تبدو الصورة في بعض مدن البلقان في نهاية الشهر الجاري كأنها من الزمن العثماني الغابر الذي تحاول تركيا الأردوغانية أن تحييه منذ تولي “حزب العدالة والتنمية” للحكم في 2002. صحيح أن الحكومة التركية نجحت في استعراض ما أنجزته في السنوات الأخيرة من تحشيد ديني بأفق عثماني جديد مع انطلاقة عملية “غصن الزينون” للسيطرة على منطقة عفرين في شمال شرق سوريا، حين عمدت إلى إحياء التقليد العثماني بتلاوة “سورة الفتح” لدى توجّه السلطان لفتح منطقة جديدة في عشرات الآلاف من الجوامع والمساجد في طول تركيا وعرضها، إلا أن ذلك “التقليد العثماني”، كان له مغزاه في البلقان أيضاً حيث تستثمر تركيا الأردوغانية منذ حوالي عقدين قوتها الناعمة هناك لبعث التراث العثماني وإحياء الروابط مع المسلمين فيها(الذي كانوا لعدة قرون جزءا من الدولة العثمانية) ، لتكون اسطنبول البوصلة بالنسبة لهم.
خلال تركيا الكمالية كانت اسطنبول تنظر إلى المسلمين في البلقان كبقايا للدولة العثمانية، وكانت ترحب بهم كأتراك فقط لتعزيز الوجود التركي في الدولة القومية الجديدة، ولذلك كان على كل مسلم (ألباني أو بوسنوي أو يوناني أو بلغاري)، أن يقرّ بكونه تركيا حتى ولو يكن يعرف التركية لأجل أن يقبل طلبه للهجرة والاستقرار في تركيا. أما مع تولي حزب العدالة والتنمية للحكم في 2002 فقد أصبح كتاب رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، “العمق الاستراتيجي” يعبّر عن مقاربة أخرى للتعامل مع المجال العثماني السابق، باعتباره المجال الحيوي الجديد لتركيا الأردوغانية، ولذلك أصبحت اسطنبول تعمل على إبقاء السكان المسلمين في مواطنهم وإحياء التراث العثماني في كل زاوية، وتوفر آلاف البعثات لإعادة إحياء اللغة التركية هناك، وتشبيك المسلمين هناك مع تركيا الأردوغانية بكل الوسائل، حتى يصبح البلقان من البحر الأسود إلى البحر الأدرياتيكي “المجال الحيوي” الجديد لها.
من مرج دابق في 1516 إلى عفرين في 2018
لا تبعد مرج دابق، التي جرت فيها المعركة المعروفة في صيف 1516 لاجتياح بلاد الشام، والتي بقيت تحت الحكم العثماني 400 سنة ونيف، عن عفرين التي اعتبرها الرئيس رجب طيب أردوغان، هدفاً للاجتياح التركي الجديد لسوريا. وبغضّ النظر عن الأهداف المعلنة الآن للعملية الجديدة (غصن الزيتون)، فإن أسلوب التجييش والتحشيد الشعبي لدعم “غصن الزيتون” (الاسم الذي لا يبدو موفقاً هذه المرة)، في الداخل والخارج يذكّر بما كان يجري في الدولة العثمانية، ويكشف عما جنته تركيا الأردوغانية، من نجاح مع استثمار القوة الناعمة لها في البلقان، وبالتحديد في بلغاريا ومقدونيا وكوسوفو وألبانيا والبوسنة، حيث هناك وجود مسلم مؤثر من حيث العدد والدور.
وهكذا كما كان السلطان العثماني المتوجه على رأس الجيش إلى بلاد الشام ومصر يحظى بالدعاء له بالنصر ابتداء من شيخ الاسلام (الذي كان يرأس المؤسسة الدينية) وحتى شيوخ الجوامع هنا وهناك وقراءة “سورة الفتح” في الجوامع، فإن هذا التقليد برز فجأة مع الإعلان عن الاجتياح التركي الجديد لسوريا. ففي سكوبية عاصمة “جمهورية مقدونيا” (حيث يشكل المسلون حوالي 40 بالمائة من سكان الدولة)، نظم احتفال ديني الشهر الماضي في “جامع مراد باشا” بالمدينة القديمة التي حافظت على بنيتها العثمانية، حيث تليت هناك سورة الفتح ورفع الحاضرون أيديهم بالدعاء بالنصر للجيش التركي. وكان من الملاحظ أن هذه المناسبة كشفت عن وجود تركي رسمي بارز، ابتداءً من السفيرة التركية في سكوبيه تولين إركال كارا، وانتهاء بـ “الملحق الديني” في السفارة مراد ألكان، وهو بالمناسبة منصب جديد لم يكن موجوداً في السابق في السفارات التركية في البلقان.
ومن الواضح هنا أن هذا الجامع وغيره، مع الاستثمار المتواصل لـ”القوة الناعمة” التركية، أصبح رمزاً لتأييد كل ما تريده تركيا الأردوغانية حتى في الأمور التي تقسم الشارع البلقاني . ففي 27/4/2015 شهدت باحته تجمعاً احتجاجياً ضد ما وصف بأنه “مزاعم” الأرمن بحصول مجازر جماعية ضدهم في الدولة العثمانية. وفي شهر يوليو/ تموز 2016 ذبحت الخراف فيه احتفالاً بنجاة أردوغان وفشل المحاولة الانقلابية ضده.
وعلى هذا النمط جرت في كوسوفو المجاورة (التي تجمع أكبر نسبة من المسلمين تصل إلى 95 بالمائة) عدة احتفالات كان أهمها ما جرى في جامع سنان باشا في مدينة بريزرن، وهو من أشهر الجوامع التي بنيت خلال الحكم العثماني الطويل الذي استمر حوالي 500 سنة، حيث قرأت أيضاً سورة الفتح وتوجهت الأيدي المرفوعة بالدعاء بالنصر للجيش التركي الذي اجتاح سوريا. وبالإضافة إلى حضور أركان السفارة في بريشتينا، وعلى رأسهم السفيرة كفليتشيم كيليتش، والقنصلية التركية في بريزرن (العاصمة الأولى لولاية كوسوفو العثمانية التي استحدثت بموجب قانون الولايات الجديد 1864، فقد كان من الملاحظ حضور بعض أفراد القوة التركية الموجودة في المدينة كجزء من القوة الدولية “كي فور” التي ترابط في كوسوفو منذ 1999 بموجب قرار مجلس الأمن 1244.
ومن ناحية أخرى فقد كانت هذه الاحتفالات فرصة للكشف عن موقف “الجماعة الاسلامية” (التي تمثل المسلمين أمام الدولة وتتبع لها كل الجوامع)، بين الاصطفافات الجديدة في الشرق الأوسط بين تركيا التي تمول الإسلام العثماني من ناحية، والسعودية والإمارات من ناحية أخرى التي كانت تموّل الإسلام السلفي من ناحية أخرى. فقد مالت رئاسة الجماعة الاسلامية في سكوبيه وبريشتينا إلى أن تمسك العصا من الوسط، أي أن ترضي تركيا الأردوغانية بإقامة احتفال مركزي في جامع مشهور دون أن يتم تعميم ذلك على مستوى الدولة.[video_player link=””][/video_player]
تركيا الأردوغانية تبعث “الماضي العثماني” في البلقان
صحيح أن الحكومة التركية نجحت في استعراض ما أنجزته في السنوات الأخيرة من تحشيد ديني بأفق عثماني جديد مع انطلاقة عملية “غصن الزينون” للسيطرة على منطقة عفرين في شمال شرق سوريا، حين عمدت إلى إحياء التقليد العثماني بتلاوة “سورة الفتح” لدى توجّه السلطان لفتح منطقة جديدة في عشرات الآلاف من الجوامع والمساجد في طول تركيا وعرضها، إلا أن ذلك “التقليد العثماني”، كان له مغزاه في البلقان أيضاً حيث تستثمر تركيا الأردوغانية منذ حوالي عقدين قوتها الناعمة هناك لبعث التراث العثماني…
كوب 29 في أذربيجان: البيئة في قبضة نظام بوليسيّ!
فيلم “أرزة”: الكوميديا كأداة مقاومة في لبنان
بعد انسحاب جيش الأسد… مُهجرون عادوا الى منازل مدمّرة ومقابر مُختفية!
صحيح أن الحكومة التركية نجحت في استعراض ما أنجزته في السنوات الأخيرة من تحشيد ديني بأفق عثماني جديد مع انطلاقة عملية “غصن الزينون” للسيطرة على منطقة عفرين في شمال شرق سوريا، حين عمدت إلى إحياء التقليد العثماني بتلاوة “سورة الفتح” لدى توجّه السلطان لفتح منطقة جديدة في عشرات الآلاف من الجوامع والمساجد في طول تركيا وعرضها، إلا أن ذلك “التقليد العثماني”، كان له مغزاه في البلقان أيضاً حيث تستثمر تركيا الأردوغانية منذ حوالي عقدين قوتها الناعمة هناك لبعث التراث العثماني…
تبدو الصورة في بعض مدن البلقان في نهاية الشهر الجاري كأنها من الزمن العثماني الغابر الذي تحاول تركيا الأردوغانية أن تحييه منذ تولي “حزب العدالة والتنمية” للحكم في 2002. صحيح أن الحكومة التركية نجحت في استعراض ما أنجزته في السنوات الأخيرة من تحشيد ديني بأفق عثماني جديد مع انطلاقة عملية “غصن الزينون” للسيطرة على منطقة عفرين في شمال شرق سوريا، حين عمدت إلى إحياء التقليد العثماني بتلاوة “سورة الفتح” لدى توجّه السلطان لفتح منطقة جديدة في عشرات الآلاف من الجوامع والمساجد في طول تركيا وعرضها، إلا أن ذلك “التقليد العثماني”، كان له مغزاه في البلقان أيضاً حيث تستثمر تركيا الأردوغانية منذ حوالي عقدين قوتها الناعمة هناك لبعث التراث العثماني وإحياء الروابط مع المسلمين فيها(الذي كانوا لعدة قرون جزءا من الدولة العثمانية) ، لتكون اسطنبول البوصلة بالنسبة لهم.
خلال تركيا الكمالية كانت اسطنبول تنظر إلى المسلمين في البلقان كبقايا للدولة العثمانية، وكانت ترحب بهم كأتراك فقط لتعزيز الوجود التركي في الدولة القومية الجديدة، ولذلك كان على كل مسلم (ألباني أو بوسنوي أو يوناني أو بلغاري)، أن يقرّ بكونه تركيا حتى ولو يكن يعرف التركية لأجل أن يقبل طلبه للهجرة والاستقرار في تركيا. أما مع تولي حزب العدالة والتنمية للحكم في 2002 فقد أصبح كتاب رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، “العمق الاستراتيجي” يعبّر عن مقاربة أخرى للتعامل مع المجال العثماني السابق، باعتباره المجال الحيوي الجديد لتركيا الأردوغانية، ولذلك أصبحت اسطنبول تعمل على إبقاء السكان المسلمين في مواطنهم وإحياء التراث العثماني في كل زاوية، وتوفر آلاف البعثات لإعادة إحياء اللغة التركية هناك، وتشبيك المسلمين هناك مع تركيا الأردوغانية بكل الوسائل، حتى يصبح البلقان من البحر الأسود إلى البحر الأدرياتيكي “المجال الحيوي” الجديد لها.
من مرج دابق في 1516 إلى عفرين في 2018
لا تبعد مرج دابق، التي جرت فيها المعركة المعروفة في صيف 1516 لاجتياح بلاد الشام، والتي بقيت تحت الحكم العثماني 400 سنة ونيف، عن عفرين التي اعتبرها الرئيس رجب طيب أردوغان، هدفاً للاجتياح التركي الجديد لسوريا. وبغضّ النظر عن الأهداف المعلنة الآن للعملية الجديدة (غصن الزيتون)، فإن أسلوب التجييش والتحشيد الشعبي لدعم “غصن الزيتون” (الاسم الذي لا يبدو موفقاً هذه المرة)، في الداخل والخارج يذكّر بما كان يجري في الدولة العثمانية، ويكشف عما جنته تركيا الأردوغانية، من نجاح مع استثمار القوة الناعمة لها في البلقان، وبالتحديد في بلغاريا ومقدونيا وكوسوفو وألبانيا والبوسنة، حيث هناك وجود مسلم مؤثر من حيث العدد والدور.
وهكذا كما كان السلطان العثماني المتوجه على رأس الجيش إلى بلاد الشام ومصر يحظى بالدعاء له بالنصر ابتداء من شيخ الاسلام (الذي كان يرأس المؤسسة الدينية) وحتى شيوخ الجوامع هنا وهناك وقراءة “سورة الفتح” في الجوامع، فإن هذا التقليد برز فجأة مع الإعلان عن الاجتياح التركي الجديد لسوريا. ففي سكوبية عاصمة “جمهورية مقدونيا” (حيث يشكل المسلون حوالي 40 بالمائة من سكان الدولة)، نظم احتفال ديني الشهر الماضي في “جامع مراد باشا” بالمدينة القديمة التي حافظت على بنيتها العثمانية، حيث تليت هناك سورة الفتح ورفع الحاضرون أيديهم بالدعاء بالنصر للجيش التركي. وكان من الملاحظ أن هذه المناسبة كشفت عن وجود تركي رسمي بارز، ابتداءً من السفيرة التركية في سكوبيه تولين إركال كارا، وانتهاء بـ “الملحق الديني” في السفارة مراد ألكان، وهو بالمناسبة منصب جديد لم يكن موجوداً في السابق في السفارات التركية في البلقان.
ومن الواضح هنا أن هذا الجامع وغيره، مع الاستثمار المتواصل لـ”القوة الناعمة” التركية، أصبح رمزاً لتأييد كل ما تريده تركيا الأردوغانية حتى في الأمور التي تقسم الشارع البلقاني . ففي 27/4/2015 شهدت باحته تجمعاً احتجاجياً ضد ما وصف بأنه “مزاعم” الأرمن بحصول مجازر جماعية ضدهم في الدولة العثمانية. وفي شهر يوليو/ تموز 2016 ذبحت الخراف فيه احتفالاً بنجاة أردوغان وفشل المحاولة الانقلابية ضده.
وعلى هذا النمط جرت في كوسوفو المجاورة (التي تجمع أكبر نسبة من المسلمين تصل إلى 95 بالمائة) عدة احتفالات كان أهمها ما جرى في جامع سنان باشا في مدينة بريزرن، وهو من أشهر الجوامع التي بنيت خلال الحكم العثماني الطويل الذي استمر حوالي 500 سنة، حيث قرأت أيضاً سورة الفتح وتوجهت الأيدي المرفوعة بالدعاء بالنصر للجيش التركي الذي اجتاح سوريا. وبالإضافة إلى حضور أركان السفارة في بريشتينا، وعلى رأسهم السفيرة كفليتشيم كيليتش، والقنصلية التركية في بريزرن (العاصمة الأولى لولاية كوسوفو العثمانية التي استحدثت بموجب قانون الولايات الجديد 1864، فقد كان من الملاحظ حضور بعض أفراد القوة التركية الموجودة في المدينة كجزء من القوة الدولية “كي فور” التي ترابط في كوسوفو منذ 1999 بموجب قرار مجلس الأمن 1244.
ومن ناحية أخرى فقد كانت هذه الاحتفالات فرصة للكشف عن موقف “الجماعة الاسلامية” (التي تمثل المسلمين أمام الدولة وتتبع لها كل الجوامع)، بين الاصطفافات الجديدة في الشرق الأوسط بين تركيا التي تمول الإسلام العثماني من ناحية، والسعودية والإمارات من ناحية أخرى التي كانت تموّل الإسلام السلفي من ناحية أخرى. فقد مالت رئاسة الجماعة الاسلامية في سكوبيه وبريشتينا إلى أن تمسك العصا من الوسط، أي أن ترضي تركيا الأردوغانية بإقامة احتفال مركزي في جامع مشهور دون أن يتم تعميم ذلك على مستوى الدولة.[video_player link=””][/video_player]