اعتقالات وتنكيل وتكميم أفواه وعنف وتهديد، هكذا تمضي الحرب في السودان على الصحافيين، الذين يعمل طرفا الصراع على ترهيبهم ومنعهم من نقل الحقيقة والعمل، حتى بات الاعتكاف أو الهروب داخل البلاد وخارجها، أفضل الخيارات لبقاء الصحافيين وعائلاتهم على قيد الحياة، في ظل صراع لم يتوقف منذ 15 نيسان/ أبريل، بين الجيش وقوات الدعم السريع.
الصراع الذي أدى إلى مقتل أكثر من 2800 شخص ونزوح نحو 3 ملايين شخص، لم تنجح الوساطات الداخلية والخارجية في وقفه، والأسوأ أن المجتمع الدولي بكل مكوناته لا يبدو آبهاً بالجرائم التي ترتكب بخاصة غرب السودان، حتى بعدما تفاقم الوضع في 13 حزيران/ يونيو الماضي على خلفية قتل والي غرب دارفور خميس عبد الله أبكر الذي طالب المجتمع الدولي قبل يوم من مقتله بالتدخل لوقف بـ”الإبادة” التي ترتكب ضد المدنيين بدم بارد.
وفي خضم هذا الوضع بات الصحافيون السودانيون يبحثون عن سبل نجاتهم أكثر من بحثهم عن الحقيقة، إذ صاروا عرضة لأشكال مختلفة من الانتهاكات قد تصل حد القتل، لإجبارهم على السكوت. وأصبح الهروب إلى أماكن آمنة في الداخل أو في دول الجوار خياراً إلزامياً، لتجنب المزيد من التنكيل، أو الاختفاء في المنزل بانتظار أن تنتهي الحرب.

اعتُقلت مرتين…
اعتقلت ريم (اسم مستعار لسلامتها) وهي صحافية في دارفور مرتين على يد قوات الجيش، وتعرضت للترهيب بالسلاح والشتم والتحقيق لساعات، وللجلد في الشارع فقط لنشاطها الصحفي.
وتتحدث لـ”درج” عن تفاصيل ما حصل معها “كان الاعتقال الأول في 27 أيار/ مايو في التاسعة صباحا من إرتكاز كوبري السوق المركزي من طرف ضابط يتبع للاستخبارات العسكرية (الجيش). تعرضت لإهانة من قبل بعض العسكريين الذين قاموا بشطب ملصوقة أضعها في عربتي تابعة لأحد اللجان التي كانوا يرون أنها غير منصفة ومن أسباب بقاء الدعم السريع في المنطقة. وتم إطلاق رصاصة لتخويفي، ثم أمر الضابط بأخذي إلى مكاتب الاستخبارات. أمضيتُ 5 ساعات هناك في انتظاره وعندما جاء سألني، من الطرف الخطأ أنت أم العساكر، قلت له بالطبع أنا المخطئة فاعتبر جوابي هذا استفزازاً وغادر دون أن يواصل استجوابي. جاءني أحد العسكريين وقال لي لماذا أتوا بك هنا؟ فأجبته لا أعلم انتظر واسأل من أتى بي هنا ليعطيك الجواب. حينها رد بغضب انت حقيرة و(رأسك كبير)، وأنا بإمكاني أن أطلق عليك رصاصة الصقك الحائط ولن يسألني أحد لماذا. ضحكت حينها وقلت له ليس بهذه السهولة، ثم قدم أحدهم وأمره بالمغادرة”.
بقيت ريم قيد الانتظار وفجـأة اندلعت اشتباكات بين الجيش والدعم السريع فتم إطلاق سراحها وسط وابل الرصاص بين الجانبين حتى أنها ظنت أنها ستموت برصاصة طائشة، واضطرت للمبيت مع أسرة أحد العسكريين التابعين للجيش، قالت إنهم أحسنوا معاملتها. ثم عادت في الغد إلى منزلها.
الضابط ذاته اعتقلها مجدداً بعد أيام وهي في طريقها لنقل أدوية لبعض مرضى القلب والسكري والضغط. تركها تنتظر 6 ساعات ثم عاد للتحقيق معها متهماً اياها بكتابة منشور ذكرت فيه أن الجيش يقوم باعتقالات على أساس عرقي والتجول مع قوات الدعم السريع والكتابة عن سقوط حامية كتم. دافعت ريم عن نفسها بثقة ودون خوف وجرى بينهما شد وجذب لوقت طويل ليقرر الضابط في النهاية الاعتذار منها وإطلاق سراحها. ولكن الأمر لم ينتهِ هنا.
تقول ريم، “في أول أيام عيد الأضحى بينما كنت في طريقي إلى سوق المواشي (سم الجراد) لشراء خروف الأضحية، تعرضت للإهانة والجلد بالسوط من قبل أربعة من أفراد الحركات المسلحة بإرتكاز الفاشر الثانوية مع الشتم والسب بأقذر العبارات، وأخذوا مفتاح سيارتي وهددوني بالسلاح وفتشوا سيارتي”.
تحاول ريم برغم الوضع الأمني الصعب في دارفور أن تنشر عبر موقعها الالكتروني كل ما يجري من انتهاكات وتجاوزات من طرفي النزاع وكلها أمل أن تنتهي الحرب والاقتتال ويعم السلام وتنتهي مأساة السوادانيين.
إقرأوا أيضاً:
اعتقال وترويع
وتؤكد تقارير المنظمات دولية بدوها منذ مطلع حزيران/ يونيو، أن الوضع في دارفور وبخاصة مدينة الجنينة خطير جداً. وبحسب منسق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في دارفور طوبي هاروارد فقد أحرقت الأسواق، ونهبت الخدمات الصحية، وتجوب المدينة جماعات مسلحة تقتل الناس بطريقة عشوائية غالبا بسبب عرقهم.
أحمد (اسم مستعار لسلامته) صحافي سوداني يعمل بأحد القنوات التلفزية في بلاده وجد نفسه عرضة للخطر بعد أن تم اعتقاله وترويعه على يد قوات الردع السريع فقط لأنه صحافي. وهو اليوم عاطل عن العمل منذ ثلاثة أشهر بعد أن استولت هذه القوات على مكان عمله والعديد من مقرات وسائل الإعلام بالخرطوم ولا يستطيع ممارسة عمله خوفاً على حياته.
ويروي لـ”درج”، “تم اعتقالي من قبل قوة من 7 دراجات نارية يرتدي سائقوها زي الدعم السريع، بالقرب من مكان سكني، وتم ضربي واتهامي بأنني أتبع جهة أمنية وبالتواصل مع أفراد من الجيش السوداني وبأنني أرصد تحركات الدعم السريع، وتم تهديدي بالسلاح بالتصفية. أخذوا هاتفي وفتشوه ثم نقلوني إلى منطقة عسكرية تابعة لهم، وهناك استجوبوني من جديد، واتهموني بأن بطاقتي الصحافية مزورة. وأجبروني على الجلوس على الأرض حتى وصول أحد عناصر الاستخبارات الذي قام بالتحقيق معي وسؤالي من أين جئت وأين تذهب؟ ماذا تعرف عن الإعلام في السودان؟ وهل تعرف ضباطاً تابعين للاستخبارات العسكرية التابعة للجيش؟ وغيرها من الأسئلة”.
وأضاف، “في الساعة الثامنة مساء أدخلوني إلى المعتقل بعدما أخذوا هاتفي ونقودي وهددوني بالضرب إذا لم أخبرهم عن الإعلاميين العاملين في القناة التلفزيونية التي أعمل معها ومن أين تبث. في الرابعة مساء من اليوم التالي قدم ضابط استخبارات آخر وقام بالتحقيق معي مجدداً حول الغروبات والمحادثات على المسنجر والهاتف وعن طبيعة علاقتي بالأشخاص الذين أتواصل معهم، فأخبرته بأنني صحافي وأحتاج للتواصل مع مصادر للتحقق من معلوماتي قبل بثها”. وأشار أحمد إلى أن “المعتقلين في ذلك المعسكر يعيشون أوضاعاً صعبة للغاية”.
بعد هذا التحقيق أمر ذلك الضابط بإطلاق سراح أحمد مخبراً من معه بأن لا دليل على علاقاته بأي جهةٍ أمنية، وفي تلك الأثناء، كانت نقابة الصحافيين السودانيين قد تحدثت عن اختطافه وتلقفت بعض وسائل الإعلام خارج السودان الخبر فأحدث ذلك ضغطا وأطلق سراحه. وكان ذلك الحادث إنذارا حقيقيا بالخطر أدرك خلاله أن الوضع لم يعد ملائما أبدا لممارسة العمل الصحفي وأن الحفاظ على حياته بات أولوية ولهذا اختار أن يلزم بيته في انتظار أن يعود السلام لبلاده.
وأدى استمرار المعارك إلى توقف غالبية وسائل الإعلام في السودان جراء ما أدى لتشريد أعداد كبيرة من الصحافيين والصحافيات ونزوحهم خارج العاصمة الخرطوم أو اللجوء عبر الحدود إلى خارج السودان في ظروف صعبة، فيما ظل البعض عالقاً في المناطق الحدودية بسبب تعقيدات تأشيرة الدخول. أما في غرب السودان وتحديداً في محافظات دارفور، فإن أوضاع الصحافيين أشد سوءاً في ظل ارتفاع وتيرة المعارك هناك والانتشار الكبير لقوات الردع السريع في أحياء كثيرة، وارتكابهم جرائم كبيرة ضد المدنيين والصحافيين. ويجعل هذا الوضع فرص الاتصال بهم صعبة وإمكانيات رصد ما يجري معهم غير ممكنة. وبالتالي يبقى مصير الكثير منهم مجهولا حتى الآن بالنسبة للهياكل المهنية في البلاد وعلى رأسها نقابة الصحافيين السودانيين.
أمين صحافي سوداني كان يعمل في إحدى الصحف في العاصمة الخرطوم، ليجد نفسه عرضة للخطر ويضطر للهرب إلى إحدى محافظات البلاد بحثاً عن ملاذ آمن لا سيما بعدما فقد عمله إذ أجبرت الحرب الصحيفة التي يعمل فيها على الإغلاق.
ويروي لـ”درج”، “الانتهاكات التي تستهدف الصحافيين السودانيين كبيرة وسأروي أحد المواقف التي جعلتني أشعر جدياً بالخطر. إحدى الزميلات نزحت من منزلها في الخرطوم إلى ولاية الجزيرة بسبب الحرب، طلبت أن أتفقّد منزلها بعدما أخبروها أنه سُرق، إذ يقع منزلي بالقرب من أرض المعسكرات معقل قوات الدعم السريع. ذهبت إلى منزلها وأبلغتها بما حدث فيه، وعند عودتي من منزلها وكنت أقود دراجة هوائية استوقفتني قوة من الدعم السريع المرتكزة بالقرب من السكة حديد. كان هناك 3 سيارات مقاتلة وفيها عدد من الأفراد، قالوا لي تعال إلى هنا وبمجرد اقترابي منهم أوقفوني وقاموا بتصويب سلاح كلاشنيكوف في رأسي، وقال لي أحدهم اجلس على الأرض، جلست فقاموا بتفتيشي فوجدوا بطاقتي الصحفية. قالوا أنت إعلامي نحن نبحث عنكم من زمن، انتم تكتبون ضد الدعم السريع وتقولون أنه خسر أمام قوات الجيش، سنأخذك معنا حتى تشاهد المعركة على أرض الواقع وتكتب ما شاهدته. قلت لهم هذا يسعدني طالما أنني سأذهب معكم لنقل الحقيقة للناس. قال أحدهم هل أنت مجنون؟ ثم وضعوا سلاحاً آخر على رأسي واستعدوا لإطلاق النار”.
بعد ذلك ترددوا في إطلاق النار عليه وأخذوا هاتفه ثم قاموا بتفتيشه فوجدوا عدداً من الأسماء فاتهموه بأنه ينتمي للاستخبارات العسكرية، وحاولوا الاتصال من هاتفه بأحد الشخصيات العسكرية التابعة للجيش وقد أخبروه بأنه في حال رد بنعم، فسيتأكدون من من تورطه وسيطلقون عليه النار. ولحسن حظه كان الرقم مغلقاً. بعد ساعات من الإهانات والشتائم، تم إطلاق سراحه.
بعد هذه الحادثة شعر أمين بالخطر وقرر أن يغادر الخرطوم ويتجه نحو محافظة النيل الأبيض بحثاً عن الأمان.
إقرأوا أيضاً:
من جانبها اضطرت حنان الطيب الصحافية في “أخبار اليوم” إلى الهروب إلى القاهرة بعد تراجع دور الصحافيين بسبب الحرب، إذ أصبحوا عاجزين عن نقل الحقائق والانتهاكات في كامل أنحاء البلاد وحفاظاً على حياتها وعائلتها في ظل غياب الحماية للصحافيين.
وقالت بكثير من الحزن لـ”درج” “لم يعد لدينا كصحافيين في هذا الواقع المرير والمحزن، من قتل وتشريد ونهب وسرقة وطرد من المنازل واحتلالها، وتدميرها ناهيك عن الاغتصابات وغيرها من أساليب القمع، في غياب سبل الحماية والوقاية للصحافيين. أصبحنا مكبلين ومستهدفين، لا نستطيع التنقل من مكان إلى آخر، . وحمل بطاقة صحفي يعني أنك ستتعرض لانتهاكات من دون رحمة، ربما يتم إعدامك فضلاً عن تعرضك لعملية استنطاق واتهامك بأنك جاسوس، والأخطر مطالبتك بأن تدلهم على بعض الصحافيين. ولذلك قررنا عدم حمل بطاقة صحفي معنا في أي مكان، إلى جانب توقف شبكة الإنترنت التي حالت دون قدرتنا على الاتصال ببعض المتأثرين جراء القصف لتقصي الحقائق. لقد انتهي دور الصحافيين داخل الخرطوم تماما، وأصبحنا نعاني الأمرين لعدم توفر الأمن والأمان وأصبحنا مكتوفي الأيدي. ولهذا كان الهروب من هذا الجحيم لضمان البقاء على قيد الحياة خياري الوحيد مع عدد من الزملاء”.
وكشفت نقابة الصحفيين السودانيين قبل حوالي أسبوع، عن تشريد 220 صحفياً من مناطقهم، فيما تزايد التضييق على أعمالهم. وحصرت النقابة نزوح 150 صحافياً خارج مواطنهم الأصلية إلى قرى ومدن متفرقة في السودان، معظمهم عاطلون عن العمل، ولجوء 70 صحافياً آخرين إلى دول الجوار، معظمهم أيضاً بلا عمل.
وقالت النقابة “إن مصير عشرات الصحافيين بولايات دارفور، غرب السودان، لا يزال مجهولاً لصعوبة الاتصال بهم، فيما يواجهون مخاطر يومية أثناء بحثهم عن الحقيقة وسط القتال”.