fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

تعالي يا حنّة آرنت أخبرك عن حال اللاجئين في الدنمارك…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يا حنّة، بعد خطابك هذا بأربعين سنة، أصبحت الدنمارك اليوم المكان الأقسى على اللاجئين. وتكاد تلك البلاد الاسكندنافية، التي ألقيت فيها خطابك هذا عن الحق المقدس للجوء، أن تقفل باب الإنسانية أمام لاجئي القرن الواحد والعشرين، بل تهدد بترحيلهم إلى بلادهم، تلك التي بقرار سياسي واحد تحولت إلى “مساحة آمنة”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يستهل كتاب “المسؤولية والحكم” لحنّة آرنت ( دار الجمل-2023) بخطاب آرنت في الدنمارك نهاية السبعينات، ناقشت فيه قانون اللجوء ونظامه في أوروبا خلال الحرب العالميّة الثانية. اللافت في خطابها هذا، أنها تذكر الدنمارك كمثال على الدول التي تعاملت مع اللجوء “كحق مقدس” قبيل الحرب العالمية الثانية، على رغم أنها رفضت منح اللاجئين الجنسية والسماح لهم بالعمل، إلا أنها لم تسلمهم إلى الحكومة النازية، وكان الدنماركيون الوحيدين من شعوب الدول الخاضعة للحكم النازي الذين “يجرؤون على الحديث في الأمر مع حكامهم”…. يا حنّة، بعد خطابك هذا بأربعين سنة، أصبحت الدنمارك اليوم المكان الأقسى على اللاجئين. وتكاد تلك البلاد الاسكندنافية، التي ألقيت فيها خطابك هذا عن الحق المقدس للجوء، أن تقفل باب الإنسانية أمام لاجئي القرن الواحد والعشرين، بل تهدد بترحيلهم إلى بلادهم، تلك التي بقرار سياسي واحد تحولت إلى “مساحة آمنة”.

قلة من الأسماء الفكرية الكبيرة، تلك التي احتلت الحقل الفلسفي في القرن العشرين، مَن تمكن مِن الحفاظ على حضوره في يومنا الحالي. لا كأسماء في أنطولوجيا الفلسفة وتاريخها، فالجميع سيبقى بالطبع، لكن ما أقصده الحضور على طريقة “الترند”. إذ يصبح الاسم مشاعاً، تتحدث فيه الغالبية، ويملي الجميع آراءه فيه، لو لم يقرأ حرفاً واحداً من إرث صاحب الاسم وفكره. واحدة من أبرز هؤلاء تقريباً، حنة آرنت، المفكرة والكاتبة الألمانية ذات الحضور الفلسفي الكبير في القرن الماضي، وهي الاسم الحاضر اليوم في “ترندات مختلفة” بحسب لغة وسائل التواصل الاجتماعي، بخاصة، حينما ينشط الحديث عن العنف والسلطة والعدالة، بل وصل الأمر إلى MEMS خاصة بها.

 خلف آرنت الترند، تقبع فيلسوفة شرحت المفاهيم الأساسية لتكوين السلطة، وعلى رأسها مفهوما “المسؤولية والحكم”. عنوان كتابها الصادر حديثاً بالعربية عن منشورات الجمل، ترجمة معز مديوني. كتبت آرنت بلسانين: الألمانية، وهي لغتها الأم، والإنكليزية التي تعلمتها بعد الخامسة والثلاثين، وكتبت الكثير من المقالات والأبحاث بها، ومنها كتابها هذا، وهو حصيلة مقالات ومحاضرات ومحاولات، قدمتها آرنت بعد انتقالها للعيش في أميركا إبان الحرب العالمية الثانية. ربما ما يميز كتاب “المسؤولية والحكم” عن باقي كتب آرنت، أن القارئ له يمنح “فرصة الاستماع لآرنت مدرِّسة، وقد يتخيلها وهي تقوم بذلك الدور”.  الكتاب مقسوم لفصلين رئيسيين، المسؤولية والحكم، ونصوصه كتبت وألقيت في أوقات مختلفة من ستينات القرن العشرين.

سيرة بيوغرافية للاجئة 

تستهل آرنت قولها الفلسفي هنا بما “هو بيوغرافي صرف”. فتنطلق من نفسها ، ومن حكايتها كمواطنة ألمانية، يهودية، فرت من بلادها نحو أميركا، واستقرت فيها، ثم صارت مواطنة في الولايات المتحدة “لأن الجمهورية كانت بالفعل حكومة قانون لا حكومة بشر”.  تمايز آرنت بين نظام اللجوء الأوروبي في الحرب العالمية، وتعامُل الأميركيين المختلف مع فكرة اللجوء وقوانينه الناظمة. لتنتقل إلى السؤال عن ضرورة الحاجة الى الفلسفة، وبتعبير أدق، الحاجة الى التفكير. الديالوغ الصامت بين المرء ونفسه، وهو “الأسلوب الوحيد الذي أستطيع فيه مرافقة نفسي والاكتفاء بها”.

التفكير في ظل الديكتاتوريّة

تحت عنوان “المسؤولية الشخصية في ظل الحكم الديكتاتوري”، تنطلق آرنت من مسألة الحكم، وتحاول أن تقرأ الأفراد المقيمين تحت حكم شمولي. كيف تنشأ أحكامهم؟ وإلى أي مدى هي أحكام حرة بالفعل؟  وقبل ذلك، ما هي أولويات الحكم وما هي قوته؟ “كيف يمكننا التمييز بين الحق والباطل، من دون معرفة القانون؟ وكيف يمكننا الحُكم من دون وجودنا في الوضعية نفسها سابقاً؟”.

إذاً، المسؤولية والحُكم مفهومان مرتبطان بالجذور، لا يمكن قراءة أي منهما على حدة، وتستحيل قراءتهما بمعزل عن الأرضية الأخلاقية، والقانونية القابعة خلف (الحُكم) و(المسؤولية) الناتجة منه. فالحكم، قانونياً أو أخلاقياً، على أفراد عاشوا في ظل حكم ديكتاتوري، والتعامل مع  مسؤوليتهم، ليس بالسهولة التي يظنها البعض. باب الفرار من المسؤولية، مسؤولية الفعل الإجرامي في الحرب، يبقى مفتوحاً على مصراعيه أمام المذنبين، طالما يمكنهم نسب أحكامهم، بالقتل والتعذيب، إلى القادة، وهؤلاء بدورهم يرمون مسؤولية أحكامهم على النظام السياسي العام، وقانونه، وبذلك كأنما الجميع يعترف بالذنب لكن من دون أن يحمل مسؤوليته، “وكانت نتيجة هذا القبول التلقائي بالذنب الجماعي، بالطبع، ناجعة جداً، وإن لم تكن مقصودة، وهي بمثابة تلميع صورة جميع أولئك الذين كانوا قد فعلوا شيئاً ما”.

الفرار من المسؤولية… أمام الذات

ليس الهروب من المسؤولية بفعل هيّن، أو في المتناول. يمكنك أن تفلِت من المسؤولية القانونية، وتراوغ المسؤولية الأخلاقية، لكن مسؤوليتك أمام ذاتك تكاد تكون مقفلة. لا يمكنك الإفلات منها، لأن الحَكَم هو الذات نفسها وليس الآخر، العمومي أو الشخصي. رغم ذلك، قد يهرب المرء من المسؤولية إلى ذاته، أي ينسحب من الشأن العام إلى الحياة الخاصة به.

 بيد أن هذا الهروب هو بجوهره حسب آرنت “الأسلوب الأسهل للهروب غير المسؤول”. لكن في الوقت ذاته، يجد أصحاب هذا الفرار حجة أخلاقية قديمة، فإذا كانت أفعال النظام الشمولي هي الشر الأكبر، فاللجوء الى الذات هو الشر الأدنى، وحينما تواجه شرّين “فمن واجبك أن تختار الشر الأدنى، بينما يكون من عدم المسؤولية رفض الاختيار بالكامل”. تقترب آرنت بالمقتبس السابق من سارتر، وبشكل أعمق من هايدغر، معلمها وحبيبها، الذي ربط فعل الاختيار (قد يكون حكماً) والمسؤولية الناتجة منه بمفهوم الحرية. وحده الإنسان غير الحر هو الذي لا يختار، أو حسب تعبير نيتشه، العبد، بشبكة أخلاقه، هو فقط من يهرب من الاختيار، ويفزَع من الحُكم.

تستند آرنت كثيراً إلى نيتشه، تحديداً في معرض حديثها عن المشكل الأخلاقي. تحت عنوان “بعض أسئلة الفلسفة الأخلاقية”، تعود آرنت إلى نيتشه باعتباره “من أسمَى نفسه أخلاقياً، وهو من كان بلا شك كذلك”. تناقش وإياه الأخلاق وأرومتها، هدمها وتفتيتها، وهو الخبير في قلب القيم والانقضاض على الفضائل المثالية والدينية بمطرقته الفلسفية الشديدة. لاحقاً، تنتقل آرنت لمناقشة فيلسوف أخلاقي جبار، إيمانويل كانط. يرى كانط أن الهروب إلى الذات والخروج منها ممكنان دوماً، لأن الإنسان يمكنه أن يكذب على نفسه، “ولهذا أعلن مراراً وتكراراً كون المكان الموجع والفاسد في الطبيعة البشرية إنما هو في الواقع الكذب، مَلَكة الكذب”.

في مقالها المعنون “المسؤولية المشتركة”، تبحث آرنت في تعويم الذنب. بعبارة أخرى، تعميم الذنب على الجميع، بحيث يصبح ما حدث ليس ذنب فرد أو مجموعة أفراد، بل هو ذنب الجميع. مثلما حدث إبان الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، عندما علت صرخة “كلنا مذنبون” في إشارة الى مسؤولية كل الأمة الألمانية عن فظائع الحرب النازية. ورغم جاذبية هذه الفكرة وإغرائها، إلا أنه “حينما يكون الجميع مذنبين، لا أحد يكون مذنباً”. وهنا تفرّق آرنت بين الذنب والمسؤولية. يمكن المسؤولية أن تكون مشتركة، أو تقع على عاتق الجميع، لكن الذنب، على خلاف المسؤولية، لا يمكنه أن يكون مشتركاً،  فهو “شخصي بشكل حصري. ويحيل على الفعل، وليس على المقاصد والإمكانات”. لذلك، ما إن عُمّمَ الذنب، حتى تاه وتلاشى. أما المسؤولية المشتركة فهي واقعة دوماً، ولا يمكن الفكاك منها.

ألا يمكننا الفكاك منها حقاً؟ ألا يمكن الفرار من المسؤولية الجماعية عن حدث تاريخي ما؟ تسأل آرنت وتجيب بالنفي، لأنه بإمكاننا إخلاء مسؤوليتنا السياسية والاجتماعية بمغادرة الجماعة المسؤولة، لكننا سنجد أنفسنا، ولأن الفرد لا يمكنه العيش من دون جماعة، نستبدلها بجماعة أخرى، “وبالتالي استبدال نمط ما من المسؤولية بنمط آخر”. وحدهم اللاجئون ـــ حسب آرنت ــ الخارجون عن هذا الناموس، فهم بلا دولة، أو كيان، ولا يمكن بالفعل “أن نحملهم المسؤولية عن أي شيء”.

الحُكم بما هو مَلَكة

“هل قدرتنا على الحكم، على بيان الصواب من الخطأ، والجميل من القبيح، تتوقف على ملكة التفكير عندنا؟”. في أثير هذا السؤال، تدور مقالات ومحاضرات آرنت الأربع في الفصل الثاني من الكتاب. تحاول آرنت في نبشها جذر مفهوم الحكم، التوقف بداية عند “التفكير” بوصفه مَلَكة من مَلكات العقل. تعود إلى كانط مجدداً، فيلسوف العقل الأكبر، وتستعين به للإجابة عن ماهية الأفكار الخطيرة، فيجيبها بأنه لا توجد أفكار خطيرة، فالتفكير نفسه هو الأمر الخطير”، وهذا الاقتباس هو أشهر MEME لآرنت. تستمر في بحثها، وتعاود طرح السؤال على كانط، لماذا التفكير على هذا القدر من الخطر؟ يجيب باقتضاب: “لأن التفكير هو بمثابة الخطر على كل أشكال الاعتقاد على حد السواء، وهو لا يقدم في حد ذاته أي اعتقاد جديد”.

 لا تنهي آرنت محاورتها مع كانط هنا. تعود إلى الحُكم، وارتباطه بالتفكير. الحُكم بوصفه مَلَكة مرتبطة بوثاق أبدي مع التفكير؟ يجيبها كانط بالنفي، ويعيد التأكيد على الحكم بما هو مَلَكة مستقلة، و”ليست ملكة الحكم على الخواص، أي القدرة على القول ((إن هذا خطأ)) أو ((إن هذا جميل)) ..إلخ، هي عينها مَلَكة التفكير”.

بعد جدليتها الكانطية، تقدم آرنت تأملاتها حول “ليتل روك”، تلك الحادثة الشهيرة في أميركا في الخمسينات، حينما رافق عناصر من الجيش الأميركي مجموعة من الطلاب الأميركيين من أصول أفريقية إلى مدارسهم، بحادثة هي الأولى من نوعها آنذاك. كان ذلك الفعل تطبيقاً لقرار المحكمة الأميركية العليا بإنهاء الفصل العنصري في المدارس. 

تقرأ آرنت هذه الحادثة بوصفها دلالة على أثر الحُكم. الحكم بإلغاء التمييز العنصري في أميركا. وتخلص في تأملاتها في حادثة “ليتل روك”، إلى أن هذا التطبيق العسكري للحُكم لا يساهم في تكريسه، بل على العكس، قد يفجر الوضع في ما بعد، أو كما أشار فولكنر سابقاً إلى أن “الاندماج المفروض عنوة ليس أفضل من التمييز المفروض عنوة”. وهذا ما تخلص إليه آرنت في مقالتها هذه، وتستشرف استمرار صراع اللون في أميركا، رغم كل الأحكام الناظمة للتمييز العنصري التي حملها القانون المدني الأميركي منذ الخمسينات إلى اليوم.

 في مقالها التالي، عن محاكمة أوشفيتس، تفصّل آرنت في تحليل ((أمزجة)) القتلة في أوشفيتز. وكما فعلت في كتابها “تفاهة الشر”، تحاول أن تجد المصدر الأساس للحُكم. وتخلص، بعد سرد مؤلم لأحداث الموت، الى أن من أطلق الحُكم هنا، أو من كان الحاكم بعبارة أخرى، هو الموت، “فهو كان الحاكم على حين غرة في أوشفيتز، لكن ما كان جنباً إلى جنب مع الموت، إنما هو المصادفة ــ العنصر الأكثر فظاعة واعتباطية واتفاقية واختراقاً في أمزجة خدام الموت – التي حددت مصير المساجين”. 

المقال الأخير في الكتاب، جاء بعنوان “العودة إلى القِن”، تقدم فيه آرنت واحدة من قراءاتها لحرب فيتنام، وهي التي كانت تعرضت لها في مواقع كثيرة من كتاباتها. تتساءل آرنت هنا عن صناعة الصورة الأميركية من حيث هي سياسية كوكبية تحوم دوماً في فلك الكذب، “ولكنّ كذباً من هذا القبيل ليس شيئاً جديداً، ولا هو بالضرورة جنون سياسي”. ربما لأن الأكاذيب دائماً ما كانت مبررة من طرف السلطة في حالات الطوارئ. المطلوب من السلطة إبان الكذب، هو التناسي، محاولة العفو عن الكذب، ونسيان الوقائع المحزنة في التاريخ. نسيان حرب فيتنام، نسيان ووترغيت (نسيان حرب العراق حالياً) والصفح عن كل ما سلف في سبيل شفاء المواطن الأميركي، لكن ذلك لن يتم فـ”ليس العفو ما سيشفينا ــ نحن مواطنو الجمهورية ــ وإنما فقدان الذاكرة” وعودة جميع الدجاج إلى القِن.

يا حنّة، بعد خطابك هذا بأربعين سنة، أصبحت الدنمارك اليوم المكان الأقسى على اللاجئين. وتكاد تلك البلاد الاسكندنافية، التي ألقيت فيها خطابك هذا عن الحق المقدس للجوء، أن تقفل باب الإنسانية أمام لاجئي القرن الواحد والعشرين، بل تهدد بترحيلهم إلى بلادهم، تلك التي بقرار سياسي واحد تحولت إلى “مساحة آمنة”.

يستهل كتاب “المسؤولية والحكم” لحنّة آرنت ( دار الجمل-2023) بخطاب آرنت في الدنمارك نهاية السبعينات، ناقشت فيه قانون اللجوء ونظامه في أوروبا خلال الحرب العالميّة الثانية. اللافت في خطابها هذا، أنها تذكر الدنمارك كمثال على الدول التي تعاملت مع اللجوء “كحق مقدس” قبيل الحرب العالمية الثانية، على رغم أنها رفضت منح اللاجئين الجنسية والسماح لهم بالعمل، إلا أنها لم تسلمهم إلى الحكومة النازية، وكان الدنماركيون الوحيدين من شعوب الدول الخاضعة للحكم النازي الذين “يجرؤون على الحديث في الأمر مع حكامهم”…. يا حنّة، بعد خطابك هذا بأربعين سنة، أصبحت الدنمارك اليوم المكان الأقسى على اللاجئين. وتكاد تلك البلاد الاسكندنافية، التي ألقيت فيها خطابك هذا عن الحق المقدس للجوء، أن تقفل باب الإنسانية أمام لاجئي القرن الواحد والعشرين، بل تهدد بترحيلهم إلى بلادهم، تلك التي بقرار سياسي واحد تحولت إلى “مساحة آمنة”.

قلة من الأسماء الفكرية الكبيرة، تلك التي احتلت الحقل الفلسفي في القرن العشرين، مَن تمكن مِن الحفاظ على حضوره في يومنا الحالي. لا كأسماء في أنطولوجيا الفلسفة وتاريخها، فالجميع سيبقى بالطبع، لكن ما أقصده الحضور على طريقة “الترند”. إذ يصبح الاسم مشاعاً، تتحدث فيه الغالبية، ويملي الجميع آراءه فيه، لو لم يقرأ حرفاً واحداً من إرث صاحب الاسم وفكره. واحدة من أبرز هؤلاء تقريباً، حنة آرنت، المفكرة والكاتبة الألمانية ذات الحضور الفلسفي الكبير في القرن الماضي، وهي الاسم الحاضر اليوم في “ترندات مختلفة” بحسب لغة وسائل التواصل الاجتماعي، بخاصة، حينما ينشط الحديث عن العنف والسلطة والعدالة، بل وصل الأمر إلى MEMS خاصة بها.

 خلف آرنت الترند، تقبع فيلسوفة شرحت المفاهيم الأساسية لتكوين السلطة، وعلى رأسها مفهوما “المسؤولية والحكم”. عنوان كتابها الصادر حديثاً بالعربية عن منشورات الجمل، ترجمة معز مديوني. كتبت آرنت بلسانين: الألمانية، وهي لغتها الأم، والإنكليزية التي تعلمتها بعد الخامسة والثلاثين، وكتبت الكثير من المقالات والأبحاث بها، ومنها كتابها هذا، وهو حصيلة مقالات ومحاضرات ومحاولات، قدمتها آرنت بعد انتقالها للعيش في أميركا إبان الحرب العالمية الثانية. ربما ما يميز كتاب “المسؤولية والحكم” عن باقي كتب آرنت، أن القارئ له يمنح “فرصة الاستماع لآرنت مدرِّسة، وقد يتخيلها وهي تقوم بذلك الدور”.  الكتاب مقسوم لفصلين رئيسيين، المسؤولية والحكم، ونصوصه كتبت وألقيت في أوقات مختلفة من ستينات القرن العشرين.

سيرة بيوغرافية للاجئة 

تستهل آرنت قولها الفلسفي هنا بما “هو بيوغرافي صرف”. فتنطلق من نفسها ، ومن حكايتها كمواطنة ألمانية، يهودية، فرت من بلادها نحو أميركا، واستقرت فيها، ثم صارت مواطنة في الولايات المتحدة “لأن الجمهورية كانت بالفعل حكومة قانون لا حكومة بشر”.  تمايز آرنت بين نظام اللجوء الأوروبي في الحرب العالمية، وتعامُل الأميركيين المختلف مع فكرة اللجوء وقوانينه الناظمة. لتنتقل إلى السؤال عن ضرورة الحاجة الى الفلسفة، وبتعبير أدق، الحاجة الى التفكير. الديالوغ الصامت بين المرء ونفسه، وهو “الأسلوب الوحيد الذي أستطيع فيه مرافقة نفسي والاكتفاء بها”.

التفكير في ظل الديكتاتوريّة

تحت عنوان “المسؤولية الشخصية في ظل الحكم الديكتاتوري”، تنطلق آرنت من مسألة الحكم، وتحاول أن تقرأ الأفراد المقيمين تحت حكم شمولي. كيف تنشأ أحكامهم؟ وإلى أي مدى هي أحكام حرة بالفعل؟  وقبل ذلك، ما هي أولويات الحكم وما هي قوته؟ “كيف يمكننا التمييز بين الحق والباطل، من دون معرفة القانون؟ وكيف يمكننا الحُكم من دون وجودنا في الوضعية نفسها سابقاً؟”.

إذاً، المسؤولية والحُكم مفهومان مرتبطان بالجذور، لا يمكن قراءة أي منهما على حدة، وتستحيل قراءتهما بمعزل عن الأرضية الأخلاقية، والقانونية القابعة خلف (الحُكم) و(المسؤولية) الناتجة منه. فالحكم، قانونياً أو أخلاقياً، على أفراد عاشوا في ظل حكم ديكتاتوري، والتعامل مع  مسؤوليتهم، ليس بالسهولة التي يظنها البعض. باب الفرار من المسؤولية، مسؤولية الفعل الإجرامي في الحرب، يبقى مفتوحاً على مصراعيه أمام المذنبين، طالما يمكنهم نسب أحكامهم، بالقتل والتعذيب، إلى القادة، وهؤلاء بدورهم يرمون مسؤولية أحكامهم على النظام السياسي العام، وقانونه، وبذلك كأنما الجميع يعترف بالذنب لكن من دون أن يحمل مسؤوليته، “وكانت نتيجة هذا القبول التلقائي بالذنب الجماعي، بالطبع، ناجعة جداً، وإن لم تكن مقصودة، وهي بمثابة تلميع صورة جميع أولئك الذين كانوا قد فعلوا شيئاً ما”.

الفرار من المسؤولية… أمام الذات

ليس الهروب من المسؤولية بفعل هيّن، أو في المتناول. يمكنك أن تفلِت من المسؤولية القانونية، وتراوغ المسؤولية الأخلاقية، لكن مسؤوليتك أمام ذاتك تكاد تكون مقفلة. لا يمكنك الإفلات منها، لأن الحَكَم هو الذات نفسها وليس الآخر، العمومي أو الشخصي. رغم ذلك، قد يهرب المرء من المسؤولية إلى ذاته، أي ينسحب من الشأن العام إلى الحياة الخاصة به.

 بيد أن هذا الهروب هو بجوهره حسب آرنت “الأسلوب الأسهل للهروب غير المسؤول”. لكن في الوقت ذاته، يجد أصحاب هذا الفرار حجة أخلاقية قديمة، فإذا كانت أفعال النظام الشمولي هي الشر الأكبر، فاللجوء الى الذات هو الشر الأدنى، وحينما تواجه شرّين “فمن واجبك أن تختار الشر الأدنى، بينما يكون من عدم المسؤولية رفض الاختيار بالكامل”. تقترب آرنت بالمقتبس السابق من سارتر، وبشكل أعمق من هايدغر، معلمها وحبيبها، الذي ربط فعل الاختيار (قد يكون حكماً) والمسؤولية الناتجة منه بمفهوم الحرية. وحده الإنسان غير الحر هو الذي لا يختار، أو حسب تعبير نيتشه، العبد، بشبكة أخلاقه، هو فقط من يهرب من الاختيار، ويفزَع من الحُكم.

تستند آرنت كثيراً إلى نيتشه، تحديداً في معرض حديثها عن المشكل الأخلاقي. تحت عنوان “بعض أسئلة الفلسفة الأخلاقية”، تعود آرنت إلى نيتشه باعتباره “من أسمَى نفسه أخلاقياً، وهو من كان بلا شك كذلك”. تناقش وإياه الأخلاق وأرومتها، هدمها وتفتيتها، وهو الخبير في قلب القيم والانقضاض على الفضائل المثالية والدينية بمطرقته الفلسفية الشديدة. لاحقاً، تنتقل آرنت لمناقشة فيلسوف أخلاقي جبار، إيمانويل كانط. يرى كانط أن الهروب إلى الذات والخروج منها ممكنان دوماً، لأن الإنسان يمكنه أن يكذب على نفسه، “ولهذا أعلن مراراً وتكراراً كون المكان الموجع والفاسد في الطبيعة البشرية إنما هو في الواقع الكذب، مَلَكة الكذب”.

في مقالها المعنون “المسؤولية المشتركة”، تبحث آرنت في تعويم الذنب. بعبارة أخرى، تعميم الذنب على الجميع، بحيث يصبح ما حدث ليس ذنب فرد أو مجموعة أفراد، بل هو ذنب الجميع. مثلما حدث إبان الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، عندما علت صرخة “كلنا مذنبون” في إشارة الى مسؤولية كل الأمة الألمانية عن فظائع الحرب النازية. ورغم جاذبية هذه الفكرة وإغرائها، إلا أنه “حينما يكون الجميع مذنبين، لا أحد يكون مذنباً”. وهنا تفرّق آرنت بين الذنب والمسؤولية. يمكن المسؤولية أن تكون مشتركة، أو تقع على عاتق الجميع، لكن الذنب، على خلاف المسؤولية، لا يمكنه أن يكون مشتركاً،  فهو “شخصي بشكل حصري. ويحيل على الفعل، وليس على المقاصد والإمكانات”. لذلك، ما إن عُمّمَ الذنب، حتى تاه وتلاشى. أما المسؤولية المشتركة فهي واقعة دوماً، ولا يمكن الفكاك منها.

ألا يمكننا الفكاك منها حقاً؟ ألا يمكن الفرار من المسؤولية الجماعية عن حدث تاريخي ما؟ تسأل آرنت وتجيب بالنفي، لأنه بإمكاننا إخلاء مسؤوليتنا السياسية والاجتماعية بمغادرة الجماعة المسؤولة، لكننا سنجد أنفسنا، ولأن الفرد لا يمكنه العيش من دون جماعة، نستبدلها بجماعة أخرى، “وبالتالي استبدال نمط ما من المسؤولية بنمط آخر”. وحدهم اللاجئون ـــ حسب آرنت ــ الخارجون عن هذا الناموس، فهم بلا دولة، أو كيان، ولا يمكن بالفعل “أن نحملهم المسؤولية عن أي شيء”.

الحُكم بما هو مَلَكة

“هل قدرتنا على الحكم، على بيان الصواب من الخطأ، والجميل من القبيح، تتوقف على ملكة التفكير عندنا؟”. في أثير هذا السؤال، تدور مقالات ومحاضرات آرنت الأربع في الفصل الثاني من الكتاب. تحاول آرنت في نبشها جذر مفهوم الحكم، التوقف بداية عند “التفكير” بوصفه مَلَكة من مَلكات العقل. تعود إلى كانط مجدداً، فيلسوف العقل الأكبر، وتستعين به للإجابة عن ماهية الأفكار الخطيرة، فيجيبها بأنه لا توجد أفكار خطيرة، فالتفكير نفسه هو الأمر الخطير”، وهذا الاقتباس هو أشهر MEME لآرنت. تستمر في بحثها، وتعاود طرح السؤال على كانط، لماذا التفكير على هذا القدر من الخطر؟ يجيب باقتضاب: “لأن التفكير هو بمثابة الخطر على كل أشكال الاعتقاد على حد السواء، وهو لا يقدم في حد ذاته أي اعتقاد جديد”.

 لا تنهي آرنت محاورتها مع كانط هنا. تعود إلى الحُكم، وارتباطه بالتفكير. الحُكم بوصفه مَلَكة مرتبطة بوثاق أبدي مع التفكير؟ يجيبها كانط بالنفي، ويعيد التأكيد على الحكم بما هو مَلَكة مستقلة، و”ليست ملكة الحكم على الخواص، أي القدرة على القول ((إن هذا خطأ)) أو ((إن هذا جميل)) ..إلخ، هي عينها مَلَكة التفكير”.

بعد جدليتها الكانطية، تقدم آرنت تأملاتها حول “ليتل روك”، تلك الحادثة الشهيرة في أميركا في الخمسينات، حينما رافق عناصر من الجيش الأميركي مجموعة من الطلاب الأميركيين من أصول أفريقية إلى مدارسهم، بحادثة هي الأولى من نوعها آنذاك. كان ذلك الفعل تطبيقاً لقرار المحكمة الأميركية العليا بإنهاء الفصل العنصري في المدارس. 

تقرأ آرنت هذه الحادثة بوصفها دلالة على أثر الحُكم. الحكم بإلغاء التمييز العنصري في أميركا. وتخلص في تأملاتها في حادثة “ليتل روك”، إلى أن هذا التطبيق العسكري للحُكم لا يساهم في تكريسه، بل على العكس، قد يفجر الوضع في ما بعد، أو كما أشار فولكنر سابقاً إلى أن “الاندماج المفروض عنوة ليس أفضل من التمييز المفروض عنوة”. وهذا ما تخلص إليه آرنت في مقالتها هذه، وتستشرف استمرار صراع اللون في أميركا، رغم كل الأحكام الناظمة للتمييز العنصري التي حملها القانون المدني الأميركي منذ الخمسينات إلى اليوم.

 في مقالها التالي، عن محاكمة أوشفيتس، تفصّل آرنت في تحليل ((أمزجة)) القتلة في أوشفيتز. وكما فعلت في كتابها “تفاهة الشر”، تحاول أن تجد المصدر الأساس للحُكم. وتخلص، بعد سرد مؤلم لأحداث الموت، الى أن من أطلق الحُكم هنا، أو من كان الحاكم بعبارة أخرى، هو الموت، “فهو كان الحاكم على حين غرة في أوشفيتز، لكن ما كان جنباً إلى جنب مع الموت، إنما هو المصادفة ــ العنصر الأكثر فظاعة واعتباطية واتفاقية واختراقاً في أمزجة خدام الموت – التي حددت مصير المساجين”. 

المقال الأخير في الكتاب، جاء بعنوان “العودة إلى القِن”، تقدم فيه آرنت واحدة من قراءاتها لحرب فيتنام، وهي التي كانت تعرضت لها في مواقع كثيرة من كتاباتها. تتساءل آرنت هنا عن صناعة الصورة الأميركية من حيث هي سياسية كوكبية تحوم دوماً في فلك الكذب، “ولكنّ كذباً من هذا القبيل ليس شيئاً جديداً، ولا هو بالضرورة جنون سياسي”. ربما لأن الأكاذيب دائماً ما كانت مبررة من طرف السلطة في حالات الطوارئ. المطلوب من السلطة إبان الكذب، هو التناسي، محاولة العفو عن الكذب، ونسيان الوقائع المحزنة في التاريخ. نسيان حرب فيتنام، نسيان ووترغيت (نسيان حرب العراق حالياً) والصفح عن كل ما سلف في سبيل شفاء المواطن الأميركي، لكن ذلك لن يتم فـ”ليس العفو ما سيشفينا ــ نحن مواطنو الجمهورية ــ وإنما فقدان الذاكرة” وعودة جميع الدجاج إلى القِن.

|

اشترك بنشرتنا البريدية