“السبب الأهم لرغبة الأمن في القبض عليّ، هو أنني أنشر ما يحدث في الجزيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن غابت كافة وسائل الإعلام المصرية عن اشتباكات استعمل فيها الغاز المسيل للدموع في جزيرة تقع في قلب النيل، ووسط العاصمة”.
منذ أيام لم يخرج عبد القادر عبده (اسم مستعار) من جزيرة الوراق محل سكنه، بعد إبلاغه بأن الأمن يبحث عنه للقبض عليه، وأن صورته موجودة مع قوات الأمن الموجودة على طريق وراق الحضر الواصلة بين الجزيرة وشبرا الخيمة، بسبب تصديه لقوات الأمن التي حاولت إخلاء عدد من المنازل قبل أسبوعين، ومشاركته في تنظيم مظاهرات أهالي الجزيرة ضد الإخلاء قبل 4 أيام.
امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بفيديوهات نشرها عبد القادر وغيره، تظهر اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن وأهالي الجزيرة، وإلقاء القبض على عدد من سكان الجزيرة، وهي الاشتباكات المتكررة منذ منتصف يوليو/ تموز 2017، أي قبل خمس سنوات من الآن.
الوراق جزيرة واقعة في وسط النيل، وتربط بين 3 محافظات تشكل إقليم القاهرة الكبرى، وهي القليوبية والجيزة والقاهرة، وتبلغ مساحتها نحو 1295 فدان، ويسكنها نحو 130 ألف نسمة، وبدأ استقرار السكان فيها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
“السبب الأهم لرغبة الأمن في القبض عليّ، هو أنني أنشر ما يحدث في الجزيرة على مواقع التواصل الاجتماعي”
حصار مطبق
بدأت أزمة جزيرة الوراق في الظهور في حزيران/ يونيو من العام 2017، بعد صدور قرار رئيس الوزراء المصري آنذاك شريف اسماعيل باستبعاد 17 جزيرة من تصنيف المحمية الطبيعية، كان من ضمن هذه الجزر جزيرة الوراق، التي اعتمدت في معركتها مع نظام مبارك السابق على كون الجزيرة محمية طبيعية لا يجوز إنشاء أي مشروعات عليها، وأعقب القرار اقتحام قوات الأمن الجزيرة، وبررت وزارة الداخلية المصرية هذا الاقتحام بمحاولة تنفيذ قرار إزالة 700 منزل مبني على أراضي الدولة، وأسفرت الاشتباكات عن مقتل أحد شباب الجزيرة، وهدم منازل عدة، بالإضافة إلى إلقاء القبض على عدد من سكان الجزيرة، حكم على 35 منهم بالسجن لمدد تتراوح بين السجن المؤبد، والسجن لخمس سنوات، يجري الآن استئناف هذه الأحكام.
وعقب الاشتباكات، نشرت كلاً من شركة “RPS” وهي شركة إماراتية سنغافورية، وكذلك شركة كيوب المصرية للاستشارات الهندسية على موقعيهما مخططات تطوير الجزيرة، وقالت الشركة الإماراتية أن الحكومة المصرية تعاقدت معها منذ 2013، لتطوير الجزيرة، فيما قالت الشركة المصرية أنها تعاقدت مع الحكومة المصرية في 2010 لتطوير الجزيرة التي ستحمل اسم “حورس”، وهو اسم المشروع نفسه الذي أعلن عنه وزير الإسكان الحالي عاصم الجزار لمشروع تطوير الوراق، وذلك على الرغم من نفي المتحدث باسم مجلس الوزراء هاني يونس حينها اتفاق الدولة مع أي شركة لتطوير الجزيرة.
وتعاني الجزيرة حالياً من حصار أمني، حيث أغلقت معديات الجزيرة(عبّارات تقوم بنقل السكان والسيارات عبر النهر) ولم يبق سوى المعدية الرابطة بين شبرا الخيمة والجزيرة، الواقعة أمام مبنى مباحث الأمن الوطني في محافظة القليوبية، وهو ما يثير تخوفات أغلب سكان الجزيرة، كما جرى إغلاق المستشفى الوحيد في الجزيرة وكذلك مركز الشباب ومركز البريد، ما يعني خلو الجزيرة من الخدمات الأساسية الضرورية للحياة.
“نحن غاضبون لاننا مصريين، والدولة لا تتعامل معنا على هذا الأساس، لا الشرطة ولا الإعلام الذي تجاهلنا تماماً، ولا حتى وزير الأسكان الذي خرج ببيانات مغلوطة للرأي العام” بهذه الكلمات فسر محمود علام أحد سكان الجزيرة غضب الأهالي مما جرى خلال الأسبوعين الماضيين.
“لا يوجد بيننا من يرفض التطوير، فنحن اشتكينا كثيراً من تجاهل الدولة لنا، وتركنا للمعديات التي قتلت الكثير من أهالي الجزيرة، لكن لماذا يجب أن يكون التطوير لغيرنا، نحن أهل الجزيرة نعيش عليها منذ أجداد أجدادنا، فلماذا لا تريدنا الدولة في أرضنا، فيتم الاعتداء علينا بصور أشبه بما يجري للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال، وحين ننشر فيديوهات ما يحدث يخرج وزير الإسكان بمعلومات كاذبة عن أن الدولة تنفذ سياسة الشراء الرضائي، أي شراء رضائي تتحدث عنه الدولة وسط الغاز المسيل للدموع؟ والاعتداء على السكان؟ وإجبار الأهالي على البيع أو التنازل مقابل الإفراج عن ابنائهم الذين تم إلقاء القبض عليهم أثناء الدفاع عن الجزيرة؟”.
وكان وزير الإسكان عاصم الجزار قد أعلن عقب الاجتماع الأسبوعي الدوري لمجلس الوزراء المصري في تصريحات صحفية نقلتها صفحة رئاسة الوزارة، أن الدولة تنفذ سياسة الشراء الرضائي من سكان الجزيرة، وبلغ حجم التعويضات نحو 6 مليار جنيه مصري، كما أن الدولة تبني وحدات إسكان بديلة لمن أراد من السكان العودة للسكن في الجزيرة، وبلغ عدد الوحدات نحو 4 آلاف وحدة، وأن الحديث عن تهجير قسري لاهالي الجزيرة هو مجرد شائعات تبثها “قوى الشر”.
وأوضح الوزير أن الدولة تشتري الفدان بسعر 6 ملايين جنيه، ومن أراد التعويض بأرض زراعية يتم تعويضه في الفدان الواحد بـ19 فداناً في مدينة السادات، وأن قرار تطوير الجزيرة نتيجة النمو العمراني غير المخطط للجزيرة، الذي أسفر على التعدي على 400 فدان أرض زراعية، أثّر على البيئة لأن المباني المخالفة لم يتم تخطيط صرف صحي لها، فأصبحت تلقي بصرفها في النيل.
إقرأوا أيضاً:
تصريحات مضللة
من جانبه قال كرم صابر، مدير مركز “الأرض” الحقوقي، أن تصريحات الوزير غير دقيقة، مشيراً إلى أن الوحدات البديلة التي تحدث عنها الوزير ليست مجانية، وإنما يبلغ سعر الوحدة 2 مليون جنيه على الأقل، فإذا افترضنا أن شخصاً قام ببيع منزل على مساحة 100 متر على دورين، بحسب السعر الذي أعلنه الوزير وهو 6 مليون جنيه في الفدان، وهو سعر ضئيل جدا لأسعار الأراضي في المناطق المقابلة للجزيرة مثل شبرا الخيمة مثلا، فإن التعويض لن يزيد عن 300 ألف جنيه أو 400 على أقصى تقدير، وهو ما يوازي خمس سعر الوحدة السكنية في الوحدات البديلة، أما الأراضي المعروضة على السكان في مدينة السادات فطبقاً للسكان الذين ذهبوا لرؤيتها لا يوجد بها مصدر للمياه، وغير صالحة للزراعة إلا بعد سنوات من العمل فيها لأنها صحراء جرداء”.
ويضيف صابر: “الدولة تتبع سياسة تطفيش الأهالى، تقتحم الجزيرة كل فترة تحت ذريعة إخلاء 30 متر حرم النهر، و100 متر حرم الطريق الدائري، رغم أنها لا تتبع مبدأ حرم النهر في أي منطقة في القاهرة، وتقيم الأندية والكافيهات على حرم نهر النيل، بينما يمر الطريق الدائري بين العقارات السكنية لا يفصلها سوى أمتار، فما الذي يميز الجزيرة عن تلك الأماكن؟”.
فكرة استغلال الجزيرة في مشروع استثماري فكرة قديمة، بدأت مع لجنة سياسات مبارك والحزب الوطني، وتصدى أهل الجزيرة لها، وحصلوا على حكم بأن الجزيرة محمية طبيعية لا يجوز إقامة أي مشروعات استثمارية عليها، ولكن في نيسان/ أبريل 2018، صدر قرار بضم الجزيرة لهيئة المجتمعات العمرانية تمهيداً لاخلائها بعد أن تم استبعادها من تصنيف المحميات الطبيعية: “لم يكذب الوزير حين قال أنه اشترى أراضي بالتراضي من أصحابها، فهناك 800 فدان مملوكة لأفراد من خارج الجزيرة، قامت الدولة بشرائها، وقامت بخلع المزروعات منها، هل هذا تصرف دولة تريد الحفاظ على البيئة؟ لماذا لا يتم التطوير لصالح أهالي الجزيرة؟ فمن يملك منزلاً يتم تعويضه بمنزل، خاصة وأن الطبيعة الثقافية لسكان الجزيرة مختلفة، والعائلات كأي مجتمع ريفي مترابطة، لا يمكن عزلها عن بعضها بوحدات سكنية في الابراج”، بحسب صابر، الذي ينهي حديثه مع “درج” بالقول: “المشروع الذي أعلنته الدولة ليس منفعة عامة، وإنما هو مشروع استثماري، فإذا أرادت الدولة تنفيذه عليها التفاوض مع السكان، ويكون الأساس في التفاوض هو القيمة العادلة لممتلكات الجزيرة، خاصة أن الجزيرة ليست ممتلكات دولة كما يدعي بعض المسئولين، وإنما هي مملوكة لسكانها بمستندات وعقود ملكية”.
قانون المنفعة العامة
رغم أن مشروع تطوير جزيرة الوراق هو مشروع استثماري في الأساس، إلا أن الاشتباكات المتجددة لتطفيش السكان لها حجة وحيدة، تعتمد على قانون المنفعة العامة لنزع ملكية المباني في مساحة 30 متراً من حرم النيل، و100 متر من حرم الطريق الدائري ومحور “تحيا مصر”.
ورغم أن قانون نزع الملكية للمنفعة العامة تم إجراء العديد من التعديلات عليه، بسبب اشتراط دستور 2014 دفع تعويضات نزع الملكية مقدماً، وهو ما استدعى حزمة من التعديلات عامي 2018 و2020، نصت على أن يكون التعويض عن الممتلكات المنزوع ملكيتها يساوي القيمة السوقية للعقار بالإضافة إلى 20%.
إلا أن هذه التعديلات لم تطبق على الكثير من المناطق بحسب مقال “إصلاح قانون المنفعة العامة” للباحث العمراني يحيى شوكت، فمثلا في مشروع توسعة الطريق الدائري وكذلك محور ترسا بالهرم، تم تعويض شاغلي الوحدات بمبلغ قدره 40 ألف جنيه للغرفة الواحدة، باعتباره تعويضاً اجتماعياً لشاغلي الوحدات التي لا تستحق التعويض لكونها وحدات مخالفة، لكون البناء في حرم الطريق الدائري ممنوع قانوناً، بحسب تصريحات اعلامية لوزير النقل كامل الوزير، وهو ما ينطبق أيضا على المنازل التي تتحجج قوات الأمن بقرار اخلائها.
الحياة المستحيلة
لا يخشي الحاج فتحي محروس من الاشتباكات المستمرة، فهو كما يقول رجل عجوز لن يستطيع التصدي لقوات الشرطة، او يشتبك معهم، كما أن منزله ليس من المنازل المشمولة بقرار الازالة، ولكنه يخشى أن تتسبب قنابل الغاز في اختناقه دون القدرة على إسعافه بعد اقفال المستشفى، كما يخشى أيضا من أن تذل قدمه ويسقط أثناء صعود المعدية للعبور لاقرب مكتب بريد ليحصل على معاشه.
“الحكومة تجعل حياتنا مستحيلة”، يقول محروس لـ”درج”: ” أبلغ من العمر 72 عاماً، وبحكم السن أرى واتحرك بصعوبة، ولم أخرج من الجزيرة بعد بلوغي سن المعاش سوى مرات معدودة، ولكني الآن مضطر إلى العبور شهرياً للحصول على معاشي، وإذا تعرضت لأي أزمة صحية فإن الموت سيكون أسرع من انتقالي إلى أقرب مستشفى، ولا أعرف لماذا تقرر الدولة أن تحرم أي مواطن من حقه في الحياة؟”.
يرفض فتحي الخروج من الجزيرة، فهو أحد الذين ولدوا فيها، ولا يعرف له مكانا آخر في الحياة، خاصة وأن أولاده الثلاثة يعيشون معه في المنزل نفسه، ويتذكر كيف اشترك وزملائه في وقفات احتجاجية ومظاهرات للدفاع عن الجزيرة أمام نظام مبارك، إلا أن المعركة حينها كانت أسهل بكثير بحسب تعبيره.
يعرف فتحي أن عدم وجود منزله في قرار الإزالة هي مسألة وقت، لأن الدولة تريد الجزيرة بأكملها، لكنه يتمنى أن يطول أمد المعركة بين الدولة وأهل الجزيرة حتى وفاته، فلا يضطر لترك الجزيرة التي عشقها، وتوحد معها طوال سنين عمره، ولا يشغل باله بأبنائه الثلاث فهم من وجهة نظره رجال في مقتبل عمرهم، وسيكون لهم القرار حينها أما مواجهة الدولة للدفاع عن جزيرتهم كما دافع هو أمام مبارك، أو تركها.
إقرأوا أيضاً: