لم يكن جوهر رسالة عبد الله أوجلان، التي نُشرت للرأي العام الكردي والتركي في ٢٧ شباط/ فبراير ٢٠٢٥، مفاجئاً للكرد، إذ سبق نشر الرسالة الكثير من اللقاءات، التي قام بها فريق من محامي أوجلان، وقياديون من حزب “ديم” الكردي، مع القيادات السياسية في تركيا وكردستان العراق.
رشح عن هذه التحركات، أن جوهر النداء الذي سيوجّهه أوجلان، سيكون الطلب من حزب “العمال الكردستاني”، أن يُوقف الكفاح المسلح بشكل نهائي ويُلقي السلاح، في خطوة تُنهي أطول تمرّد كردي مسلّح في تركيا.
نداء أوجلان لم يكن فقط طلباً لإلقاء السلاح، بل تضمّن مراجعة مقتضبة لمسيرة حزب “العمال”، وظروف تشكّله، والقطع مع الإرث المطلبي لهذا الحزب الذي طالب في بداياته، بتأسيس كردستان مستقلّة.
يرفض أوجلان في ندائه الأخير المطالبات بالفيدرالية، أو الإدارة الذاتية كحل للمشكلة القومية الكردية. هذه القراءة، وبالرغم من صدمة الكثير من الكرد بها، تأتي اعترافاً بالوقائع المتغيّرة في تركيا، وانسداد الأفق السياسي أمام حل واضح، “وبضربة واحدة” للمسألة الكردية فيها.
من هذا المنطلق، تأتي خطوة إلقاء السلاح، كتثبيت للحاجة الكردية في تركيا إلى العودة إلى ممارسة السياسة، بعد التخلّص من إرث الحرب وسمة الإرهاب والمضايقات التركية، لمعظم أشكال النشاط المدني الكردي، تحت حجّة ارتباط هذه النشاط بحزب “العمال الكردستاني”، وبالتالي بالإرهاب.
تأمل تركيا أن تتحرر من التبعات والتكاليف المادية والبشرية للصراع العسكري، واحتواء الكرد تحسباً لأي متغيّرات كبيرة في الإقليم، قد تُحسّن من موقع الكرد وفرصهم في الحصول على وضع خاص بهم.
الكرد من جهتهم يرون في هذه الخطوة، مدخلاً لحماية مكتسباتهم السياسية ومراكمتها تدريجياً، إذا تفرّغوا بشكل كلي للانخراط في العمل السياسي، وبناء مؤسسات مدنية، والتركيز على العامل البشري بدلاً عن العسكرة.
بحسب استطلاع رأي أجراه مركز “راويست للدراسات” في مدينة دياربكر، يؤيّد ٦٥ في المئة من الكرد قرار ترك الكفاح المسلّح، بينما عبّر نحو٢٠ في المئة عن تحفّظاتهم حيال ذلك، في ظل عدم وضوح الخطوات المقابلة التي ستنفّذها تركيا، في حين أبدى ١٥ في المئة رفضه القرار.
تعرّف الكرد في السنوات الأخيرة وبشكل متزايد، على قدرتهم في التأثير السياسي داخل تركيا، إذ تمكّنت القائمة الكردية في بعض الانتخابات البرلمانية من الفوز بـ ٨٠ مقعداً، وكذلك الفوز بأكثر من مائتي بلدية في الانتخابات المحلية.
فتحت الانتصارات السياسية للكرد باب الحضور في المشهد السياسي التركي الرسمي، وإدارة البلديات بشكل يلبّي ليس فقط الاحتياجات الخدمية للسكان، بل أيضاً يُراعي الثقافة المحلية، ويشجّع على استخدام اللغة الكردية، وفتح الكثير من المشاريع الثقافية الواعدة.
لكن الدولة التركية، كانت وبشكل مستمر، تنزع الحصانة عن الكثير من البرلمانيين الكرد، وتعتقل رؤساء البلديات المنتخَبين، وتعيّن بدلاً عنهم أوصياء منتدَبين من الحكومة، بحجّة ارتباطهم بحزب “العمال الكردستاني”. رأى الكرد كذلك أن السلاح يُرسل أفضل الكفاءات البشرية الكردية إلى السجون أو المنافي. الآن، يأمل الكرد أن فسحة العمل السياسي ستتوسّع، وستسقط حجّة الإرهاب التي استخدمتها تركيا لتقليص النجاحات السياسية الكردية، ورمي الكرد خارج دائرة التأثير السياسي في تركيا.
بهذا المعنى، فإن العودة إلى حقل السياسة، هي عودة إلى ملعب يستطيع فيه الكرد إحراز الكثير من النقاط، من دون أن تتمكّن تركيا من انتزاعها منهم.
إقرأوا أيضاً:
تتزامن هذه الرغبة الكردية مع شكّ كبير في مستوى جدّية الدولة التركية، التي حافظت حتى الآن، على خطابها المعتاد بوصف ما يجري على أنه قضاء على الإرهاب، واستسلام غير مشروط لحزب “العمال”. كذلك فإن فشل الجولات الماضية من التفاوض بين الحزب وتركيا، وردّة الفعل التركية القاسية بعد انهيار المحادثات الأخيرة للسلام في عام ٢٠١٥، يعززان من هذه الشكوك.
ويعتقد قطاع واسع من الكرد أن تركيا غير جادّة، وتريد فقط كسب الوقت وضبط المشاكل الداخلية، حتى يتبيّن ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا والإقليم، قبل أن تنقضّ على الاتفاق حالما ترى الأوضاع في صالحها.
يستند المشككون الكرد على إرث من الفشل في التوصّل إلى اتفاق مع تركيا، مصحوباً بنزعة تركية لمحاصرة أية تطلّعات كردية داخل تركيا وخارجها. من هذه الزاوية، يتّفق الشارع الكردي في تركيا، على ضرورة حماية التجربة الكردية الناشئة في سوريا، وضمان أن يحصل الكرد هناك، على نوع من الإدارة الذاتية، وهو مُنجز غير قابل للتحقيق حالياً في تركيا. يرى الكرد في تركيا في كفاح الكرد السوريين ضد “داعش”، وتأسيس إدارات ذاتية، وانتهاج سياسة لغوية جعلت من اللغة الكردية لغة تعلّم وتعليم إلى جانب اللغات المحلية الأخرى، مُنجزاً يخصّهم أيضاً، ورافعة يمكن الاستناد عليها في الحصول على وضع أفضل في تركيا. كذلك يُجمعون على ألا تكون تبعات نزع السلاح في تركيا، قاسية على “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”.
نظرت تركيا دائماً بحذر شديد إلى ما يجري على الجانب الآخر من الحدود لدى كرد سوريا، ويُرجّح الكثيرون أن نجاح المقاتلين الكرد في سوريا في التصدّي لـ”داعش”، وتأسيس الإدارات الذاتية، والتحوّل إلى شريك قوي للتحالف الدولي لمحاربة “داعش”، كان السبب الجوهري أمام فشل عملية السلام بين تركيا وحزب “العمال الكردستاني” في عام ٢٠١٥.
تنظر تركيا الآن أيضاً إلى “قوات سوريا الديمقراطية”، كفرع لحزب “العمال”، وتقول إن نداء نزع السلاح يشمل هذه القوات أيضاً. وصف مظلوم عبدي، قائد “قوات سوريا الديمقراطية” نداء عبد الله أوجلان “بالتاريخي”، مع تأكيده على أن “قسد” قوات سورية، وغير معنية بهذا النداء، ولن تُلقي سلاحها، بل ستسعى للاندماج في الجيش السوري، ضمن صيغة يتمّ الاتفاق عليها مع دمشق.
وفي الحقيقة فإن “قسد” جيش كبير موجود على الأرض، ويسيطر على مساحات واسعة من سورية، وليس مجموعة من “الكريلا” المتمركزين في الجبال، كما هو الحال لدى حزب “العمال”. كذلك فإن الحالة السورية، تسمح لـ “قسد” بالوصول إلى اتفاق مع دمشق، ينظّم عملية اندماجها في الجيش السوري الجديد كفيلق أو فرقة.
لكن، ومع الاختلاف في الوضع العسكري لحزب “العمال” و”قسد”، يظهر أن “قسد” تتبنّى الجوهر السياسي لنداء عبد الله أوجلان، وهو الاندماج في الدول القائمة، والولوج في حقلها السياسي، وتركيز الجهود على التغيير الديمقراطي في هذه البلدان.
يرى الكرد في سوريا أن اندماج “قسد”، وكذلك اندماج الكرد ممكن في سوريا. ليس كما هو الأمر عليه في تركيا بنزع السلاح، بل بالاندماج المنظّم للقوة العسكرية (قسد) والاعتراف بإدارة لا مركزية للكرد، تسهّل اندماجهم الأوسع في الحياة السياسية في سوريا، وتفسح المجال أمامهم ليكونوا مؤثّرين في رحلة السوريين نحو الديمقراطية والمساواة.
ربما تشعر تركيا الآن بنوع من الانتصار، وهي ترى نفسها أمام مشهد إنهاء تمرّد مسلّح مستمر منذ أربعين عاماً. لكن ما ينبغي أن تعيه تركيا، هو أن هذا التحوّل لا يمثّل المطالب التي انطلق من أجلها التمرّد المسلّح، بل مراجعة عقلانية بيّنت أن السياسة توصل إلى الهدف بتكلفة أقل، وعبر طرق تخلق أقل قدر من الشروخ بين الشعوب.
سترى تركيا نفسها أمام كفاح سياسي، ينخرط فيه عدد أكبر من الذين انخرطوا في العمل العسكري. فقد نجح الكرد في السنوات الماضية؛ وحتى مع استمرار ضغط تهمة الإرهاب، في خلق تيار سياسي يجمع الكثير من الفئات في تركيا. الآن، إذا اقتنصت تركيا هذه اللحظة التاريخية، ولم تعرقل الحراك السياسي الكردي، سيصبح الكرد عبر السياسة، أكثر قدرة على مساعدة أنفسهم ومساعدة تركيا أيضاً، في أن تصبح مكاناً أفضل لكل سكانها.
إقرأوا أيضاً: