحياة عند باقي “المرضى” في حالاتهم الحادّة، التي لا يمكنك حقاً معرفة متى تحدث. يحدث أن أنهار في وقت الدوام، يحدث أن يستيقظ “المرضى” من دون القوة لأخذ نفسٍ واحد، يحدث أن تحدث الأمور هكذا. 

استيقظت، لم أكن أعلم أكنت نائمة فعلاً أم لا، حدّقت مطوّلاً بالحائط الملتصق بسريري، لم أحرّك ساكناً لبضع دقائق، ثم استرقت النظر لأتأكّد إذا ما بدأ دوام عملي أم لا، كانت السادسة وثلاث عشرة دقيقة. مرّ الليل طويلاً، لكنني لم أكن أفهم ما يحدث حقاً، رسائل كثيرة، أشخاص غريبون يقتحمون غرفتي، بحركات ميكانيكية، استجمعت قواي وجلست: أكلّ ما كان حقيقة؟ أم مجرد خيال؟

لديّ الكثير من الوقت ليبدأ العمل، أجلس عادةً في غرفتي وأفتح الحاسوب على طاولتي الملتصقة هي الأخرى بسريري قبله، لأستمع إلى الموسيقى، ولأبتلع السجائر من دون أن أعدّها، لكن منذ أسابيع قليلة، بدأت معدتي بالانهيار معي. كنت أتناول القليل من السلطة مساءً، إذا ما سمعت صوتها، وبدأت تجرّ بي لأطعمها. لكن الآن، الآن مختلف بعض الشيء، بدأت هذه المعدة الهشّة تشعر بالألم لمجرّد شربي القهوة، أو ابتلاع حبوبي الصباحية، لم يحدث هذا سابقاً. حتى إذا ما أكلت، بدت وكأنها لم تعد تتقبّل أيّ زائرٍ كان، رافضة كل شيء. لا يهمّ، إذ إن الجسد يخون، ولكن العمل لا ينتظر. كلّ ما كان يشغلني بحقّ هو العمل، كيف لي أن أجلس على الكرسي وجسدي يرتعش؟ أو أفتح عينيّ المنتفختين أمام الشاشة؟ وكيف أتحكّم بمفاتيح الحاسوب ويداي ترتجفان؟ لكن لا يهمّ، إذ إن الجسد يخون، ولكن العمل لا ينتظر.

أتذكّر كيف كنت أقاوم في البداية. للسخرية لا أزال، لكن مع أقلّ شغف وأمل. سقف فوق رأسي كان يُعفيني من المسؤوليات، ويصدح رأسي في حينها كيف وكما يشاء من دون الخوف من المواعيد. كان بإمكاني النوم بضع ساعات والنهوض وكأن شيئاً لم يكن. كنت أبتسم في الاجتماعات، وأحافظ على تماسك الجمل أثناء الحديث. كيف كنت أقنع نفسي أن هذا مجرد تعب مؤقت؟ وأن خروجي إلى العالم الخارجي، قد يكون ممتلئاً بشيء ما، شيء مختلف؟ كنت أعلم أن الإرهاق جزء لا يتجزّأ من الحياة، لكن الخوض في زواريب الحياة للنجاة لم يكن في بالي. لكن الإرهاق لم يكن مجرد تعب، كان حفرة تتوسّع، وكانت الأيام تصبّ فيها ثقلاً لم أعد أحتمله، بعد كلّ ما حصل من تنقّل وتشرّد وإعياءٍ من رتابة اليوميات.

أنا هنا أم لا؟ لا يهمّ، أمام هذه الشاشة البيضاء، وأمام هذا الجسد الذي يتداعى، وأمام الروتين الذي لا يرحم… في الخارج، العالم ينهار بوتيرته المعتادة. الأخبار تتحدث عن “الأمل”، لكن لا شيء جديد حقاً. الهجرة، انقطاع الكهرباء، الناس الذين يواصلون العيش كما لو أن هذه الفوضى هي الحياة الطبيعية، وكأننا جميعاً ننتظر أن يتحسّن شيء لا نعرف ما هو، ولا متى سيحدث.

في الداخل، المنزل ليس أكثر رحمة، الحديث ذاته يتكرر: “ألا تريدين الزواج؟ ما زلت صغيرة، يمكنك العمل أكثر… كل الناس عندها مشاكل… كلنا تعبانين… نحن مش أحسن من غيرنا… بدنا نقول الحمدلله”، وكأننا مجرد امتداد طبيعي للأزمات، مجرد أفراد يُتوقع منهم أن يتكيّفوا كما يتكيّف الجميع، أن يجدوا طريقة لمواصلة العمل حتى عندما ينهار الجسد، أن يبتسموا في وجه الحياة التي لا تبتسم أبداً.

كل شيء يدفعك إلى البقاء في مكانك، إلى الثبات، وكأن الانحراف عن هذه الحياة المُعطّلة في بلد نظامه أشبه ما يكون بنظام بلد، هو الجريمة الحقيقية. أن تتوقف عن العمل، أن تتوقف عن الصمت، أن تقول إنك لم تعد تحتمل… هذا هو الشيء غير الطبيعي. لكن الحقيقة أن هذا التآكل البطيء في الاستمرار في العيش، فقط لأن الحياة لا تمنح خياراً آخر، هو تطبيع ما بعده تطبيع؛ لم يعد محمولاً. هذا الركض الدائم ليس لأننا بخير، بل لأنه لا خيار آخر متاح، لا أحد يعرف متى أو كيف يرسو في حال أقل دماراً.

22.02.2025
زمن القراءة: 4 minutes

أنا هنا أم لا؟ لا يهمّ، أمام هذه الشاشة البيضاء، وأمام هذا الجسد الذي يتداعى، وأمام الروتين الذي لا يرحم… في الخارج، العالم ينهار بوتيرته المعتادة.

قبل السادسة مساءً بقليل، وفي مشهدية سينمائية تعود إلى أوائل القرن العشرين، كانت اللحظة الأكثر إعياءً والأكثر سخرية، أمسك طبيبي النفسي الهاتف اللاسلكي وضغط الأزرار. ممسكٌ بكوب الشاي، على وجهه ابتسامة بلهاء، ربما لم تكن كذلك فعلاً، لكن هذا ما استشعرته، رنّ لأخي وبدأ: “مسا الخير كيفك، معك الدكتور فلاني طبيب أختك النفسي، بتمنى تكون منيح…”، ومن دون إفساح المجال لتبادل الحديث في البداية، أكمل الطبيب: “أختك قدامي، وهيي كتير حزينة، وعندها أفكار سودا، بحاجة تكون العيلة والمحبين حدّها، وواجبي كطبيبها إني بلّغك…”.

الصحيح أنني لم أرغب في ذلك، لكن وجدتني تحت ضغطه من دون مفرّ. أكمل بعدها من دون أن أستمع جيداً، إذ إن تدفّق الأصوات في رأسي مع رؤيتي للمشهدية في العيادة، حال دون تمكّني من فهم أية كلمة. بعد توقيعي على ورقة تؤكّد عدم رغبتي في الذهاب إلى المستشفى، وأنه قد أبلغني بالفعل بذلك، خرجت… مطر غزير، وإذ بي أجد أخي على مدخل المبنى ينتظرني مبتسماً.

نسيت الوقت عنده، لم أتمكّن من معرفة كم الساعة، وكأن الوقت بدا هشّاً مع الأصوات في رأسي. أحضرت الدواء الجديد القوي الذي “ح يخليكي أقل ارتباك ومرخية وتخف هالأفكار”، حسب قوله. بلعتها مع ما تبقّى من الحبوب التي آخذها ونمت. لدي عمل غداً، هل يمكنني أخذ عطلة مرّة أخرى؟ كيف تبدو الحياة عند باقي “المرضى” في حالاتهم الحادّة، التي لا يمكنك حقاً معرفة متى تحدث. يحدث أن أنهار في وقت الدوام، يحدث أن يستيقظ “المرضى” من دون القوة لأخذ نفسٍ واحد، يحدث أن تحدث الأمور هكذا. 

استيقظت، لم أكن أعلم أكنت نائمة فعلاً أم لا، حدّقت مطوّلاً بالحائط الملتصق بسريري، لم أحرّك ساكناً لبضع دقائق، ثم استرقت النظر لأتأكّد إذا ما بدأ دوام عملي أم لا، كانت السادسة وثلاث عشرة دقيقة. مرّ الليل طويلاً، لكنني لم أكن أفهم ما يحدث حقاً، رسائل كثيرة، أشخاص غريبون يقتحمون غرفتي، بحركات ميكانيكية، استجمعت قواي وجلست: أكلّ ما كان حقيقة؟ أم مجرد خيال؟

لديّ الكثير من الوقت ليبدأ العمل، أجلس عادةً في غرفتي وأفتح الحاسوب على طاولتي الملتصقة هي الأخرى بسريري قبله، لأستمع إلى الموسيقى، ولأبتلع السجائر من دون أن أعدّها، لكن منذ أسابيع قليلة، بدأت معدتي بالانهيار معي. كنت أتناول القليل من السلطة مساءً، إذا ما سمعت صوتها، وبدأت تجرّ بي لأطعمها. لكن الآن، الآن مختلف بعض الشيء، بدأت هذه المعدة الهشّة تشعر بالألم لمجرّد شربي القهوة، أو ابتلاع حبوبي الصباحية، لم يحدث هذا سابقاً. حتى إذا ما أكلت، بدت وكأنها لم تعد تتقبّل أيّ زائرٍ كان، رافضة كل شيء. لا يهمّ، إذ إن الجسد يخون، ولكن العمل لا ينتظر. كلّ ما كان يشغلني بحقّ هو العمل، كيف لي أن أجلس على الكرسي وجسدي يرتعش؟ أو أفتح عينيّ المنتفختين أمام الشاشة؟ وكيف أتحكّم بمفاتيح الحاسوب ويداي ترتجفان؟ لكن لا يهمّ، إذ إن الجسد يخون، ولكن العمل لا ينتظر.

أتذكّر كيف كنت أقاوم في البداية. للسخرية لا أزال، لكن مع أقلّ شغف وأمل. سقف فوق رأسي كان يُعفيني من المسؤوليات، ويصدح رأسي في حينها كيف وكما يشاء من دون الخوف من المواعيد. كان بإمكاني النوم بضع ساعات والنهوض وكأن شيئاً لم يكن. كنت أبتسم في الاجتماعات، وأحافظ على تماسك الجمل أثناء الحديث. كيف كنت أقنع نفسي أن هذا مجرد تعب مؤقت؟ وأن خروجي إلى العالم الخارجي، قد يكون ممتلئاً بشيء ما، شيء مختلف؟ كنت أعلم أن الإرهاق جزء لا يتجزّأ من الحياة، لكن الخوض في زواريب الحياة للنجاة لم يكن في بالي. لكن الإرهاق لم يكن مجرد تعب، كان حفرة تتوسّع، وكانت الأيام تصبّ فيها ثقلاً لم أعد أحتمله، بعد كلّ ما حصل من تنقّل وتشرّد وإعياءٍ من رتابة اليوميات.

أنا هنا أم لا؟ لا يهمّ، أمام هذه الشاشة البيضاء، وأمام هذا الجسد الذي يتداعى، وأمام الروتين الذي لا يرحم… في الخارج، العالم ينهار بوتيرته المعتادة. الأخبار تتحدث عن “الأمل”، لكن لا شيء جديد حقاً. الهجرة، انقطاع الكهرباء، الناس الذين يواصلون العيش كما لو أن هذه الفوضى هي الحياة الطبيعية، وكأننا جميعاً ننتظر أن يتحسّن شيء لا نعرف ما هو، ولا متى سيحدث.

في الداخل، المنزل ليس أكثر رحمة، الحديث ذاته يتكرر: “ألا تريدين الزواج؟ ما زلت صغيرة، يمكنك العمل أكثر… كل الناس عندها مشاكل… كلنا تعبانين… نحن مش أحسن من غيرنا… بدنا نقول الحمدلله”، وكأننا مجرد امتداد طبيعي للأزمات، مجرد أفراد يُتوقع منهم أن يتكيّفوا كما يتكيّف الجميع، أن يجدوا طريقة لمواصلة العمل حتى عندما ينهار الجسد، أن يبتسموا في وجه الحياة التي لا تبتسم أبداً.

كل شيء يدفعك إلى البقاء في مكانك، إلى الثبات، وكأن الانحراف عن هذه الحياة المُعطّلة في بلد نظامه أشبه ما يكون بنظام بلد، هو الجريمة الحقيقية. أن تتوقف عن العمل، أن تتوقف عن الصمت، أن تقول إنك لم تعد تحتمل… هذا هو الشيء غير الطبيعي. لكن الحقيقة أن هذا التآكل البطيء في الاستمرار في العيش، فقط لأن الحياة لا تمنح خياراً آخر، هو تطبيع ما بعده تطبيع؛ لم يعد محمولاً. هذا الركض الدائم ليس لأننا بخير، بل لأنه لا خيار آخر متاح، لا أحد يعرف متى أو كيف يرسو في حال أقل دماراً.