fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

تسريبات عن استعداد بوتين لوقف الحرب في أوكرانيا: مناورة أم مبادرة حسن نيّة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أشارت وكالة رويترز عن أربعة مصادر روسية، استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب، ولكن بشريطة اعتراف الجانب الأوكراني بالحدود الحالية، أي بعد استيلاء القوات الروسية على نحو 18 في المئة من الأراضي الأوكرانية،إلى جانب شبه جزيرة القرم التي سبق أن استولت القوات الروسية عليها عام 2014. فهل نحن أمام مناورة أو مبادرة لحسم الحرب ؟.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نقلت وكالة رويترز عن أربعة مصادر روسية، استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب، ولكن بشريطة اعتراف الجانب الأوكراني بالحدود الحالية، أي بعد استيلاء القوات الروسية على نحو 18 في المئة من الأراضي الأوكرانية، إلى جانب شبه جزيرة القرم التي سبق أن استولت القوات الروسية عليها عام 2014. وقالت تلك المصادر إن بوتين يريد استئناف المفاوضات، لكن على أساس “الحقائق على الأرض”، أي باستخدام أسلوب الـ Gunboat diplomacy.

يدرك بوتين أن نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لن يطأطئ رأسه أمام شعبه ويرضخ بسهولة لهذه السياسة الدبلوماسية العدوانية، القائمة على فرض تنازلات كبيرة على الجانب الأوكراني بقوة المدافع، وذلك لأسباب عدة، من بينها تزايد آمال زيلينسكي مجدداً بعودة الزخم الى الدعم العسكري الغربي، بعد إقرار حزمات مساعدات أمنية متتالية في فترة قصيرة من الزمن.

لكن المشكلة الحقيقية التي تواجهها القوات الأوكرانية ليست في نقص الذخائر، إذ بإمكان حكومات الناتو تزويدها بها إلى ما لا نهاية إن عقدت العزم على إطالة أمد الحرب إلى أجل غير مسمّى، بل هي في نقص الجنود والمتطوّعين. وهذه هي نقطة الضعف الأساسية التي يركّز على استغلالها بوتين على المدى الطويل، فهو يسعى إلى فرض خيارين لا ثالث لهما على الأوكرانيين وحلف الناتو، وكلاهما مربحان له.

الخيار الأول، هو استمرار الحرب ضمن الظروف الحالية، واستكمال القوات الروسية قضمها البطيء للمزيد من الأراضي الأوكرانية، وإقرار مراسيم جديدة للتجنيد الإجباري تستهدف عشرات الآلاف من الشباب الروس، فيما يستمر الاستنزاف البشري للقوات الأوكرانية، إضافة إلى تزايد الاستنزاف المالي للحكومات الغربية ودفعها في اتجاه تحويل اقتصاداتها وأنشطتها التجارية نحو الصناعات العسكرية، عبر إجبارها على خلق فرص العمل المستدامة في مجال التصنيع العسكري، حتى تتمكن من تقليص الهوة بينها وبين الاتحاد الروسي في “حرب الذخائر”.

أما الخيار الثاني، فهو قبول الأوكرانيين وحلف الناتو بشروط بوتين لإنهاء الحرب، والثمن هو تكريس التنازل عن 18 في المئة من الأراضي الأوكرانية، في حين أن لا شيء يضمن عدم إشعال بوتين حرباً جديدة في وقت لاحق، بخاصة بعد تكثف العسكرة في الاقتصاد والمجتمع الروسيين على مراحل، إضافة إلى الشروع في إنشاء بنية تحتية عسكرية في المناطق التي تمكنت القوات الروسية من الاستيلاء عليها.

المساعدات الأمنية إلى أوكرانيا تتزايد مجدداً

تخرج المعطيات حول استعداد بوتين وقف الحرب بشروط قاسية، فيما برز ارتفاع ملحوظ في المساعدات الأمنية المباشرة (المعدات العسكرية) خلال الشهر الأخير، إلى جانب القروض والمنح والمساعدات المالية التي قدمتها الحكومات الغربية والمنظمات الدولية لأوكرانيا، والتي بلغت بدورها أرقاماً ضخمة جداً منذ كانون الثاني/ يناير 2022، إذ بلغ عدد المساعدات الإجمالي لأوكرانيا (بين إنسانية وعسكرية وغيرها، ومن كل أنحاء العالم) منذ ذلك الوقت وحتى آذار/ مارس 2024 أكثر من 380 مليار دولار، منها نحو 120 مليار دولار كمساعدات أمنية.

وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن حزمات مساعدات أمنية “تاريخية”، في 24 نيسان/ أبريل 2024 بقيمة مليار دولار، وفي 26 من الشهر ذاته بقيمة 6 مليارات دولار، ثم في 10 أيار/ مايو 2024 بقيمة 400 مليون دولار، وفي 24 من الشهر ذاته بقيمة 275 مليون دولار. وتتضمّن المساعدات الأمنية الأميركية الجديدة التي حصلت أوكرانيا عليها خلال شهر واحد فقط شتى أنواع الذخائر، والقذائف المدفعية، والأسلحة والمعدات الفردية، والصواريخ الدقيقة والموجّهة، وصواريخ الدفاع الجوي، وأنظمة الرادار متعددة المهام والمضادة للمدفعية، والأنظمة المضادة للدروع والألغام، ومركبات الدعم اللوجستي والمدرّعات التكتيكية وناقلات الجنود، وقطع الغيار والصيانة والحماية الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية، إضافة إلى بعض القطع البحرية غير الثقيلة.

دعم أمني مشروط لأوكرانيا وسطوة غربية 

لكن الدعم العسكري الأميركي (والغربي عموماً باستثناء بريطانيا وفنلندا) يشترط ألا تستخدم القوات الأوكرانية تلك الأسلحة داخل الأراضي الروسية، وذلك “منعاً للتصعيد”، إذ إن أولويات الرئيس الأميركي جوزف بايدن تختلف عن أولويات نظيره الأوكراني. 

يستغل بوتين هذا الأمر بشكل واضح، فقواعد جميع القوات الروسية البرية المتمركزة على الحدود الشمالية الشرقية لأوكرانيا مع روسيا (فوج دبابات الحرس الثمانين، ولواء البنادق الآلية رقم 138، والفرقة 18 للبنادق الآلية، ووحدات من “الفيلق الأفريقي”، وفوج البندقية الآلية رقم 380)، معرّضة للهجوم بالمسيّرات والصواريخ والقذائف المدفعية، وعدد كبير من الآليات والمركبات التابعة لتلك القوات غير محصّنة بالدفاعات خارج قواعدها، وهي نفسها القوات التي تتقدّم حالياً في جبهة خاركيف.

(خريطة تكشف تقدّم القوات الروسية على محور خاركيف. المصدر: موقع DeepStateMAP)

مع ذلك، فإن زيلينسكي يقبل شروط بايدن وينفّذ سياسته في “عدم تجاوز الحدود”، خوفاً من توقف المساعدات، وكأنه قد تحوّل إلى مجرّد ضابط تبادل على أرضه، وعليه أن يشاهد القوات الروسية وهي تستولي على أجزاء إضافية من الأراضي الأوكرانية من دون أن يتحرّك ليمطر قواعدها وخطوط إمدادها بالقذائف المدفعية والصواريخ! ولو لم تكن الولايات المتحدة الأميركية تفرض قيوداً مماثلة على الأوكرانيين، لشنّت أوكرانيا هجوماً واسعاً بالمسيّرات على كل المنشآت الصناعية والاستراتيجية الروسية، وبخاصة مصافي النفط، على طول الحدود مع أوكرانيا وحتى عمق 1300 كيلومتر داخل الأراضي الروسية، في سياق ردع بوتين ومنعه من توسيع نطاق غزوه. 

وكانت القوات الأوكرانية بدأت بمهاجمة مصافي النفط بالفعل خلال آذار 2024، قبل أن تفرض عليها الولايات المتحدة التوقّف بذريعة “احتمال ارتفاع أسعار النفط العالمية وتفادي الانتقام الروسي”، وكأن استمرار القوات الروسية في الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية شرقاً وشمالاً، أمر طبيعي، وليس وجهاً من أوجه الانتقام، ولا يستدعي الردّ!

حاول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن تخفيف الإحراج عن زيلينسكي، بعد أن صرّح في 15 أيار 2024 بأن الولايات المتحدة “لم تشجّع على توجيه ضربات خارج أوكرانيا، لكن في النهاية، يتعين على أوكرانيا أن تتخذ قراراتها بنفسها حول كيفية إدارة هذه الحرب”. لكن الحقيقة هي أن بلينكن كان يكذب، فالقرار غربي بالكامل وليس أوكرانياً. وقد فضح زيلينسكي هذا الأمر خلال مطالبته الحكومات الغربية بإعطائه “الإذن” لاستخدام أسلحتها في العمق الروسي، بتاريخ 28 أيار 2024، حيث أعرب عن “امتنانه للمساعدة العسكرية”، وطلب “رفع القيود التي عفا عليها الزمن بسبب الديناميكيات المتغيرة في ساحة المعركة”. وفي هذا السياق، يبدو أن الأوكرانيين عليهم أن يقاتلوا على جبهتين بدل الجبهة الواحدة، للتحرّر من سطوة الحكومات الغربية بالتزامن مع خوضهم المعارك للتحرّر من الاحتلال الروسي.

(خريطة تكشف مصافي النفط الروسية المعرّضة للقصف بالمسيّرات انطلاقاً من الأراضي الأوكرانية. المصدر: S&P Global Commodity Insights)

مناورة عسكرية بثوب دبلوماسي 

يعلم بوتين بأن زيلينسكي، ومعه “الداعمين” الغربيين، لن يقبلوا بإيقاف الحرب بشروطه، لذلك فهو يجسّ النبض منتظراً الرفض التلقائي حتى يتسلّح بالحجة الدامغة لإقناع قسم كبير من الجمهور الروسي المتردّد بأن هذه الحرب هي “حرب وطنية”، قبل إعلان المرحلة الثانية، والأكبر، من الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد أكمل بوتين استعداداته العسكرية واللوجستية مدركاً أهمية التفوق العددي من جهة، وتحوّل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد حربٍ ينتج الذخائر بوتيرة مهولة من جهة أخرى، فيما يسعى إلى امتلاك اليد العليا على المستوى الديبلوماسي عبر إظهار رغبة مشبوهة في إنهاء الحرب.

لكن حتى في حال القبول الغربي بشروط بوتين، فإن ذلك يعني أيضاً إمكان تحوّل أنظار الأخير نحو دول البلطيق الثلاث، أي لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، حيث إن النزعة العسكرية الاقتصادية التي خلقتها سياسة بوتين خلال فترة الحرب ستساهم بدورها في إنتاج عوامل اشتعال حرب أو حروب جديدة. وبالطبع، ليس بإمكان العسكرة الاقتصادية أن تثمر وروداً وياسميناً، بالتالي فإن تحوّل القاعدة الإنتاجية في الاتحاد الروسي باتجاه العسكرة، سيكون له أثر مباشر على تحول الاقتصاد الأوروبي باتجاه العسكرة أيضاً، الأمر الذي سيلقي بوزنه على مستوى المعيشة في روسيا والقارة الأوروبية على حد سواء، والذي قد تنتج منه أزمات سياسية واقتصادية واضطرابات اجتماعية وتفشٍّ للعنف والجرائم على نطاق لم تشهده هذه المناطق منذ عقود طويلة.

تحوّل الغزو الروسي لأوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد لجميع الأطراف. اعتقدت الحكومات الغربية أنها قادرة على إنهاك الحكومة الروسية عبر العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها، وإغراق زيلينسكي بالدعم المالي والعسكري من دون عواقب ونتائج تطاولها بشكل مباشر. لكن الحقيقة هي أنها علقت بين فكي الكماشة نفسها التي جرّت بوتين إليها، ووجدت نفسها مضطرة إلى دعم زيلينسكي وتملّك قراره في آن، فهي ستكون عرضة لقدر أكبر من الإنهاك على المدى الطويل، مع امتلاك القوات الروسية ميزتي التفوق الجغرافي والعددي، إضافة إلى ميزة ثالثة ربما تكون مؤقتة فقط، وهي التفوق في إنتاج الذخائر.

أوكرانيا رهينة مزدوجة

فيما ترفض إقامة محادثات سلام بين الجانبين الروسي والأوكراني من دون تدخّلها المباشر فيها، فإن الحكومات الغربية تحاول ألا تفاقم حدة الصراع، آخذة التهديدات الروسية النووية بعين الجديّة، وذلك عبر “ترويض” الأوكرانيين وتقييد حركتهم وحقّهم في دفاعهم عن أرضهم، على رغم إغراقهم بالأسلحة النوعية والحديثة. هذا السلوك الغربي في أوكرانيا يجعل منها رهينة مزدوجة للغطرسة الروسية والتدخلات الغربية في الوقت نفسه، عوضاً عن أن يكون للأوكرانيين الحق في تقرير مصيرهم، بالطرق الدبلوماسية و/أو العسكرية التي يرونها مناسبة.

في نهاية المطاف، تحوّل دور زيلينسكي تدريجياً من قيادة الدفاع المحقّ عن أرضه بوجه القوات الروسية المحتلّة، إلى مشرف على ما يشبه الحرب بالوكالة على أرضه، إذ إنه يرضخ للتوجهات والشروط السياسية والدبلوماسية التي تفرضها الحكومات الغربية (مفاوضات إسطنبول مثالاً)، مقابل استجدائه المال والسلاح منها، فيما هي تستطيع في أي لحظة أن تبدأ بالتعامل مع أوكرانيا بمثابتها عبئاً اقتصادياً وسياسياً، والتخلّي عن اعتبارها جداراً للفصل، من جهة بين الاستبداد البوتيني الذي يضغط لاستكمال عملية التحويل الفاشي لروسيا (والمفارقة أن ذلك يحصل تحت عنوان محاربة “النيونازية الأوكرانية” وشيطنة أوكرانيا مجتمعاً ودولة)، ومن جهة أخرى بين الديمقراطية الغربية التي سقط قناعها أمام أعين الجميع بعد دفاعها المستميت عن إسرائيل خلال مجازر الإبادة التي ترتكبها الأخيرة في غزّة.

كانت مفاوضات إسطنبول الفرصة الحقيقية الوحيدة لأوكرانيا لإنهاء الغزو الروسي بأقل تكلفة ممكنة. لكن زيلينسكي أطاح بها بسبب تبعيّته العمياء للقرار البريطاني آنذاك. حينها، لم تكن أوكرانيا مرتهنة سياسياً للقرار الغربي بالمستوى نفسه الذي وصلت إليه من الارتهان اليوم، كما أن حراجة الوضع الداخلي لزيلينسكي تفرض نفسها، في ظل عدم قدرته على التراجع عن وعوده للجماهير الأوكرانية بتحرير أراضي بلاده. 

يعلم بوتين ذلك جيداً، لذلك فإن كلامه حول وقف الحرب مقابل التنازلات الهائلة من الجانب الأوكراني، لا يمكن أخذه على محمل الجدّ، بل يجب اعتباره مناورة عسكرية وليس فقط دبلوماسية، نظراً إلى التحوّل العنيف الذي طبع السياسة الروسية منذ بدء الغزو حتى اليوم، وهو، بشكل أساسي، نتاج العسكرة الشاملة للاقتصاد والمجتمع الروسيين.

05.06.2024
زمن القراءة: 7 minutes

أشارت وكالة رويترز عن أربعة مصادر روسية، استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب، ولكن بشريطة اعتراف الجانب الأوكراني بالحدود الحالية، أي بعد استيلاء القوات الروسية على نحو 18 في المئة من الأراضي الأوكرانية،إلى جانب شبه جزيرة القرم التي سبق أن استولت القوات الروسية عليها عام 2014. فهل نحن أمام مناورة أو مبادرة لحسم الحرب ؟.

نقلت وكالة رويترز عن أربعة مصادر روسية، استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب، ولكن بشريطة اعتراف الجانب الأوكراني بالحدود الحالية، أي بعد استيلاء القوات الروسية على نحو 18 في المئة من الأراضي الأوكرانية، إلى جانب شبه جزيرة القرم التي سبق أن استولت القوات الروسية عليها عام 2014. وقالت تلك المصادر إن بوتين يريد استئناف المفاوضات، لكن على أساس “الحقائق على الأرض”، أي باستخدام أسلوب الـ Gunboat diplomacy.

يدرك بوتين أن نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لن يطأطئ رأسه أمام شعبه ويرضخ بسهولة لهذه السياسة الدبلوماسية العدوانية، القائمة على فرض تنازلات كبيرة على الجانب الأوكراني بقوة المدافع، وذلك لأسباب عدة، من بينها تزايد آمال زيلينسكي مجدداً بعودة الزخم الى الدعم العسكري الغربي، بعد إقرار حزمات مساعدات أمنية متتالية في فترة قصيرة من الزمن.

لكن المشكلة الحقيقية التي تواجهها القوات الأوكرانية ليست في نقص الذخائر، إذ بإمكان حكومات الناتو تزويدها بها إلى ما لا نهاية إن عقدت العزم على إطالة أمد الحرب إلى أجل غير مسمّى، بل هي في نقص الجنود والمتطوّعين. وهذه هي نقطة الضعف الأساسية التي يركّز على استغلالها بوتين على المدى الطويل، فهو يسعى إلى فرض خيارين لا ثالث لهما على الأوكرانيين وحلف الناتو، وكلاهما مربحان له.

الخيار الأول، هو استمرار الحرب ضمن الظروف الحالية، واستكمال القوات الروسية قضمها البطيء للمزيد من الأراضي الأوكرانية، وإقرار مراسيم جديدة للتجنيد الإجباري تستهدف عشرات الآلاف من الشباب الروس، فيما يستمر الاستنزاف البشري للقوات الأوكرانية، إضافة إلى تزايد الاستنزاف المالي للحكومات الغربية ودفعها في اتجاه تحويل اقتصاداتها وأنشطتها التجارية نحو الصناعات العسكرية، عبر إجبارها على خلق فرص العمل المستدامة في مجال التصنيع العسكري، حتى تتمكن من تقليص الهوة بينها وبين الاتحاد الروسي في “حرب الذخائر”.

أما الخيار الثاني، فهو قبول الأوكرانيين وحلف الناتو بشروط بوتين لإنهاء الحرب، والثمن هو تكريس التنازل عن 18 في المئة من الأراضي الأوكرانية، في حين أن لا شيء يضمن عدم إشعال بوتين حرباً جديدة في وقت لاحق، بخاصة بعد تكثف العسكرة في الاقتصاد والمجتمع الروسيين على مراحل، إضافة إلى الشروع في إنشاء بنية تحتية عسكرية في المناطق التي تمكنت القوات الروسية من الاستيلاء عليها.

المساعدات الأمنية إلى أوكرانيا تتزايد مجدداً

تخرج المعطيات حول استعداد بوتين وقف الحرب بشروط قاسية، فيما برز ارتفاع ملحوظ في المساعدات الأمنية المباشرة (المعدات العسكرية) خلال الشهر الأخير، إلى جانب القروض والمنح والمساعدات المالية التي قدمتها الحكومات الغربية والمنظمات الدولية لأوكرانيا، والتي بلغت بدورها أرقاماً ضخمة جداً منذ كانون الثاني/ يناير 2022، إذ بلغ عدد المساعدات الإجمالي لأوكرانيا (بين إنسانية وعسكرية وغيرها، ومن كل أنحاء العالم) منذ ذلك الوقت وحتى آذار/ مارس 2024 أكثر من 380 مليار دولار، منها نحو 120 مليار دولار كمساعدات أمنية.

وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن حزمات مساعدات أمنية “تاريخية”، في 24 نيسان/ أبريل 2024 بقيمة مليار دولار، وفي 26 من الشهر ذاته بقيمة 6 مليارات دولار، ثم في 10 أيار/ مايو 2024 بقيمة 400 مليون دولار، وفي 24 من الشهر ذاته بقيمة 275 مليون دولار. وتتضمّن المساعدات الأمنية الأميركية الجديدة التي حصلت أوكرانيا عليها خلال شهر واحد فقط شتى أنواع الذخائر، والقذائف المدفعية، والأسلحة والمعدات الفردية، والصواريخ الدقيقة والموجّهة، وصواريخ الدفاع الجوي، وأنظمة الرادار متعددة المهام والمضادة للمدفعية، والأنظمة المضادة للدروع والألغام، ومركبات الدعم اللوجستي والمدرّعات التكتيكية وناقلات الجنود، وقطع الغيار والصيانة والحماية الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية، إضافة إلى بعض القطع البحرية غير الثقيلة.

دعم أمني مشروط لأوكرانيا وسطوة غربية 

لكن الدعم العسكري الأميركي (والغربي عموماً باستثناء بريطانيا وفنلندا) يشترط ألا تستخدم القوات الأوكرانية تلك الأسلحة داخل الأراضي الروسية، وذلك “منعاً للتصعيد”، إذ إن أولويات الرئيس الأميركي جوزف بايدن تختلف عن أولويات نظيره الأوكراني. 

يستغل بوتين هذا الأمر بشكل واضح، فقواعد جميع القوات الروسية البرية المتمركزة على الحدود الشمالية الشرقية لأوكرانيا مع روسيا (فوج دبابات الحرس الثمانين، ولواء البنادق الآلية رقم 138، والفرقة 18 للبنادق الآلية، ووحدات من “الفيلق الأفريقي”، وفوج البندقية الآلية رقم 380)، معرّضة للهجوم بالمسيّرات والصواريخ والقذائف المدفعية، وعدد كبير من الآليات والمركبات التابعة لتلك القوات غير محصّنة بالدفاعات خارج قواعدها، وهي نفسها القوات التي تتقدّم حالياً في جبهة خاركيف.

(خريطة تكشف تقدّم القوات الروسية على محور خاركيف. المصدر: موقع DeepStateMAP)

مع ذلك، فإن زيلينسكي يقبل شروط بايدن وينفّذ سياسته في “عدم تجاوز الحدود”، خوفاً من توقف المساعدات، وكأنه قد تحوّل إلى مجرّد ضابط تبادل على أرضه، وعليه أن يشاهد القوات الروسية وهي تستولي على أجزاء إضافية من الأراضي الأوكرانية من دون أن يتحرّك ليمطر قواعدها وخطوط إمدادها بالقذائف المدفعية والصواريخ! ولو لم تكن الولايات المتحدة الأميركية تفرض قيوداً مماثلة على الأوكرانيين، لشنّت أوكرانيا هجوماً واسعاً بالمسيّرات على كل المنشآت الصناعية والاستراتيجية الروسية، وبخاصة مصافي النفط، على طول الحدود مع أوكرانيا وحتى عمق 1300 كيلومتر داخل الأراضي الروسية، في سياق ردع بوتين ومنعه من توسيع نطاق غزوه. 

وكانت القوات الأوكرانية بدأت بمهاجمة مصافي النفط بالفعل خلال آذار 2024، قبل أن تفرض عليها الولايات المتحدة التوقّف بذريعة “احتمال ارتفاع أسعار النفط العالمية وتفادي الانتقام الروسي”، وكأن استمرار القوات الروسية في الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية شرقاً وشمالاً، أمر طبيعي، وليس وجهاً من أوجه الانتقام، ولا يستدعي الردّ!

حاول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن تخفيف الإحراج عن زيلينسكي، بعد أن صرّح في 15 أيار 2024 بأن الولايات المتحدة “لم تشجّع على توجيه ضربات خارج أوكرانيا، لكن في النهاية، يتعين على أوكرانيا أن تتخذ قراراتها بنفسها حول كيفية إدارة هذه الحرب”. لكن الحقيقة هي أن بلينكن كان يكذب، فالقرار غربي بالكامل وليس أوكرانياً. وقد فضح زيلينسكي هذا الأمر خلال مطالبته الحكومات الغربية بإعطائه “الإذن” لاستخدام أسلحتها في العمق الروسي، بتاريخ 28 أيار 2024، حيث أعرب عن “امتنانه للمساعدة العسكرية”، وطلب “رفع القيود التي عفا عليها الزمن بسبب الديناميكيات المتغيرة في ساحة المعركة”. وفي هذا السياق، يبدو أن الأوكرانيين عليهم أن يقاتلوا على جبهتين بدل الجبهة الواحدة، للتحرّر من سطوة الحكومات الغربية بالتزامن مع خوضهم المعارك للتحرّر من الاحتلال الروسي.

(خريطة تكشف مصافي النفط الروسية المعرّضة للقصف بالمسيّرات انطلاقاً من الأراضي الأوكرانية. المصدر: S&P Global Commodity Insights)

مناورة عسكرية بثوب دبلوماسي 

يعلم بوتين بأن زيلينسكي، ومعه “الداعمين” الغربيين، لن يقبلوا بإيقاف الحرب بشروطه، لذلك فهو يجسّ النبض منتظراً الرفض التلقائي حتى يتسلّح بالحجة الدامغة لإقناع قسم كبير من الجمهور الروسي المتردّد بأن هذه الحرب هي “حرب وطنية”، قبل إعلان المرحلة الثانية، والأكبر، من الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد أكمل بوتين استعداداته العسكرية واللوجستية مدركاً أهمية التفوق العددي من جهة، وتحوّل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد حربٍ ينتج الذخائر بوتيرة مهولة من جهة أخرى، فيما يسعى إلى امتلاك اليد العليا على المستوى الديبلوماسي عبر إظهار رغبة مشبوهة في إنهاء الحرب.

لكن حتى في حال القبول الغربي بشروط بوتين، فإن ذلك يعني أيضاً إمكان تحوّل أنظار الأخير نحو دول البلطيق الثلاث، أي لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، حيث إن النزعة العسكرية الاقتصادية التي خلقتها سياسة بوتين خلال فترة الحرب ستساهم بدورها في إنتاج عوامل اشتعال حرب أو حروب جديدة. وبالطبع، ليس بإمكان العسكرة الاقتصادية أن تثمر وروداً وياسميناً، بالتالي فإن تحوّل القاعدة الإنتاجية في الاتحاد الروسي باتجاه العسكرة، سيكون له أثر مباشر على تحول الاقتصاد الأوروبي باتجاه العسكرة أيضاً، الأمر الذي سيلقي بوزنه على مستوى المعيشة في روسيا والقارة الأوروبية على حد سواء، والذي قد تنتج منه أزمات سياسية واقتصادية واضطرابات اجتماعية وتفشٍّ للعنف والجرائم على نطاق لم تشهده هذه المناطق منذ عقود طويلة.

تحوّل الغزو الروسي لأوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد لجميع الأطراف. اعتقدت الحكومات الغربية أنها قادرة على إنهاك الحكومة الروسية عبر العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها، وإغراق زيلينسكي بالدعم المالي والعسكري من دون عواقب ونتائج تطاولها بشكل مباشر. لكن الحقيقة هي أنها علقت بين فكي الكماشة نفسها التي جرّت بوتين إليها، ووجدت نفسها مضطرة إلى دعم زيلينسكي وتملّك قراره في آن، فهي ستكون عرضة لقدر أكبر من الإنهاك على المدى الطويل، مع امتلاك القوات الروسية ميزتي التفوق الجغرافي والعددي، إضافة إلى ميزة ثالثة ربما تكون مؤقتة فقط، وهي التفوق في إنتاج الذخائر.

أوكرانيا رهينة مزدوجة

فيما ترفض إقامة محادثات سلام بين الجانبين الروسي والأوكراني من دون تدخّلها المباشر فيها، فإن الحكومات الغربية تحاول ألا تفاقم حدة الصراع، آخذة التهديدات الروسية النووية بعين الجديّة، وذلك عبر “ترويض” الأوكرانيين وتقييد حركتهم وحقّهم في دفاعهم عن أرضهم، على رغم إغراقهم بالأسلحة النوعية والحديثة. هذا السلوك الغربي في أوكرانيا يجعل منها رهينة مزدوجة للغطرسة الروسية والتدخلات الغربية في الوقت نفسه، عوضاً عن أن يكون للأوكرانيين الحق في تقرير مصيرهم، بالطرق الدبلوماسية و/أو العسكرية التي يرونها مناسبة.

في نهاية المطاف، تحوّل دور زيلينسكي تدريجياً من قيادة الدفاع المحقّ عن أرضه بوجه القوات الروسية المحتلّة، إلى مشرف على ما يشبه الحرب بالوكالة على أرضه، إذ إنه يرضخ للتوجهات والشروط السياسية والدبلوماسية التي تفرضها الحكومات الغربية (مفاوضات إسطنبول مثالاً)، مقابل استجدائه المال والسلاح منها، فيما هي تستطيع في أي لحظة أن تبدأ بالتعامل مع أوكرانيا بمثابتها عبئاً اقتصادياً وسياسياً، والتخلّي عن اعتبارها جداراً للفصل، من جهة بين الاستبداد البوتيني الذي يضغط لاستكمال عملية التحويل الفاشي لروسيا (والمفارقة أن ذلك يحصل تحت عنوان محاربة “النيونازية الأوكرانية” وشيطنة أوكرانيا مجتمعاً ودولة)، ومن جهة أخرى بين الديمقراطية الغربية التي سقط قناعها أمام أعين الجميع بعد دفاعها المستميت عن إسرائيل خلال مجازر الإبادة التي ترتكبها الأخيرة في غزّة.

كانت مفاوضات إسطنبول الفرصة الحقيقية الوحيدة لأوكرانيا لإنهاء الغزو الروسي بأقل تكلفة ممكنة. لكن زيلينسكي أطاح بها بسبب تبعيّته العمياء للقرار البريطاني آنذاك. حينها، لم تكن أوكرانيا مرتهنة سياسياً للقرار الغربي بالمستوى نفسه الذي وصلت إليه من الارتهان اليوم، كما أن حراجة الوضع الداخلي لزيلينسكي تفرض نفسها، في ظل عدم قدرته على التراجع عن وعوده للجماهير الأوكرانية بتحرير أراضي بلاده. 

يعلم بوتين ذلك جيداً، لذلك فإن كلامه حول وقف الحرب مقابل التنازلات الهائلة من الجانب الأوكراني، لا يمكن أخذه على محمل الجدّ، بل يجب اعتباره مناورة عسكرية وليس فقط دبلوماسية، نظراً إلى التحوّل العنيف الذي طبع السياسة الروسية منذ بدء الغزو حتى اليوم، وهو، بشكل أساسي، نتاج العسكرة الشاملة للاقتصاد والمجتمع الروسيين.