fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

تساؤلات في “التطرف” النسوي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يجب أن ننتبه حين تتحول النسوية إلى ذكورية أخرى، ليس حفاظاً على امتيازات الذكور، بل سعياً وراء استحقاقنا نحن. النسوية تهدف إلى إلغاء الوصاية على أجسادنا وحيواتنا، لا إلى وصايتنا نحن على أجساد الآخرين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

المدفأة الحجرية مشتعلة، كأس نبيذ وسيجارة ملغومة، سهرة جميلة مع أصدقائي، safe apace  كما يسمونها، الدنيا أمان كما يقولون. في السهرة بعض الرجال من أصدقائي المقربين، أفكر: هل أنا في مأمن حقاً؟ هل أشعر بالأمان بين مجموعة من الرجال السكارى؟ أم أنا أشعر بالأمان بين أصدقائي السكارى؟ هل الظرف هنا من يحكم؟ 

أفكر في صراعي مع الجنس الآخر: أنا أصبّ غضبي على أصدقائي الذكور أحياناً، فهم يستحملون مني سيلاً من العنف والعدوانية المرتبطة بتقلباتي الشخصية. عدا عن العدوانية الموسمية في كل حادثة عنف أو استهداف تطاول امرأة ما في العالم. يستحمل الذكور من حولي ذنباً لا يد لهم فيه سوى أنهم رجال لسوء حظهم.

مع انتشار الفكر النسوي “أخيراً”، بدأت ألاحظ ردات فعل أصدقائي الرجال، يستأذنون كثيراً قبل الإتيان بأي حركة، يسألونني قبل مواعدة فتاة جديدة: هل سيكون من اللطيف أن أفتح لها باب السيارة؟ هل ستكون بادرة لطيفة لو دفعت أنا الحساب في الموعد الأول أم ستعتبرها ذكورية مني؟

بين الحين والآخر يعاود انتشار ترند من سيدفع الحساب في الموعد الأول؟ الرجال أم النساء أم نتقاسم؟ بعض صديقاتي يعتبرن أن افتراض أن الرجل هو من سيدفع الحساب بشكل بديهي ينتقص من قيمتهن. ماذا لو كنت أملك مالاً أكثر؟ هل عليه أن يؤجل دعوتي إلى الموعد الأول حتى يؤمن مبلغاً كافياً؟ ألا يمكن أن نختصر هذا كله بأن أدعوه أنا إلى عشاء على حسابي؟ من قال إن على الرجل أن يدفع في الموعد الأول؟ يعترض صديقي، إذ على الرجل أن يدفع الحساب كبادرة احترام ودلال للمرأة التي يريد لفت نظرها. حسناً! ماذا نقدم نحن النساء كبادرة من طرفنا للرجال الذين نريد لفت نظرهم؟

يضحك صديقي: لا طائل من كل هذا النقاش، إذ نحن على مقربة من أن تصبح دعوة امرأة إلى العشاء أو إلى فنجان قهوة نوعاً من التحرش. 

في الحدود المفترضة

تقول صديقتي إن الحد يقف عند كلمة لا، كل بادرة بعد الرفض تعتبر تحرشاً. بينما تعتبر أخرى أن هذا الحد غير موجود، فكل انتهاك لمساحة المرأة هو تحرش وفرض. أشعر بالخجل أمام صديقتي هذه وأنا سعيدة بمعاكسة سمعتها في الشارع قبل وصولي، وقد طلب مني صاحبها أن أضيفه على إنستغرام، وهو ما فعلت. ربما لأني وبكل سطحية أُعجبت بشكله وبمظهره، ربما لو لم يعجبني لاعتبرت بادرته تحرشاً؟ هل هذا هو الحد الخاص بي فعلاً؟

في سؤال عن المعاكسات في الشارع تقول إحدى صديقاتي إنها مستعدة لتقبل المعاكسة الذكية والمضحكة، بينما ترفض أخرى أي نوع من المعاكسات، كلها تعتبر تحرشاً. يقف صديقي حائراً بيننا حذراً من أخذ جانب أحد الرأيين، من الأسلم له أن يبقى على الحياد.

تميل تيارات نسوية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى تبني المدارس النسوية الأكثر تطرفاً، والتي بنيت أساساً في مجتمعات وصلت إلى درجة عالية من احترام حقوق الإنسان عامة، والنساء والأقليات ومجتمع الميم بشكل خاص، بعد تاريخ من النضال في سبيل الحقوق الفردانية والحرية الشخصية، ما سهل الوصول الى هذه النتيجة.

ألا يحمل قول “أنا أصدق الناجيات” في طياته اعترافاً مسبقاً بالمرأة/الضحية والرجل/المعتدي أو الظالم؟

حين نفترض استحقاقية المرأة لمجرد كونها امرأة، وذنب الرجل لمجرد أنه رجل، ألا يخلّ ذلك بالمبدأ الأساس في النظرية النسوية: المساواة؟

هشاشة شعرة معاوية التي تحوّل الفعل إلى نوع من “التحرش” او “الاعتداء”، تصعّب علينا رؤية حدود واضحة نبني عليها تعريفاً حقيقياً للاعتداء. فالفعل نفسه شديد الظرفية، بخلفيات نفسية وثقافية مختلفة عند “الضحية” و”الظالم”، وبسياقات محددة نتجنب ذكرها عند الحديث عن الضحايا أو الناجيات. ونعتبر أن التضامن مع الضحية فعلٌ أخلاقيٌ، بينما لا نعيد التفكير حول مدى أخلاقية نبذ الظالم المفترض اجتماعياً وثقافياً وإنسانياً، ونصل حتى الى نبذ أي منتج ثقافي له، من دون التأكد من السياق الذي وضعه في هذا المأزق.

في فرنسا، تحوّل عنوان حملة #metoo الشهيرة في نسخته الفرنسية إلى Balance ton porc والتي تعني في العربية “أعلني عن خنزيرك” أو “شِ بخنزيرك” (من الوشاية) والتي تدعو النساء جميعاً إلى الوشاية بالرجل السيئ في حياتهن، بما يفترض أن لكل امرأة خنزيرها. فهل الأمر كذلك حقاً؟ هل بالضرورة أن لكل امرأة منا رجل قد اعتدى عليها ويجب علينا البحث عنه؟ 

تتّفق إحدى صديقاتي النسويات مع العنوان الفرنسي للحملة: نعم، لا بد أن لكل امرأة في حياتها رجلاً معتدياً أو متحرشاً، عليها فقط البحث عنه في ذاتها. لا يعجبني بصراحة هذا الرأي، لا شك في أن كل امرأة فينا قد تعرضت لحوادث اعتداء أو تحرش مختلفة، لكننا لسنا قادرات بالضرورة على تجميع هذه الحوادث وتحميلها لرجل واحد سبّب تعاستنا بسبب فعل قام به. في حياتي مواقف خنزيرية متعددة، لكن ليس بالضرورة أن يكون لي فيها خنزير أوحد يجب علي الوشاية به.

في وجوب العودة إلى السياق

ترد إحدى صديقاتي على “تحرش” رجل في الشارع: “كسمك”، ما أثار اعتراض صديقة أوروبية تعتبر استخدام التعابير الجنسية الأنثوية كشتيمة أمراً مستنكراً. أجد دفاع صديقتي المصرية مقنعاً، حين حاججت بالتمرد الكامن خلف هذا النوع من الشتائم، فأنت في مجتمع شرقي ذكوري يعتبر أن على الانثى المحترمة السكوت وعدم الرد في هذه المواقف، وأنه من المعيب أن تشتم الأنثى (الأميرة بطبعها، لا ندري أين تقع هذه الإمارة تماماً من سطح الأرض)، فالشتيمة التي تطلقينها في هذا الظرف هي فعل تمردي على نظرة مسبقة. تتجرد كلمة “كسمك” هنا من جذرها الإنساني ويحوّلها السياق إلى وسيلة دفاع أولى تستهدف المعتدي، وهو صلب الغاية من الشتيمة: أنا أريد أن أضايق هذا المتحرش! بالطبع لن أستخدم شتائم تتميز بالصوابية السياسية، لن تكفي ولن تكون مجدية، بل سأستخدم ما أعرف أنه سيهينه، على رغم اعتراضي على لب هذه الإهانة.  

هنا نقطة مثيرة للاهتمام: ما نوع الشتائم التي ستختارينها بحسب عرق المتحرش؟ 

هنا في مجتمعاتنا الشرقية لا تزال الأم كائناً طهرانياً، يمنع المس بها أو حتى معرفة اسمها في بعض الحالات، إهانتها باستخدام هذا اللفظ هي ليست إهانة ضمنية لها، وهي ليست إهانة على الإطلاق إلا إذا أخذت في سياقها الذكوري الشرقي.

ربما لو كان المتحرش أو المعتدي ألمانياً لشبهته بهتلر مثلاً أو لربما تأخرت عن موعدي معه لساعة، سيشعر وقتها بالإهانة لا شك. 

في ادعاءات عنف منزلي قد يتبين أن العنف هو أسلوب متبع ومتبادل في المنزل، وهنا وإن تأكدنا أن المرأة قد تلجأ أيضاً إلى العنف ضد شريكها لن نكون منصفين إذا وصمنا الرجل بالعنيف من دون وصم المرأة بأنها عنيفة أيضاً، تجريدها من هذا الوصف هو بحد ذاته وصم لها بالضعف وعدم الندية مع شريكها القوي/الظالم، وهذا ما يعزز شعورها بأنها ضحية. 

تعترض تيارات نسوية على نظرية فرويد في التحليل النفسي كونها اعتمدت على مركزية التطور النفسي للذكر، وبقي التحليل النفسي متحيزاً للرجل حتى ظهور علم النفس النسوي في ستينات القرن العشرين سبعيناته، متأثراً بالموجة النسوية الثانية في الغرب. لكن سيكون من المجحف أن نتجاهل أثر نظرية فرويد على علم النفس الحديث، وبالتحديد في التحليل النفسي والتحليل النفسي النسوي. يرى التحليل النفسي الفرويدي أن التمسك بموقع الضحية قد يشكل صلب وجود الضحية نفسها، كما قد يشكل التمسك بموقع الظالم صلب وجوده. وكما كل العلاقات البشرية فالعلاقة بين الظالم والمظلوم/الضحية في العلاقات الشخصية هي علاقة تكاملية، إذ يكمّل وجود أحدهما وجود الآخر.

قد يبدو أن في هذا الكلام تحميلاً للضحية ذنب واقعها، لكنه في صلبه ليس كذلك، بل هو يبحث في ظرف العلاقة نفسها قبل إطلاق الوصم على كل من الضحية وظالمها. من وجهة نظر تحليل النفس النسوي، لا يشترط أن تكون الضحية هي المرأة بالضرورة، إذ ترى بعض باحثاته أن الشعور بالدونية ليس فطرياً كما اقترح فرويد، بل نتاج تنشئة اجتماعية وثقافية لم تخل من التمييز الجندري. لكننا بدأنا نعمم دور الضحية، وبالتالي الإحساس الفطري بالدونية، على النساء، بسبب تكرار حالات الاعتداء والعنف ضدهن عبر الأزمنة. هذا التعميم أو الافتراض، جعلنا نتعامل مع الضحية كفكرة مطلقة، من دون الأخذ بالاعتبار خلفياتها النفسية والظرفية والشخصية، ومن دون التفكير في خلفيات الظالم أيضاً.

لقد افترضنا فوراً براءة الضحية من أي دور لها (حتى ولو كان دوراً نفسياً) في الفعل الذي وقع ضدها، وهذه البراءة، وإن كانت محقة بالفعل، لكنها حين إسقاطها بالتبعية على جميع النساء بوصفهن ضحايا توقعنا في فخ الاستحقاق المطلق.

في صداقة المتحرش

بعد انتشار حملة me too، وتوالي الأخبار عن المتحرشين والمعنفين الذين كانوا بيننا ثم أقصيناهم بين ليلة وضحاها، توجهت بسؤال إلى أصدقائي الذكور: كيف يجب أن أتصرف حين أسمع أن واحداً منكم معتدٍ او متحرش؟ أجابت الغالبية منهم بأنه يجب علي أن أتعاطف مع الضحية وألا أحاول الدفاع عنهم. لكن ماذا عن علاقتي الشخصية بهم؟

في البداية، وحين سُيتهم أحد من دائرتي القريبة بالتحرش أو الاعتداء سأحاول التأكد من أن الفعل حصل بسماع رواية الطرفين، ثم سأبحث عن السياق: هل صديقي المعنِّف قد تعرض هو أيضاً للتعنيف من صديقته مثلاً؟ هل تحرش بها فعلاً أم كان الفعل رضائياً؟ قد يصل الأمر أحياناً إلى انتظار نتيجة قضائية بثبوت الفعل. لنفترض أن كل هذا قد حدث، وثبت بالدليل القاطع أن صديقي العزيز متحرش، ماذا أفعل؟

يتجه المنظور العام في هذه الحالات إلى إقصاء هذا الصديق ونبذه كجزء من نبذ اجتماعي ومهني أكبر. ويتعرض أي شخص تعامل مع هذه المعتدي للوصم والإقصاء أيضاً. لكن ماذا عن الظرف الشخصي؟

ألا يكفي مني كصديقة لهذا المعتدي أن أحذّر كل من تحاول الاقتراب منه؟ ألا يكفي أن أعترف بسوء فعله وأحاول قدر الإمكان دعم ضحاياه؟ هل يجب علي أن أقصيه أنا أيضاً؟ أن أرمي ورائي علاقة كاملة بتشابكات نفسية وشخصية معقدة؟ من يقرر ذلك؟

لماذا خيار المقاطعة النهائية، ألا يشبه هذا حكم الإعدام؟ أليست لكل مجرم حقوق إنسانية تكفلها القوانين؟ أعتقد أن حب الأسرة والأصدقاء ليس مرناً أمام دعوات الإقصاء للأسف.

في سياسة الكيل بمكيالين

إجبار المرأة على الإنجاب يعدّ شكلاً من أشكال التعنيف ضد النساء، فالمرأة وحدها تقرر إن كانت ستنجب أم لا، أليس كذلك؟

تميل بعض النسويات إلى إلزام الرجل بقبول وتحمّل مسؤولية أطفال لم يختر إنجابهم، كما يميل بعضهن إلى إجبار الشريك على قبول خيار الحملها كقرار مشترك. نعرف الكثير من الرجال اللاإنجابيين، ألا يعدّ تجاهل خيارهم ومن ثم توريطهم بمسؤولية طفل إجحافاً؟ أليس إقصاؤنا كنسويات خيارات هؤلاء الرجال كيلاً بمكيالين؟

يجب أن ننتبه حين تتحول النسوية إلى ذكورية أخرى، ليس حفاظاً على امتيازات الذكور، بل سعياً وراء استحقاقنا نحن. النسوية تهدف إلى إلغاء الوصاية على أجسادنا وحيواتنا، لا إلى وصايتنا نحن على أجساد الآخرين.

ألا يفترض بالضرورة اعترافنا وقبولنا باستخدام مصطلح كـ”النسوية الإسلامية”، أننا نفهم ضرورة تفكيك المفاهيم لجعلها مناسبة للمجتمع الذي نريد طرحها فيه؟ وأنه لن يكون من المجدي أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون: أن نتصرف من موقع قوة لسنا فيه، وأن نطرح حرباً افتراضية شاملة تجاه الذكور. بينما ما نحتاجه فعلاً هو الدخول في هذه المجتمعات وفهم اختلافاتها وتميزها، وكسب ما نستطيع كسبه من الحلفاء الرجال لنتمكن من الوصول إلى رجال الضفة الأخرى.

حين ننقل صراعنا ليصبح صراعاً مع الرجل كصفة بيولوجية، سنخسر الرجال الذين في صفنا (في هذا الصراع) كما سنخسر الصراع ضد الذكورية السامة نفسها باختيار محاربتها بسلاح أبيض، بمعنى أننا نأخذ الفكر النسوي الغربي كقالب من دون تفكيكه وتحليله، ونطرحه في مجتمعات بعيدة كل البعد عن الواقع الاجتماعي الغربي.

للأسف، نحن مضطرون لمعرفة السياق قبل أن نصدق الناجيات أو نعزز أختيتنا بالتضامن المسبق مع ما نسميه، أو ما يسمين أنفسهن به: ضحايا. الاستيراد الكسول للمفاهيم الجامدة سيدخلنا في معارك لا نتيجة لها سوى الاستنزاف المجاني.

25.03.2025
زمن القراءة: 8 minutes

يجب أن ننتبه حين تتحول النسوية إلى ذكورية أخرى، ليس حفاظاً على امتيازات الذكور، بل سعياً وراء استحقاقنا نحن. النسوية تهدف إلى إلغاء الوصاية على أجسادنا وحيواتنا، لا إلى وصايتنا نحن على أجساد الآخرين.

المدفأة الحجرية مشتعلة، كأس نبيذ وسيجارة ملغومة، سهرة جميلة مع أصدقائي، safe apace  كما يسمونها، الدنيا أمان كما يقولون. في السهرة بعض الرجال من أصدقائي المقربين، أفكر: هل أنا في مأمن حقاً؟ هل أشعر بالأمان بين مجموعة من الرجال السكارى؟ أم أنا أشعر بالأمان بين أصدقائي السكارى؟ هل الظرف هنا من يحكم؟ 

أفكر في صراعي مع الجنس الآخر: أنا أصبّ غضبي على أصدقائي الذكور أحياناً، فهم يستحملون مني سيلاً من العنف والعدوانية المرتبطة بتقلباتي الشخصية. عدا عن العدوانية الموسمية في كل حادثة عنف أو استهداف تطاول امرأة ما في العالم. يستحمل الذكور من حولي ذنباً لا يد لهم فيه سوى أنهم رجال لسوء حظهم.

مع انتشار الفكر النسوي “أخيراً”، بدأت ألاحظ ردات فعل أصدقائي الرجال، يستأذنون كثيراً قبل الإتيان بأي حركة، يسألونني قبل مواعدة فتاة جديدة: هل سيكون من اللطيف أن أفتح لها باب السيارة؟ هل ستكون بادرة لطيفة لو دفعت أنا الحساب في الموعد الأول أم ستعتبرها ذكورية مني؟

بين الحين والآخر يعاود انتشار ترند من سيدفع الحساب في الموعد الأول؟ الرجال أم النساء أم نتقاسم؟ بعض صديقاتي يعتبرن أن افتراض أن الرجل هو من سيدفع الحساب بشكل بديهي ينتقص من قيمتهن. ماذا لو كنت أملك مالاً أكثر؟ هل عليه أن يؤجل دعوتي إلى الموعد الأول حتى يؤمن مبلغاً كافياً؟ ألا يمكن أن نختصر هذا كله بأن أدعوه أنا إلى عشاء على حسابي؟ من قال إن على الرجل أن يدفع في الموعد الأول؟ يعترض صديقي، إذ على الرجل أن يدفع الحساب كبادرة احترام ودلال للمرأة التي يريد لفت نظرها. حسناً! ماذا نقدم نحن النساء كبادرة من طرفنا للرجال الذين نريد لفت نظرهم؟

يضحك صديقي: لا طائل من كل هذا النقاش، إذ نحن على مقربة من أن تصبح دعوة امرأة إلى العشاء أو إلى فنجان قهوة نوعاً من التحرش. 

في الحدود المفترضة

تقول صديقتي إن الحد يقف عند كلمة لا، كل بادرة بعد الرفض تعتبر تحرشاً. بينما تعتبر أخرى أن هذا الحد غير موجود، فكل انتهاك لمساحة المرأة هو تحرش وفرض. أشعر بالخجل أمام صديقتي هذه وأنا سعيدة بمعاكسة سمعتها في الشارع قبل وصولي، وقد طلب مني صاحبها أن أضيفه على إنستغرام، وهو ما فعلت. ربما لأني وبكل سطحية أُعجبت بشكله وبمظهره، ربما لو لم يعجبني لاعتبرت بادرته تحرشاً؟ هل هذا هو الحد الخاص بي فعلاً؟

في سؤال عن المعاكسات في الشارع تقول إحدى صديقاتي إنها مستعدة لتقبل المعاكسة الذكية والمضحكة، بينما ترفض أخرى أي نوع من المعاكسات، كلها تعتبر تحرشاً. يقف صديقي حائراً بيننا حذراً من أخذ جانب أحد الرأيين، من الأسلم له أن يبقى على الحياد.

تميل تيارات نسوية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى تبني المدارس النسوية الأكثر تطرفاً، والتي بنيت أساساً في مجتمعات وصلت إلى درجة عالية من احترام حقوق الإنسان عامة، والنساء والأقليات ومجتمع الميم بشكل خاص، بعد تاريخ من النضال في سبيل الحقوق الفردانية والحرية الشخصية، ما سهل الوصول الى هذه النتيجة.

ألا يحمل قول “أنا أصدق الناجيات” في طياته اعترافاً مسبقاً بالمرأة/الضحية والرجل/المعتدي أو الظالم؟

حين نفترض استحقاقية المرأة لمجرد كونها امرأة، وذنب الرجل لمجرد أنه رجل، ألا يخلّ ذلك بالمبدأ الأساس في النظرية النسوية: المساواة؟

هشاشة شعرة معاوية التي تحوّل الفعل إلى نوع من “التحرش” او “الاعتداء”، تصعّب علينا رؤية حدود واضحة نبني عليها تعريفاً حقيقياً للاعتداء. فالفعل نفسه شديد الظرفية، بخلفيات نفسية وثقافية مختلفة عند “الضحية” و”الظالم”، وبسياقات محددة نتجنب ذكرها عند الحديث عن الضحايا أو الناجيات. ونعتبر أن التضامن مع الضحية فعلٌ أخلاقيٌ، بينما لا نعيد التفكير حول مدى أخلاقية نبذ الظالم المفترض اجتماعياً وثقافياً وإنسانياً، ونصل حتى الى نبذ أي منتج ثقافي له، من دون التأكد من السياق الذي وضعه في هذا المأزق.

في فرنسا، تحوّل عنوان حملة #metoo الشهيرة في نسخته الفرنسية إلى Balance ton porc والتي تعني في العربية “أعلني عن خنزيرك” أو “شِ بخنزيرك” (من الوشاية) والتي تدعو النساء جميعاً إلى الوشاية بالرجل السيئ في حياتهن، بما يفترض أن لكل امرأة خنزيرها. فهل الأمر كذلك حقاً؟ هل بالضرورة أن لكل امرأة منا رجل قد اعتدى عليها ويجب علينا البحث عنه؟ 

تتّفق إحدى صديقاتي النسويات مع العنوان الفرنسي للحملة: نعم، لا بد أن لكل امرأة في حياتها رجلاً معتدياً أو متحرشاً، عليها فقط البحث عنه في ذاتها. لا يعجبني بصراحة هذا الرأي، لا شك في أن كل امرأة فينا قد تعرضت لحوادث اعتداء أو تحرش مختلفة، لكننا لسنا قادرات بالضرورة على تجميع هذه الحوادث وتحميلها لرجل واحد سبّب تعاستنا بسبب فعل قام به. في حياتي مواقف خنزيرية متعددة، لكن ليس بالضرورة أن يكون لي فيها خنزير أوحد يجب علي الوشاية به.

في وجوب العودة إلى السياق

ترد إحدى صديقاتي على “تحرش” رجل في الشارع: “كسمك”، ما أثار اعتراض صديقة أوروبية تعتبر استخدام التعابير الجنسية الأنثوية كشتيمة أمراً مستنكراً. أجد دفاع صديقتي المصرية مقنعاً، حين حاججت بالتمرد الكامن خلف هذا النوع من الشتائم، فأنت في مجتمع شرقي ذكوري يعتبر أن على الانثى المحترمة السكوت وعدم الرد في هذه المواقف، وأنه من المعيب أن تشتم الأنثى (الأميرة بطبعها، لا ندري أين تقع هذه الإمارة تماماً من سطح الأرض)، فالشتيمة التي تطلقينها في هذا الظرف هي فعل تمردي على نظرة مسبقة. تتجرد كلمة “كسمك” هنا من جذرها الإنساني ويحوّلها السياق إلى وسيلة دفاع أولى تستهدف المعتدي، وهو صلب الغاية من الشتيمة: أنا أريد أن أضايق هذا المتحرش! بالطبع لن أستخدم شتائم تتميز بالصوابية السياسية، لن تكفي ولن تكون مجدية، بل سأستخدم ما أعرف أنه سيهينه، على رغم اعتراضي على لب هذه الإهانة.  

هنا نقطة مثيرة للاهتمام: ما نوع الشتائم التي ستختارينها بحسب عرق المتحرش؟ 

هنا في مجتمعاتنا الشرقية لا تزال الأم كائناً طهرانياً، يمنع المس بها أو حتى معرفة اسمها في بعض الحالات، إهانتها باستخدام هذا اللفظ هي ليست إهانة ضمنية لها، وهي ليست إهانة على الإطلاق إلا إذا أخذت في سياقها الذكوري الشرقي.

ربما لو كان المتحرش أو المعتدي ألمانياً لشبهته بهتلر مثلاً أو لربما تأخرت عن موعدي معه لساعة، سيشعر وقتها بالإهانة لا شك. 

في ادعاءات عنف منزلي قد يتبين أن العنف هو أسلوب متبع ومتبادل في المنزل، وهنا وإن تأكدنا أن المرأة قد تلجأ أيضاً إلى العنف ضد شريكها لن نكون منصفين إذا وصمنا الرجل بالعنيف من دون وصم المرأة بأنها عنيفة أيضاً، تجريدها من هذا الوصف هو بحد ذاته وصم لها بالضعف وعدم الندية مع شريكها القوي/الظالم، وهذا ما يعزز شعورها بأنها ضحية. 

تعترض تيارات نسوية على نظرية فرويد في التحليل النفسي كونها اعتمدت على مركزية التطور النفسي للذكر، وبقي التحليل النفسي متحيزاً للرجل حتى ظهور علم النفس النسوي في ستينات القرن العشرين سبعيناته، متأثراً بالموجة النسوية الثانية في الغرب. لكن سيكون من المجحف أن نتجاهل أثر نظرية فرويد على علم النفس الحديث، وبالتحديد في التحليل النفسي والتحليل النفسي النسوي. يرى التحليل النفسي الفرويدي أن التمسك بموقع الضحية قد يشكل صلب وجود الضحية نفسها، كما قد يشكل التمسك بموقع الظالم صلب وجوده. وكما كل العلاقات البشرية فالعلاقة بين الظالم والمظلوم/الضحية في العلاقات الشخصية هي علاقة تكاملية، إذ يكمّل وجود أحدهما وجود الآخر.

قد يبدو أن في هذا الكلام تحميلاً للضحية ذنب واقعها، لكنه في صلبه ليس كذلك، بل هو يبحث في ظرف العلاقة نفسها قبل إطلاق الوصم على كل من الضحية وظالمها. من وجهة نظر تحليل النفس النسوي، لا يشترط أن تكون الضحية هي المرأة بالضرورة، إذ ترى بعض باحثاته أن الشعور بالدونية ليس فطرياً كما اقترح فرويد، بل نتاج تنشئة اجتماعية وثقافية لم تخل من التمييز الجندري. لكننا بدأنا نعمم دور الضحية، وبالتالي الإحساس الفطري بالدونية، على النساء، بسبب تكرار حالات الاعتداء والعنف ضدهن عبر الأزمنة. هذا التعميم أو الافتراض، جعلنا نتعامل مع الضحية كفكرة مطلقة، من دون الأخذ بالاعتبار خلفياتها النفسية والظرفية والشخصية، ومن دون التفكير في خلفيات الظالم أيضاً.

لقد افترضنا فوراً براءة الضحية من أي دور لها (حتى ولو كان دوراً نفسياً) في الفعل الذي وقع ضدها، وهذه البراءة، وإن كانت محقة بالفعل، لكنها حين إسقاطها بالتبعية على جميع النساء بوصفهن ضحايا توقعنا في فخ الاستحقاق المطلق.

في صداقة المتحرش

بعد انتشار حملة me too، وتوالي الأخبار عن المتحرشين والمعنفين الذين كانوا بيننا ثم أقصيناهم بين ليلة وضحاها، توجهت بسؤال إلى أصدقائي الذكور: كيف يجب أن أتصرف حين أسمع أن واحداً منكم معتدٍ او متحرش؟ أجابت الغالبية منهم بأنه يجب علي أن أتعاطف مع الضحية وألا أحاول الدفاع عنهم. لكن ماذا عن علاقتي الشخصية بهم؟

في البداية، وحين سُيتهم أحد من دائرتي القريبة بالتحرش أو الاعتداء سأحاول التأكد من أن الفعل حصل بسماع رواية الطرفين، ثم سأبحث عن السياق: هل صديقي المعنِّف قد تعرض هو أيضاً للتعنيف من صديقته مثلاً؟ هل تحرش بها فعلاً أم كان الفعل رضائياً؟ قد يصل الأمر أحياناً إلى انتظار نتيجة قضائية بثبوت الفعل. لنفترض أن كل هذا قد حدث، وثبت بالدليل القاطع أن صديقي العزيز متحرش، ماذا أفعل؟

يتجه المنظور العام في هذه الحالات إلى إقصاء هذا الصديق ونبذه كجزء من نبذ اجتماعي ومهني أكبر. ويتعرض أي شخص تعامل مع هذه المعتدي للوصم والإقصاء أيضاً. لكن ماذا عن الظرف الشخصي؟

ألا يكفي مني كصديقة لهذا المعتدي أن أحذّر كل من تحاول الاقتراب منه؟ ألا يكفي أن أعترف بسوء فعله وأحاول قدر الإمكان دعم ضحاياه؟ هل يجب علي أن أقصيه أنا أيضاً؟ أن أرمي ورائي علاقة كاملة بتشابكات نفسية وشخصية معقدة؟ من يقرر ذلك؟

لماذا خيار المقاطعة النهائية، ألا يشبه هذا حكم الإعدام؟ أليست لكل مجرم حقوق إنسانية تكفلها القوانين؟ أعتقد أن حب الأسرة والأصدقاء ليس مرناً أمام دعوات الإقصاء للأسف.

في سياسة الكيل بمكيالين

إجبار المرأة على الإنجاب يعدّ شكلاً من أشكال التعنيف ضد النساء، فالمرأة وحدها تقرر إن كانت ستنجب أم لا، أليس كذلك؟

تميل بعض النسويات إلى إلزام الرجل بقبول وتحمّل مسؤولية أطفال لم يختر إنجابهم، كما يميل بعضهن إلى إجبار الشريك على قبول خيار الحملها كقرار مشترك. نعرف الكثير من الرجال اللاإنجابيين، ألا يعدّ تجاهل خيارهم ومن ثم توريطهم بمسؤولية طفل إجحافاً؟ أليس إقصاؤنا كنسويات خيارات هؤلاء الرجال كيلاً بمكيالين؟

يجب أن ننتبه حين تتحول النسوية إلى ذكورية أخرى، ليس حفاظاً على امتيازات الذكور، بل سعياً وراء استحقاقنا نحن. النسوية تهدف إلى إلغاء الوصاية على أجسادنا وحيواتنا، لا إلى وصايتنا نحن على أجساد الآخرين.

ألا يفترض بالضرورة اعترافنا وقبولنا باستخدام مصطلح كـ”النسوية الإسلامية”، أننا نفهم ضرورة تفكيك المفاهيم لجعلها مناسبة للمجتمع الذي نريد طرحها فيه؟ وأنه لن يكون من المجدي أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون: أن نتصرف من موقع قوة لسنا فيه، وأن نطرح حرباً افتراضية شاملة تجاه الذكور. بينما ما نحتاجه فعلاً هو الدخول في هذه المجتمعات وفهم اختلافاتها وتميزها، وكسب ما نستطيع كسبه من الحلفاء الرجال لنتمكن من الوصول إلى رجال الضفة الأخرى.

حين ننقل صراعنا ليصبح صراعاً مع الرجل كصفة بيولوجية، سنخسر الرجال الذين في صفنا (في هذا الصراع) كما سنخسر الصراع ضد الذكورية السامة نفسها باختيار محاربتها بسلاح أبيض، بمعنى أننا نأخذ الفكر النسوي الغربي كقالب من دون تفكيكه وتحليله، ونطرحه في مجتمعات بعيدة كل البعد عن الواقع الاجتماعي الغربي.

للأسف، نحن مضطرون لمعرفة السياق قبل أن نصدق الناجيات أو نعزز أختيتنا بالتضامن المسبق مع ما نسميه، أو ما يسمين أنفسهن به: ضحايا. الاستيراد الكسول للمفاهيم الجامدة سيدخلنا في معارك لا نتيجة لها سوى الاستنزاف المجاني.

25.03.2025
زمن القراءة: 8 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية