بقلم ميراندا پاتروسيك وكيلي بلوس
هذا الموضوع جزء من “مشروع بيغاسوس” وهو تحقيق استقصائي تعاوني تم تنسيقه عبر “قصص محظورة” أو Forbidden Stories للصحافة ومقره باريس، والمختبر التقني لمنظمة العفو الدولية. المشروع يحقق في داتا مرتبطة بمجموعة NSO الإسرائيلية للاستخبارات الرقمية والتي تبيع أنظمة مراقبة متطورة للحكومات حول العالم.
80 صحافياً يمثلون 17 مؤسسة إعلامية من حول العالم، بينها موقع “درج”، عملوا لإنتاج سلسلة التحقيقات هذه.
في أيار/ مايو من هذا العام، سافر ثلاثة من كبار محرّري «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» (OCCRP) إلى مدينة أنقرة لمقابلة امرأة لم يلتقوا بها منذ سنوات.
خديجة إسماعيلوفا هي الصحافية الاستقصائية الأكثر شهرةً في آذربيجان، وهي زميلة قديمة وصديقة حميمة. هي بمثابة فرد من العائلة. بسبب نشاطاتها الرائدة، أمضت خديجة 18 شهراً في السجن، تلتها خمس سنوات من حظر السفر. لكنها الآن أصبحت أخيراً حرّة.
طالت ليلة الاحتفال التي كانت أشبه بوليمةٍ كبرى ومائدةٍ من السّلطات والأسماك المشوية والمقبلات التركية. كانت خديجة قد أعدّت طبق «دولما» التقليدي- ورق العنب المحشو بلحم البقر- وأحضرته من آذربيجان خصيصاً لهذه المناسبة.
روت إسماعيلوفا قصصاً عن فترة سجنها: كيف رفضت تناول المسكنات من سجّانيها بعدما اقتلع طبيب السّجن سنّها، وكيف تغلّبت على النساء الأخريات- من ضمنهنّ المجرمات المحترفات- من خلال مشاركة الطعام والنصائح. (كانت بمثابة “طبيبتهنّ النفسية”، على حد تعبيرها). كانت هناك أيضاً قصص أحدث وأكثر حزناً، إذ قُتِلَ ابن أخيها، وهو شاب لا يتجاوز الـ21 سنة، في الحرب التي وقعت العام الماضي مع أرمينيا.
لكن خلف الابتسامات والدموع، كان يسود جوٌّ من التوتّر. فلمدّة أشهر، كان محرّرو «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» قد أخفوا معلومات مهلكة عن إسماعيلوفا، وكان الوقت قد حان لإخبارها عن السبب الحقيقي لوجودهم هناك.
منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، تم استهداف هاتف خديجة المحمول بواسطة «بيغاسوس»، وهو برنامج تجسّسي شديد التعقيد وذات قدرات مرعبة. إذ يستطيع البرنامج تسجيل المكالمات الهاتفية وقراءة الرسائل النصية والولوج إلى الصوَر وكلمات المرور وتتبع بيانات «نظام التّموضع العالمي» (GPS) وإجراء تسجيلات صوت وفيديو بشكلٍ سِرِّيّ. بدون أدنى إشارة إلى أي خطب، يستطيع برنامج «بيغاسوس» نقل كل هذا إلى مشغّليه السّريّين.
قامت بتطوير هذا البرنامج مجموعة «إن إس أو»، وهي شركة مراقبة إلكترونية إسرائيلية باعت البرنامج للحكومة الآذربيجانية، وهي من عشرات زبائنها الجُدُد حول العالم.
خديجة ليست الوحيدة. فقد تم استهداف مئات الصحافيين والنشطاء من جميع أنحاء العالم بواسطة هذا البرنامج. وقد تم التعرف إلى أسمائهم من خلال تسريب لأكثر من 50000 رقم هاتف تم اختيارها من قبل 12 من عملاء مجموعة «إن إس أو». حصلت على هذه القائمة «منظمة العفو الدولية» ومنظّمة «فوربيدن ستوريز»، وشاركتاها مع «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» و 16 وسيلة إعلامية أخرى.
لكن بالنسبة إلى إسماعيلوفا، كان الشاغل الرئيسي في الوقت الحالي هو ما إذا كانت قد كشفت أو فضحت أي شخصٍ آخر.
فكّرت في الأمر طوال الليل، في محاولة منها لتذكر محتوى ما أرسلته ولمن من الأشخاص.
قالت في اليوم التالي: “إنه أمرٌ مريع، فأنت تجعل من الجميع هدفاً”.
“أفراد عائلتي هم أيضاً مستهدفون. كذلك الأمر بالنسبة إلى المصادر التي أتعامل معها والأشخاص الذين كنت أعمل معهم، وجميع من أخبروني بأسرارهم الخاصة. جميعهم مستهدفون”.
يشكّل هذا الإدراك- بأن المراقبة الحكومية السرية لا تؤثر في الشخص المُراقَب فقط، بل تطاول شبكة كاملة من الأصدقاء والأحباء والزملاء المحيطين به- أحد الاكتشافات الرئيسية لـ«مشروع بيغاسوس».
إنما هناك آخرون. تتمتّع مجموعة «إن إس أو» بسريّةٍ عالية جداً لدرجة أنه- وعلى رغم الاشتباه بالأمر منذ فترة طويلة- لم يتم التأكد حتى الآن من أن الحكومة الآذربيجانية هي بالفعل واحدة من زبائن الشركة. تُظهِر أرقام الهواتف الآذربيجانية التي تتعدّى الألف رقم، والمُدرَجة في القائمة المُسرَّبة، وبدقّةٍ وخصوصيّة تقشعر لها الأبدان، الهدف من استخدام هذا البرنامج.
أمضى الصحافيون شهوراً في تحديد هوية الأشخاص الذين يملكون تلك الأرقام، ونجحوا في التحقق من ربعهم تقريباً.
ما أدركوه كان صادماً. إذ بينما تتفاخر مجموعة «إن إس أو» بتطويرها لأفضل تكنولوجيا من نوعها لمساعدة الحكومات على كشف الأعمال الإرهابيّة والجرائم ومنعها، تُظهِر قائمة الضحايا الآذربيجانيين كيف أسيء استخدام البرنامج بشكلٍ منهجي. تنتمي جميع الأرقام التي حدّدها الصحافيون، باستثناء عددٍ قليلٍ منها، إلى صحافيين ونشطاء ومحامين وأعضاء ينتمون إلى المعارضة الصغيرة والمحاصرة في آذربيجان.
وجد نظام الرئيس إلهام علييف في برنامج مجموعة «إن إس أو» حليفاً قوياً في حملته التي استمرت لسنوات من الترهيب والقمع والإرهاب.
ليس معروفاً متى بالضبط أصبحت آذربيجان واحدة من عملاء مجموعة «إن إس أو». بدأ الاستهداف للمرة الأولى في أواخر عام 2018، وتسارع في الربيع الذي تلاه، تماماً وبالتزامن مع موجة الاحتجاجات والمطالبات بالحرية السياسية في البلاد.
خديجة إسماعيلوفا هي واحدة من أشد المدافعين عن الحرية والديموقراطية في بلادها. لكن في الوقت الحالي، كل ذلك أصبح في الخلفية.
أثناء تصفّحها القائمة التي تضم أكثر من 1000 رقم هاتف آذربيجاني مستهدف، تعرّفت خديجة، رقماً تلو الآخر، إلى أرقام ابنة أخيها، وصديق لها، وسائق “التاكسي” الخاص بها.
“هو أيضاً!”، لا تنفك تنهمر الدموع من عينيها، “هي أيضاً!”.
إقرأوا أيضاً:
كبار مُعارضي النظام تحت النار
تُظهر البيانات التي حصل عليها «مشروع بيغاسوس» أنه تم اختيار أكثر من 1000 رقم هاتف آذربيجاني للاستهداف في عامَي 2018 و2019.
لطالما أصرّت مجموعة «إن إس أو» على أنها تبيع برنامج «پيغاسوس» للحكومات فقط، ما أدى إلى استنتاج مفاده أن مشغل البرنامج هو الدولة الآذربيجانية. لكن، وعلى رغم زَعم الشركة أنه يُسمَحُ لعملائها باستهداف المجرمين والإرهابيين بشكلٍ حصريّ، إلّا أن تحقيق «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» يظهر أن الواقع مختلف تماماً.
من بين 250 رقماً آذربيجانياً مستهدفاً، كانت الفئة الأكبر من الصحافيين، مع ظهور 59 رقماً لمراسلين صحافيين ومحرّرين وأصحاب شركات إعلامية.
قد لا يكون هذا الأمر مفاجئاً بالنسبة إلى النشطاء في مجال مراقبة حقوق الإنسان وبالنسبة إلى المنظمات الدولية التي لطالما أدانت حكومة الرئيس إلهام علييف لقمعها حرية الصحافة منذ سنوات.
لكن نطاق التّجسُّس كان صادماً.
إضافة إلى إسماعيلوفا – التي يمكن اعتبارها هيئة إعلامية كاملة في حد ذاتها – فإن أحد أشهر مصادر الأخبار الآذربيجانية المستقلة هو «ميدان»، وهي شبكة بث رقمية على الإنترنت تصل إلى جمهورها بشكل أساسي من خلال مواقع مثل “يوتيوب” و”فايسبوك”، حيث يصل عدد متابعيها إلى أكثر من 700 ألف مشاهد.
في أعقاب حملة القمع الواسعة النطاق التي حصلت عام 2013، قرّر مؤسّسو شبكة «ميدان» إنشاء المقر الرئيسي لمنظمتهم في العاصمة الألمانيّة برلين، على رغم اعتمادها على المراسلين المحليين والصحافيين المستقلين الذين يتعيّن عليهم غالباً العمل سِرّاً.
إحدى أشهر مراسلات شبكة «ميدان» وصديقة مقرّبة لخديجة إسماعيلوفا، هي امرأة شابة تُدعى سيفينج فاكيفكيزي، ظَهَرَ رقم هاتفها في القائمة المسربة. ونظراً لوجودها حالياً في برلين في إطار بعثةٍ دراسيّة، تمكّن أعضاء «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» من مقابلتها بهدف إجراء تحليل جنائي لهاتفها.
تماماً كما هو الحال مع خديجة، كان هاتف سيفينج مملوءاً بآثار برنامج «پيغاسوس». في الواقع، لقد تجاوزت نتائج التحليل الجنائي الفترة التي تغطيها البيانات، التي أظهرت أن هاتفها كان مُخترقاً على الأقل حتى شهر أيار/ مايو 2021.
الهواتف والأدلّة الجنائيّة
تم اختيار 1000 رقم آذربيجاني في القائمة المسربة لاستهدافها بواسطة برنامج «بيغاسوس». لكن، وجود رقم هاتفي في القائمة لا يعني في حد ذاته أن الهاتف قد تعرّض بالفعل للاختراق.
أجرى مختبر الأمن التابع لـ«منظمة العفو الدولية» تحليلات جنائيّة مفصّلة على هاتفين موجودين في القائمة – خديجة إسماعيلوفا وسيفينج فاكيفكيزي – ووجد أن كلاهما مُخترق بالفعل ببرنامج «پيغاسوس».
كجزء من تحقيق «مشروع پيغاسوس»، تم إجراء تحليلات على هواتف من دول أخرى أيضاً. من بين أجهزة «iPhone» الـ41 التي احتفظت ببيانات خلال الفترة الزمنية نفسها، تم العثور على 35 جهازاً مُختَرَقاً، وهو معدل إيجابي بنسبة 85 في المئة.
راجعوا «الأسئلة المتكرّرة» لمزيد من المعلومات حول المشروع والبيانات المرتبطة به وكيفيّة ارتباط التحليل الجنائي بمجموعة «إن إس أو».
أدركت سيفينج فاكيفكيزي منذ فترة طويلة أنها كانت تحت المراقبة. تم اعتقالها وفُرِضَ عليها حظر السفر وتعرضت للأذى بسبب تقاريرها الصحافيّة.
تقول: “اعتقدت أن جهاز الأمن التابع لنا كان يتابع مكالماتنا الهاتفية بغية الحصول على معلوماتنا، ولكنني لم أتخيل أبداً أنهم يتتبّعون جميع خطواتي على الإنترنت وأن بإمكانهم الحصول على صُوَري الخاصة وقائمة الأرقام الهاتفيّة الخاصة بي”.
مثل خديجة، كان شاغلها الرئيسي هو إمكانيّة تعريضها الآخرين للخطر، بخاصة في ما يتعلق بزملائها في شبكة «ميدان». وبما أن المنظمة تخضع للتحقيق الجنائي في آذربيجان، فإن الكشف عن أسماء زملائها قد تكون له عواقب وخيمة.
كما اتضح، كان أربعة من زملائها الحاليين والسابقين، بمن فيهم المحرر المقيم في باكو أينور إلغوناش، موجودين في قائمة الأرقام المستهدفة من برنامج «بيغاسوس».
صحافيون في الشُّعَيرات المتصالبة
من ضمن الجهات المستهدفة أيضاً عدد من غرف الأخبار الكبرى، منها إذاعة أوروبا الحرة / راديو ليبرتي، وهيئة الأخبار المحلية «آزادليك»، وخورال.
إذاعة أوروبا الحرة / راديو ليبرتي
لطالما كانت إذاعة أوروبا الحرة / راديو ليبرتي، وهي شبكة إخبارية تمولها الولايات المتحدة وتبثّ تقارير في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق، مصدراً مهماً للصحافة المستقلة في آذربيجان. تَظهَر في القائمة المُسربة أرقام أربعة من مراسليها الحاليين والسابقين.
تخضع خدمة اللغة الآذربيجانية «آزادليك راديوسو» لرقابةٍ صارمة وبشكلٍ متزايد منذ عام 2008.
كانت خديجة إسماعيلوفا واحدة من مراسلات هذه الهيئة في «باكو». تقول: “لقد كشفنا عن تزوير حصل في الانتخابات الرئاسية عام 2008، وتلقّينا تهديدات مفادها أن الحكومة لم تكن راضية عن ذلك”.
في ذلك العام، تم حظر الخدمة من الترددات المحلية إلى جانب محطات البث الأجنبية الأخرى. وعام 2014، داهمت الشرطة مكتب الهيئة في باكو ليتم إغلاقه في ما بعد. تستمر الهيئة في مزاولة عملها كموقع على شبكة الإنترنت حتى يومنا هذا، على رغم حظر الموقع في آذربيجان منذ عام 2017.
كما يوجد على قائمة برنامج «بيغاسوس» 10 صحافيين حاليين وسابقين في موقع «آزادليك»، أول صحيفة مستقلة في البلاد. وفي حالة أحد المراسلين، ظهرت في القائمة ثلاثة من أرقامه.
تم إغلاق «آزادليك» بأمر من المحكمة عام 2015. ولم يكن موظفو الصحيفة وحدهم هم الذين تعرّضوا للقمع الشديد، بل استهدف القمع أيضاً أفراد عائلاتهم.
خورال (أو غيره)
إضافة إلى الصحافيين، حدّد «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» أسماء 18 ناشطاً أذربيجانياً أو أفراد عائلاتهم الذين تم اختيارهم للاستهداف. ومن المعروف أن الاستهداف بدأ عام 2018، أي العام الذي شهد بداية فترة مضطربة في البلاد. على رغم الأعمال القمعيّة المتكرّرة التي نفّذها النظام، اندلعت احتجاجات جماهيرية ودعوات للإفراج عن السجناء السياسيين في أواخر 2018 و 2019.
على رغم أن التظاهرات حققت بعض النجاح الذي تجلّى في إطلاق سراح الكثير من السجناء السياسيين بموجب عفو رئاسي، بدا النظام حريصاً على إبقاء أعدائه تحت المراقبة.
عين الحكومة على النشطاء الآذربيجانيين
وظهرت أسماء بعض أشهر معارضي النظام الآذربيجانيين على قائمة «بيغاسوس» المستهدفة المسربة.
مِهمان حسينوف
تم إلقاء القبض على مِهمان حسينوف، وهو مدوّن معروف في مجال مكافحة الفساد، وتعرض للتعذيب والسجن بتهم تشهير وافتراء مُلفَّقة عام 2017.
في العام التالي، وقبل شهرين من انتهاء فترة سجنه، وجهت السلطات تهماً مُلفَّقة جديدة ضد حسينوف، زاعمة أنه اعتدى جسدياً على أحد حُرّاس السجن.
نفى حسينوف الاتهامات وأعلن إضرابه عن الطعام احتجاجاً على ذلك. وسرعان ما انضم إليه سجناء سياسيون آخرون تضامناً معه، ولاقت القضية اهتماماً وانتباهاً واسع النطاق. وفي أوائل عام 2019، خرجت تظاهرات في شوارع العاصمة باكو للمطالبة بالإفراج عنه. في النهاية، أسقطت التهم الجديدة الموجهة إليه وأفرج عنه في شهر آذار/ مارس بعدما كان أمضى مدة العقوبة الأصلية كاملة. تم استهداف حسينوف بواسطة برنامج «بيغاسوس»
بعد أسابيع فقط من إطلاق سراحه.
سَجينا الغرافيتي
بعد فترة وجيزة من إطلاق سراح مِهمان حسينوف، تم إطلاق سراح شابَّين معروفَين على نطاق واسع باسم «سَجينّي الغرافيتي» من السجن. كان كلٌّ من بيرم محمدوف وجِياس إبراهيموف قاما بِرَشّ كتابات غرافيتي مناهضة للنظام على أحد تماثيل والد الرئيس علييف، ووُجِّهت إليهما تهمة حيازة المخدرات في قضية وصفتها جماعات حقوقية دولية بأنها قضيّة ذات دوافع سياسية.
بعد ذلك، استهدف برنامج «بيغاسوس» بيرم محمدوف ووالده، ووالدة جِياس إبراهيموف.
وعلى رغم أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان كانت أمرت الحكومة الآذربيجانية بمنح الشابَّين تعويضات عن انتهاك حقوقهما، إلا أن نهاية القصة لم تكن سعيدة. عندما كان في السادسة والعشرين من عمره فقط، غرق بيرم محمدوف في تركيا التي زارها بهدف تعلّم اللغة الإنكليزية.
الاستبداد الرقمي
إضافة إلى برنامج «پيغاسوس» التابع لمجموعة «إن إس أو»، تمتلك الحكومة الآذربيجانية أدوات كثيرة تحت تصرفها.
“يريدون أن يتحكموا في كل شيء”، تقول أرزو جيبولاييفا، وهي صحافية ومؤسِّسة موقع «آذربيجان إنترنت ووتش» الرقمي الذي يتعقب ويرسم خرائط الترصُّد والرقابة على الإنترنت في البلاد.
تقول جيبولاييفا إنه منذ حملة القمع عام 2008، لاحظت أن الحكومة راحت تستخدم مجموعة متزايدة من تقنيات المراقبة المتطورة، كما قامت بتوثيق العشرات من حالات إساءة الاستخدام.
تقول: “كانوا يملكون أموالاً حينها، وقد أنفقوا الكثير منها على تكنولوجيا المراقبة، وهي ليست برخيصة”.
في إحدى الحالات، قامت الدولة بتركيب «صناديق سود» على المعدات التابعة لشركة «Azercell»، وهي شركة مشغلة للهواتف المحمول كانت تملكها شركة الاتصالات السويدية العملاقة «تيلياسونيرا». سمحت تلك الصناديق للسلطة بمراقبة حركة الإنترنت والمكالمات الهاتفية مباشرةً وفي الوقت الفعلي، مع تحديد هوية عشرات الأشخاص الذين تجرأوا على التصويت لأرمينيا، المنافس الإقليمي لآذربيجان، في مسابقة الأغنية الأوروبية «يوروفيجن» لعام 2009. يتذكر أحدهم أنه قيل له: “ليس لديك أي إحساس بالفخر العرقي! كيف صوّتت لأرمينيا؟”.
على رغم الإقرار بأنها حكومة قمعية، فقد تمكنت آذربيجان من الحصول على أحدث تقنيات المراقبة من شركات استخباراتية وأمنية رائدة حول العالم، من ضمنها «فيرينت سيستم»، «ساندفاين» الكندية، وشركة «آلوت كومونيكايشن» الإسرائيلية.
مدى واسع من القدرات
طويلةٌ هي قائمة منتجات المراقبة الاقتحاميّة التي حصلت عليها الحكومة الآذربيجانية.
كشف تحقيق أجرته شركة «سيتيزن لاب» عام 2014 عن حيازة الحكومة الآذربيجانية برنامج يُسمّى «دا فينتشي»، طوّرته شركة استخبارات إلكترونية إيطالية تُدعى «هاكينغ تيم». على غرار برنامج «إن إس أو» – ولكنه مخصّص لأجهزة الكمبيوتر بدلاً من الهواتف المحمولة – يسمح هذا المنتج للنظام بتسجيل الرسائل الفورية والمحادثات الصوتية وسرقة كلمات المرور وسِجِلّ تصفح المواقع الإلكترونيّة، وحتى تفعيل كاميرا الويب.
قامت الحكومة الآذربيجانية أيضاً بشراء نظام الفحص العميق للحُزم (Deep Packet Inspection) من شركة «فيرينت سيستم» الإسرائيلية الأميركية. تسمح هذه التقنية بالتنصت الرقمي على حركة الإنترنت من خلال نقطة تفتيش، ما يتيح مراقبة الاتصالات في الوقت الفعلي. كما ذكرت صحيفة “هآرتس”، سأل زبون آذربيجاني أحد موظفي الشركة السابقين عن كيفية استخدام النظام “للتحقق من الميول الجنسية عبر موقع فايسبوك”.
كما اشترت الحكومة أيضاً الكثير من المنتجات الأخرى التابعة لنظام الفحص العميق للحُزم، بما في ذلك منتج من شركة كندية تُدعى «ساندفاين» وآخر من شركة «آلوت كومونيكايشن» الإسرائيلية. تم شراء الأخير قبل انعقاد دورة الألعاب الأوروبية في مدينة باكو عام 2015.
وكشف تحقيق أجري عام 2017 أن آذربيجان قامت أيضاً بإنشاء برنامج ضار خاص بها يسمى «AutoItSyp»، والذي يستخدم في هجمات التصيد الاحتيالي (أي الخداع الإلكتروني).
تقول جيبولاييفا: “أثبتت الحكومة أنها ليست مجرد حكومة استبدادية تقليديّة، بل هي في الواقع حكومة استبدادية رقمياً. يريدون الحصول على علامات تبويب جميعها واستخدام تلك المعلومات”.
الإكراه عن طريق العار
في آذربيجان، تتعرّض النساء اللواتي يواجهن النظام مخاطر شخصية بالغة الخطورة.
هناك تكتيك متكرر يتم استخدامه بشكلٍ متكرّر من قبل عملاء الحكومة في السنوات القليلة الماضية، ويتمثّل في طرد النساء المعارضات من المجال العام من خلال التشهير الجنسي.
ومن آخر الضحايا كانت الناشطة والصحافية فاطمة موڤلاملي، التي أصبحت واحدة من أشد المنتقدات للنظام، عندما كانت لا تزال في سن المراهقة. اكتسبت موڤلاملي متابعة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب احتجاجاتها الجريئة والابتكاريّة.
تقول: “أردت أن يراني شخص ما من الجانب الآخر ويقول “آه، الاحتجاج ممكن! عليّ أن أحتجّ أنا أيضاً”.
في نيسان/ أبريل 2019، نُشرت صُوَر موڤلاملي الحميمة ومقطع فيديو لها وهي ترقص على كرسي بملابس كاشفة، وتم تعميمها في حملة منظّمة.
تقول: “في عمرٍ لم أكن أدرك فيه تماماً أنني امرأة، شعرت بالخجل لأنني أمتلك جسداً أنثوياً وأن الناس نظروا إليّ عارية”.
حتى إنها فكرت في الانتحار. “في هذا البلد، حُكم على المرأة أن تعيش في حدود ما يريده الرجل، ويمكن أن يقتل الرجل المرأة ويعدمها لمجرد أنه رأى جسدها”.
شَكَّت موڤلاملي في أن السلطات حصلت على صورها عام 2018، عندما اختطفها عملاء حكوميون يرتدون ملابس مدنية واحتُجزت في مكانٍ انفراديّ لخمسة أيام. تعرضت موڤلاملي للضرب وأُجبِرَت على الإدلاء برمز المرور الخاص بها.
ما لم تكن تعرفه فاطمة آنذاك هو أنه قبل شهر من نشر صورها، كان تم استهدافها بواسطة برنامج «بيغاسوس».
في قضية بارزة أخرى، أدت تكتيكات السلطات إلى فضّ زواج إحدى الشابات ودفعها للقيام بمحاولة انتحار.
إلكين رستم زاده ناشط شاب وعضو قيادي في حركة «آزاد جينكليك» (الشباب الحُرّ) المؤيدة للديموقراطية. منتقدٌ صريحٌ للحكومة، استخدم رستم زاده وزملاؤه النشطاء وسائل التواصل الاجتماعي لتنظيم احتجاجات سلمية.
عام 2014، حُكم عليه بالسجن 8 سنوات بتهمة «تنظيم الفوضى».
لكن، وعلى رغم حصوله على عفوٍ عام 2019، إلا أن متاعبه لم تنتهِ. ففي آذار/ مارس 2020، تم التواصل مع إلكين عبر موقع “فايسبوك”، وبواسطة حسابٍ مجهول لتهديده بنشر صور فاضحة ومسيئة لأمينة، زوجته الجديدة. قال له صاحب الحساب المجهول إن السبيل الوحيد للخروج من هذه الورطة هو رفض عريضة تطالب الحكومة بتقديم المساعدة الاجتماعية للأشخاص المتضررين من جائحة “كورونا”.
بعد رفض رستم زاده ذلك، نُشرت صور أمينة مع اسمها ورقم هاتفها على أحد مواقع المرافقات مقابل أجر.
تلت ذلك موجة من القصص التي نشرتها الصحافة الموالية للحكومة، مع عناوين مثل «إلكين رستم زاده تزوج فتاة لها ماضٍ»، و«زوجة رستم زاده لم تكن عذراء».
في ذلك الصيف، تناولت الشابة حبوباً منوّمة محاولة الانتحار. وبحسب رستم زاده، قام الشخص المجهول ذاته- الذي عرّف عن نفسه بـ«ممثّل عن وزارة الداخليّة”- بتهديد الزوجين مرة أخرى، وكتب «إذا لم يصمت إلكين، فإن ما حدث سابقاً سيحدث مرة أخرى».
طبعاً، تم نشر المزيد من صور فاطمة في مقاطع فيديو على “يوتيوب” و”إنستغرام”. وعلى نحوٍ أحمق أُريدَ من خلاله محاكاة المعايير الغربية، أظهروا الشابة على الشاطئ مرتدية ثوب سباحة وهي تقبّل عشيقها السابق. لكن في آذربيجان المحافظة، كان الضغط الاجتماعي الذي أعقب ذلك شديداً لدرجة دفعت بالزوجين إلى الانفصال.
كتب إلكين على “فايسبوك”: “ما حصل سمّم علاقتنا. لقد أصبح من المستحيل تحمل هذا التّرويع المتواصل. لذلك قررنا الانفصال”.
قالت أمينة رستم زاده لـ«مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد»: “لقد أدانوني بتهمة الإضرار بسمعة العائلة، وكان رد فعل عائلة زوجي السابق سلبيّة للغاية. كانت عائلتي مستاءة للغاية أيضاً”.
ليس هناك ما يشير إلى أن تسريبات صور أمينة كانت مرتبطة بمجموعة «إن إس أو» أو ببرنامج «بيغاسوس». ولكن في أعقاب طلاقها، سُرِّبَت محادثات كانت قد أجرتها مع آخرين حول ما يحصل لها، ونُشِرَت على الإنترنت، ما دفعها للشك في أن هاتفها قد تعرض للاختراق.
تقول: “لقد تحدثت إلى الكثير من الأشخاص لدرجة أنني لا أستطيع حتى أن أتكهّن من الذي قام بالتّسريب. هل سجّلوا المحادثات من هاتفي مباشرةً؟ أم بينما كنت أتحدّث مع أحدهم وجهاً لوجه؟ ربما تم اختراق هاتفي”.
لم يظهر رقم أمينة رستم زاده في القائمة المُسرَّبة، وعلى رغم أن البيانات لا تغطي عام 2020، فإن رقمَي إلكين ووالده مدرجَان في القائمة.
بالنسبة إلى خديجة إسماعيلوفا، التي عانت هي نفسها من التشهير العام المهين لحياتها الشخصية، فإن كل حالة من هذا القبيل هي تذكير بمدى أهمية أن تكون أدوات الاتصال الرقمية “آمنة وبعيدة من أعين الحكومة”.
تقول: “في كل مرة (يتم اختراق شخص ما) كنا نفكر في ذلك. إلى جانب إلقاء اللوم على الحكومة، كنا نفكر أيضاً في الحفاظ على خصوصية اتصالاتنا وربما استخدام أدواتنا الخاصة. ورحنا نوصي بعضنا باستخدام هذا التطبيق أو ذاك”.
“وبالأمس أدركت أنه لا سبيل لذلك. ما لم تحبس نفسك في الخيمة الحديدية، فلن يكون هناك أي طريقة تمنعهم من التدخّل”.
المؤسسات الإعلامية المشاركة في “تسريبات بيغاسوس”:
Forbidden Stories – Le Monde- Suddeutsche Zeitung -Die Zeit – Washington Post – The Guardian -Daraj – Direkt36 – Le Soir – Knack-Radio France – The Wire – Proceso – Aristeui Noticias – OCCRP- Haaretz – PBS Frontline
إقرأوا أيضاً: