قتلت كارثة تشيرنوبيل عشرات الأشخاص إثر انفجار محطة للطاقة في نيسان/ أبريل 1986، إضافة إلى وفاة ما لا يقل عن 31 شخصاً بعد التعرض للإشعاع القاتل الذي أضر بالآلاف وفق منظمة الصحة العالمية.
وتم إخلاء تشيرنوبيل (مقاطعة كييف في شمال أوكرانيا) ومدينة بريبيات المجاورة بعد 30 ساعة من وقوع الحادث النووي الأكثر كارثية في التاريخ. بعد الانفجار، تحولت المدينة والمنطقة المحيطة بها إلى مكان مهجور، ولقبت بريبيات بمدينة أشباح، على رغم عشرات آلاف السياح سنوياً.
إثر انفجار بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، انشغلنا جميعاً بالجراح التي خلّفها، بالناس الذين جرفهم والذين خرجت منهم أرواحهم تحت الردم أو في عمق البحر أو داخل سياراتهم وغرفهم الآمنة. لم نفكّر بإخلاء المدينة، ولا نملك هذا الترف أصلاً، فبيروت هي كل ما نملك.
لم نغادرها حقاً وإن كانت الظروف تجبرنا على المكوث في أريافنا بسبب انقطاع الكهرباء والبنزين. لكننا بطريقة ما بقينا داخل مدينة منكوبة، مدينة اختفت معالمها. هناك روائح لم نعد نشمها هنا، وأماكن تبخرت أو هاجر أصحابها. انفجار بيروت أخد معه أزمنةً تخصّنا، كسهرات شارع مار مخايل، وزحمة ساحة ساسين في الأشرفية، وصيحاتنا في مقاهٍ كنا نحسبها بيوتنا، مثل مقهى “أم نزيه” في الجميزة، الذي كان محطة لجميع الذين شردوا في بيروت وكانوا في طور البحث عن أنفسهم. قضى “أم نزيه” في الانفجار وأخذ معه مواعيد لم يذهب إليها أحد وحكايات كانت ستُروى لو أنّ الموت لم يمرّ من هناك.
عام 2010، أصبح موقع كارثة تشيرنوبيل وبريبيات آمنين للسائحين لزيارته. أظنّ أننا جميعاً نحتاج إلى زيارة هذا المكان، لا لمضاعفة حزننا، بل من أجل شيء من المحاكاة التي يحتاجها المكلوم حتى يشعر بأنه ليس وحده. لكنني أفكر متى ستعود بيروت مكاناً آمناً لزيارته؟ والأمان لا يعني عدم احتمال وقوع انفجار أو تفجير آخر، الأمان أن تملك لأحلامك سبيلاً، أن تسير في الشوارع وتشعر بشيء غير الأسى، أي شيء. ونحن ههنا بات أفضل طموحنا أن تخدمنا بطارية الهاتف في ساعات التقنين الطويلة وأن نستطيع تأمين المحروقات للتدفئة في الشتاء الذي بات وشيكاً.
حين تندلع في فترة المساء النسمات الرقيقة التي تشي بأن الصيف يوضّب نفسه ليهجرنا، أشعر بأنني أختنق وأنني سأعاني من الاختناق لوقت طويل.
“برد الشتاء في هذه المدينة لا يعمل إلا على إيقاظ الجروح القديمة” يقول واسيني الأعرج، ربما قصد مدينة أخرى، لكنّ أحوال الحزن تتشابك في خط واحد في النهاية، وأحوال المدن المدمّرة كذلك.
أحضّر الأوراق المطلوبة ليمضي والداي الشتاء خارج البلد، وسيكون هذا الشتاء الأول الذي لا نمضيه معاً منذ ثلاثين عاماً، لكنني أريدهما أن ينعما بشيء من الطمأنينة وأن يكفا عن تعقّب الكهرباء والمياه والبنزين والمازوت والحطب… فكل شيء مقطوع هنا!
لديّ فقرة جديدة في حياتي، هي الاطمئنان عن أصدقائي الذين هاجروا، أو تهجّروا أو هربوا من الموت المحتّم. إنها فقرة مؤلمة، أن تجلس قبالة شاشة وتحمّلها شيئاً من الطاقة الإيجابية التي لا تملكها، فأنت لا تريد أن تحزنهم أو تزيد نقمتهم.
إقرأوا أيضاً:
قصص حب…
“الحب في بيروت كالله في كل مكان”… قال الشاعر نزار قباني.
لكنّ الحب بات سجيناً مثلنا وقصصه تتفرّق باستمرار، فمرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت عن موجة ثالثة من الهجرة. وهؤلاء هم أرباب عائلات وشبان وشابات، لهم حكايات وأحلام قوضها الحزن. إذ يبدو أن عشاق بيروت القدامى قد وجدوا البديل أو يبحثون عنه، مجيبين عن سؤال قباني الذي يتردد في الأغنية: “أيا عشاق بيروت القدامى هل وجدتم بعد بيروت البديلَ؟”.
يُقدر البنك الدولي أن شخصاً من كل خمسة فقد وظيفته منذ خريف 2019، وأن 61 في المئة من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل 43 في المئة. وقد أظهرت إحصاءات الأمن العام أن عدد جوازات السفر المصدرة من مطلع عام 2021 ولغاية نهاية آب/ أغسطس، بلغ نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة بنحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020، أي بزيادة 82 في المئة.
“الهجرة الثالثة”، تتردد هذه العبارة في رأسي فيما أسير برفقة صديق في شارع الجميزة، الذي يشهد على أسباب تلك الهجرة. بارات ومقاهٍ ومتاجر ومؤسسات كلها اختفت، تحولت أبنية كثيرة إلى خربة، حيث حطام ونفايات وقطط وفئران. أمكنة لم تعد مأهولة وستظل هكذا ربما لسنوات طويلة، فلا أحد يأبه. لم أسهر في بيروت منذ يوم 4 آب، إنه فعل مقاومة أو فعل استسلام، لا أستطيع تحديد الوجهة. يخبرني أصدقائي عن أماكن قليلة فتحت أبوابها من جديد، وأخرى أقفلت حتى بعد ترميمها، فالترميم لا يكفي لبث الحياة من جديد في شيء تم اغتياله. الترميم لا يشفي الجرح.
بعد أكثر من عام على انفجار المرفأ، ما زالت الأحياء السكنية المتاخمة للجريمة، شاهدة على الكارثة. فعشرات الأبنية من الكرنتينا إلى الجميزة ومار مخايل والرميل والأشرفية، ما زالت، مدعمة بأعمدة حديدية، فيما تعلو لافتة “ممنوع الدخول” أبنية أخرى آيلة للسقوط. وهي أبنية كانت صخب بيروت وسحرها وحياتها، لكنها الآن تخضع وسكانها وأصحاب المؤسسات فيها، لعمليات الترميم البطيئة والمتفرقة والعشوائية.
وأضيف إلى دمار الحجر، أزمة اقتصادية حالكة دمّرت من بقي على قيد الحياة، مادياً وعاطفياً واجتماعياً ونفسياً. وما خسرته بيروت يوم 4 آب من معالم تراثية واقتصادية، تضاف إليه اليوم خسارة بشرية تتمثل بالهجرة والتهجير والفقر والبطالة، التي تصيبنا. فنحن معالم أخرى من بيروت تتداعى وتُحتضر في طوابير البنزين والخبز واليأس نهاراً، فيما نخشى السير ليلاً في مدينتنا، حتى لا ندرك حجم العتمة وحجم النهاية.
إقرأوا أيضاً: