تشبه الاضطرابات النفسية فيروساً ينهش الجسد ويترك جروحاً مخاطة على عجل، لا تلتئم أبداً، وتعود لتنفتح مع كلّ ضغط أو صدمة جديدة. أغلب الأدوية التي يُفترض أن تسيطر عليها، تبني جداراً إسمنتياً بينك وبين ذاتك المعطوبة، فتغدو متبلّد المشاعر، آليّ الحركات، غريباً عن نفسك ـ ولو مؤقّتاً.
هذا الحجر الصحّي الكيميائي للذات المصابة هو في الوقت نفسه عذابها ووسيلة إنقاذها. فبعد أن تُروّض الذات في هذا الحجر، تعود إليك مختلفة. عودتها تشبه مشهداً من فيلم رعب نفسي: أنت جالس تضحك مع الأصدقاء وتشرب النبيذ، ثم يدقّ الباب. تفتحه لترى وجهك المشوّه يبتسم لك. تغلقه بقوّة وتعود إلى كرسيك متوهماً أن الأمر كان كابوساً، لكنّك تكتشف أنها تسلّلت إلى الداخل. إنها أنت، ولن يكون لك مفرّ من التعامل معها للأبد.
البوردرلاين والبلاد
بعد سنوات من الاكتئاب، أدركت أن لكلّ منّا أكثر من “أنا”، نختار واحدة منها لتواجه المجتمع، بينما تبقى الأخريات خلف المرآة. شُخّصت مؤخّراً باضطراب الشخصيّة الحدّية (البوردرلاين)؛ اضطراب يتأرجح بين الخوف من الهجران، اضطرابات الهويّة، الإحساس بالفراغ، والانفجارات العاطفية أو الغضب.
عرفت من خلاله المرآة المتصدّعة التي هي ذاتي. كلّ شظية منها تعكس صورة مناقضة للأخرى. حين تصيبها الشمس، تتشعّب خيوطها الساطعة إلى طرق متناقضة؛ تصوّر مختلف عن نفسي وعن العالم في كلّ مرّة.
لم تكن أسباب اضطرابي وراثية أو عائلية فقط، بل كانت انعكاساً لواقع البلاد. “لديك قابلية للاضطراب النفسي، وكان العنف في سوريا عاملاً مفجّراً لها”، قالت طبيبتي النفسية. وأوضحت أن العنف لا يعني فقط القصف والمجازر، بل أيضاً الفقدان، الاغتراب، النزوح، الصمت القسري، والخوف الدائم من الموت أو الاعتقال.
الرقابة والهويّة: ساحة المعركة
بين الاضطراب النفسي والرقابة المفروضة بالعنف، تصبح الهويّة ساحة معركة يومية. كيف نرى أنفسنا وسط سلطة تحاصر أجسادنا وتعيد تشكيل ذواتنا بما يتوافق مع صورة معدّة سلفاً؟ أي “أنا” هي الحقيقية؟
كنت أكتب في بداياتي الصحافية تحت أسماء مستعارة خوفاً من بطش نظام الأسد. عندما أشاد الناس بشجاعة “غوى” ـ اسمي المستعار ـ شعرت بالغيرة والنفور من “سارة” الخائفة. أيّهما تمثّلني حقّاً؟
اليوم، وبعد سقوط النظام واستلام “هيئة تحرير الشام” السلطة، عادت الرقابة بثوب جديد ولحية طويلة. فرضت قوانينها بالسلاح والقتل: لباس “محتشم”، صمت اللهجة الساحلية، عودة النساء إلى بيوتهن قبل الغروب. تقول صديقتي: “ما عاد حاسّة حالي أنا. لا لبسي بيشبهني ولا حياتي بتشبهني”، فتردّ أخرى: “احمدي ربك إننا لسا عايشين”.
أتذكّر ارتباكي على أحد الحواجز بعد مجازر الساحل بأيّام قليلة. قلّب العسكري هويّتي في يده كأنه يعبث بدقّات قلبي، ثم سأل: “علوية؟”. داخلي كان يصرخ “لا أعرف، ربما”، لكنّ صوتي المرتجف قال: “لا”. حين ابتعدت السيارة، رأيت وجهي في المرآة: شاحباً، قلقاً، محاطاً بغطاء أسود يُخفي الشيب. لم أعرف من كانت تلك المرأة، لكنّني شعرت أن نفسي بصقت في وجهي.
البعث والبذور الأولى
في طفولتي كنت “طليعية” بحكم الانتماء الإجباري إلى “طلائع البعث”. في عام 2004، شاركت في معسكر الطلائع. كلّ شيء فيه كان عسكرياً: الطعام الرديء، المهاجع، الشعارات. في اليوم الأول، تأخّرت عن ترديد الشعار المسائي، فانقضّ عليّ “الموجّه الحزبي” وضربني حتى سال الدم من فمي. كان هذا أوّل وجه أمني ألقاه في حياتي، وكانت تلك الدماء بذور الاضطراب الذي نما داخلي.
لاحقاً، خرج العنف من صفوف الطلائع إلى الشوارع، وعاد ليسكن داخلي. مع الحرب والمجازر وهجرة الأصدقاء، بدأ الغضب يتراكم وينفجر في نوبات بكاء أو عنف هستيري.
الانفجار العظيم
مع بدايات “التطبيع” مع الأسد، شعرت أن العالم يغرق في ستار من اللا عدالة، فدخلت نوبة اكتئاب حادّة. ثم جاءت مجازر الساحل التي نفّذتها السلطة الانتقالية، فصارت أعراض البوردرلاين أكثر وضوحاً: هوس يومي بالفقد، خوف مطلق من الهجران، وإحساس بانعدام الأمان حتى بين الجدران. كنت أختبئ تحت الأغطية كطفلة مذعورة.
حينها تسلّلت إليّ أسئلة الانتحار: “ما الفائدة من الحياة بين الوحوش؟”. كان خيالي اليومي أن أقف على سطح بيتنا بلباس النوم الزهري وشعري المبلّل يرفرف في الهواء. paradox، هذا الخيال أنقذني: إدراكي أن حياتي ملكي وأستطيع إنهاءها، منحني سبباً للعيش.
الصحّة النفسية كقضيّة سياسية
أدركت لاحقاً أنني تبنيّت العنف من حولي وأعدت إنتاجه على نفسي وعلى الآخرين. العلاج الدوائي والسلوكي ساعدني، لكنّه لم يكن كافياً. لأن الصحّة النفسية ليست شأناً فردياً. جذور اضطرابي ضاربة في مدرسة علّمتني الطاعة، وفي حرب كرّست صمتي، وفي سلطات لم تتوقّف عن محاصرتي.
اضطراب البوردرلاين الذي أحمله ليس مجرّد حالة طبية، بل انعكاس لبلاد تزرع هشاشة في نفوس أبنائها وبناتها وتعيد إنتاجها جيلاً بعد جيل.
أسأل نفسي: كيف سنتعافى؟ كيف نكسر حلقة العنف قبل أن تلتفّ حول أعناق أطفالنا؟
لا أملك الأجوبة الكاملة. لكنّني واثقة أن التعافي الحقيقي يبدأ عندما يقترن البحث عن السكينة الشخصية بالبحث عن العدالة الغائبة. واحدة لا تتحقّق من دون الأخرى.
إقرأوا أيضاً:











