لم يُفضِ بحث السيدة نوفة (45 عاماً) التي تنحدر من الرقة السورية عن رفات ابنها الشاب خالد إلى نتيجة طوال الأعوام الثلاثة الماضية.
قُتل الشاب خلال الاشتباكات التي شهدتها منطقته، ودفن على عجل بينما كانت طائرات التحالف الدولي تحوم في السماء، وأزيز الرصاص يملأ الأجواء.
خلال رحلتها اليومية في البحث عن فلذة كبدها، زارت السيدة، مرات عديدة، المؤسسات المعنية بالمفقودين، والتابعة لـ “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” التي تسيطر على المدينة، كما سألت عنه المعنيين في فريق الاستجابة الأولية التابع لمجلس الرقة المدني، ولكن كانت دائماً تعودُ خالية الوفاض.
في إحدى ليالي الرقة “الحزينة” كما تصفها، وبمساعدة جيرانها دفنت نوفة ابنها (18 عاماً) بيديها الاثنتين بينما كانت الدموع تُغطي وجهها، ولم يكن يخيّل إليها أنها ستدفُنه في هذا المكان، بجوار صالة التاج للافراح، المكان التي تمنّت أن تقيم له فيه حفل زفافه في حضور العائلة والأقرباء.
تقع الصالة جنوب الرقة بجوار الجسر القديم، وكانت قبل الحرب مكاناً لنشر الفرح ويقصدها أهالي الحيّ والأحياء المجاورة لإقامة حفلات الزفاف، لكن سرعان ما تحولت إلى مكان مظلم يلفّه السواد ويستذكرهُ أهالي الرقة والسوريون بحزن وحسرة لأنهم دفنوا أحباءهم وأولادهم في مقبرة جماعية بجانب الصالة، سميت باسمها: “مقبرة التاج الجماعية”.
تشكّلت مقبرة التاج أو كما يسميها الأهالي “مقبرة ما بين الجسرين”، بسبب وقوعها بين جسريّ الرقة القديم والجديد، على عجل من قبل الأهالي في فسحة أرض مفتوحة ذات تراب أحمر على مساحة 4 دونمات(4000 متر مربّع)، تقع على مفترق طرق ويمر بجوارها طريق فرعية، لتسجّى فيها جثامين القتلى خلال المعارك الطاحنة بين تنظيم داعش وقوات سورية الديمقراطية التي سيطرت على المدينة في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2017 مدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
تقول نوفة: “بعد الدفن خرجت من المدينة مع احتدام المعارك في الأيام الأخيرة لهزيمة التنظيم، وبعد أشهر تمكنت من العودة إلى الرقة المدمرة وكلّي أمل أن أزور القبر الذي ضم جثة ابني لأتمكن من انتشالها ودفنها في مكان مناسب كي أتمكن من زيارته”.
لكن ما لم تكن تتوقعه السيدة نوفه حصل بالفعل. عند زيارتها مقبرة التاج الجماعية، لم تجد قبر ابنها، فقد تغيرت معالم المكان هنا بعدما تم نقل القبور إلى مكان آخر، والصالة التي كانت معلماً شهيراً قد أزيلت بالكامل مع نهاية العام 2017 ايضاً.
تضيف: “تم استخراج الجثث من مقبرة التاج بسرعة. هكذا قال لي أحد المتطوعين في الفريق العامل على استخراج الجثث ومن ثم نقلت الجثث إلى مقبرة تل البيعة (شرق الرقة) ودفنت هناك. وعندما سألته عن جثة أبنى قال لي لا نعرف… قد تكون دفنت مع أكوام الجثث”.
وضعت ضربتان جويتان متتاليتان للتحالف الدولي على الرقة في الساعات الأولى من 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، حداً لحياة الثمانيني محمد الفياض (أبو سيف) و16 من أفراد عائلته (محمد الفياض وبناته الثلاث، وعمار الفارس، ويسرى عبد العزيز، والطفلة رزقية، وسالم حمد) وجيرانهم، بعدما دمّرت الغارات الجوية منزله، ومنزل شقيق زوجته حسين حمد الفارس الواقعان في شارع ضيق وسط الرقة، وفق بحث مفصّل أجرته منظمة العفو الدولية.
بحسب شهادة مصدر مقرّب من العائلة، وشهادة جيرانه الناجين، عاش الرجل في بيته طوال 50 عاماً، ورفض مغادرة منزله حتى عندما بدأت الحملة العسكرية على المدينة. لكن سلسلة الضربات الجوية أدت إلى مقتله ودفنه في مقبرة جماعية بالقرب من ركام بيته، ليتم فيما بعد نقل رفات القتلى إلى مقبرة خارج المدينة من دون التعرف على الجثث وتحديد هويات الضحايا.
يتعامل القانون الدولي مع المقابر الجماعية على أنها “مسرح جريمة”، ويُعتبر انتشال الجثث من المقابر الجماعية بطرق بدائية من الأسباب التي تؤدي إلى طمس آثار الجريمة وكيفية مقتل الضحايا، فضلاً عن الجثث ومكان وجودها وشكلها، هي أدلة لا يجوز العبث بها قبل معاينتها جنائيًا وقانونيًا في إطار تحقيقات، على حدّ رأي حقوقيين.
هذا ما يجعل من مهمة العثور على هوية رفات ضحية دفنت في مقبرة جماعية ونقل رفاته إلى مكان آخر، مثل رفات ابن نوفه، أمراً شبه مستحيل.
بدوره يقول الخبير الجنائي، الطبيب محمود كَحيل، إن “المشكلة الرئيسيّة في عملية نقل المقابر الجماعية هي في أنّها تضيّع هوية المتوفّين وحقوق ذويهم في التعرّف عليهم”.
“في المقابر الجماعية لا يوجد أوراق ثبوتية مع الرفاة، ولا يوجد أي دليل من هؤلاء، بالتالي الجثث التي تم التعرف عليها هي فقط تلك الجثث التي كانت قد دفنت في البيوت أو سقطت عليها أسقف المنازل.. باقي الجثث لا يوجد معها أوراق”. يقول ياسر الخميس، رئيس فريق شؤون المفقودين و الطب الشرعي السوري التابع لمجلس الرقة المدني (فريق الاستجابة الأولية).
العام الذي قضت فيه عائلة الفياض وابن السيدة نوفة، قضى معهم 1600 مدنياً في قصف جوي ومدفعي للتحالف بحسب توثيق منظمتي العفو الدولية والحروب الجوية، بعد تحليل 200 موقع لضربات جوية، فيما قتل آخرون نتيجة المعارك والقصف والحصار الذي استهدف المدينة.
لكن ومنذ بدء العمل على نقل الرفات وإعلان توقف عمليات نبش القبور بالطرق اليدوية والبدائية، لا يزال الأمل يرواد كثيراً من العائلات التي فقدت أفراداً منها، بالعثور على الجثث.
تقول لينا الحسيني، من اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP)، لـ”درج”: “من غير الواضح عدد الضحايا حتى الآن، في بلدان أخرى، كان من الممكن التعرف على أعداد كبيرة من الرفات البشرية بعد سنوات عديدة، وغالبا في ظروف سياسية وبيئية صعبة للغاية. في فيتنام، على سبيل المثال، تعمل اللجنة الدولية لشؤون المفقودين مع السلطات لتحديد ضحايا الصراع الذي انتهى قبل ما يقرب من خمسة عقود، وفي العراق تعمل اللجنة مع السلطات لتحديد ضحايا الصراع على مدى أربعة عقود”.
نقل الرفات مرة أخرى!
في نيسان/أبريل 2013، أعلن تنظيم “داعش” عن سيطرته على مدينة الرقة، وفي أيلول/سبتمبر 2014، تشكّل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة للقضاء على التنظيم. شنت “قوات سوريا الديموقراطية”، في العام 2016، مدعومة من الولايات المتحدة حملة عسكرية للسيطرة على الرقة، وتمكنت من السيطرة عليها في تشرين الأول/أكتوبر 2017.
وكنتيجة لهذه المعارك، أصبحت الرقة على نطاق واسع أكثر المدن تدميراً في العصر الحديث، وفق OCHAA وما يقدر بـ 80% من اراضي المدينة تركت غير مأهولة.
تقول منظمة العفو الدولية، إنّ ما يزيد على 2500 جثة تم استخراجها من الرقة، وغالبية الجثث تعود إلى أشخاص مدنيين لا علاقة لهم بالنزاع الدائر سوى أنهم كانوا يقيمون على أرض المعارك، وتعتقد المنظمة أن حوالي 3 آلاف جثة لا تزال تحت الأنقاض أو في مقابر جماعية، غالبيتهم من المدنيين أيضًا.
ويوصّف تقريرها المنشور في حزيران/ يونيو 2018 بعنوان “سوريا: حرب الإبادة: خسائر فادحة في صفوف المدنيين في مدينة الرقَّة بسوريا”، وضع المدنيين وهم “يُقتلون بصواريخ طيران التحالف، ويُدفنون تحت الأنقاض بقذائف المدفعية العشوائية التابعة لقوات سورية الديمقراطية، بالإضافةً إلى من يُقتلون على أيدي قنّاصي داعش أو عبر انفجار ألغام في مناطق النزاع.
قبل ليلة من خروج التنظيم الارهابي، كان على المدنيين المحاصرين، أن يدفنوا قتلاهم تحت النيران، وبما أنّ الدفن في المقابر العامّةِ أصبح مستحيلاً، فقد لجأ الأهالي إلى دفن ذويهم وجيرانهم في الساحات العامة والملاعب والحدائق على عجل أو في مقابر جماعية عشوائية.
وبعد سيطرة قوات سورية الديمقراطية على الرقة، بدأ فريق الاستجابة الأولية عبر قسم “انتشال الجثث” العمل على فحص المقابر الجماعية ونقل الرفات إلى خارج المدينة إلى مقابر أعدّت خصيصاً لاحتواء رفات من كانوا في مقابر جماعية داخل الرقة.
كانت مقبرة التاج الجماعية جنوب صالة التاج، والتي استغرق نقل الرفات منها أكثر من شهر منذ 6 حزيران/يونيو لغاية 26 تموز/ يوليو 2018 واحدة من بين ٢٨ مقبرة انتشل الفريق الجثث منها ونقلها لأماكن أخرى.
بلغ عدد الجثث التي انتشلها الفريق الذي ضم متطوعين وعمال حفر وأطباء شرعيين أكثر من 6100 جثة، تم التعرف فقط على حوالي 700 جثة وسلمت لذويها منذ بداية عمل الفريق بتاريخ 9 كانون الأول/يناير 2018، لتبقى هويات رفات 5400 جثة منهم رفات ابن نوفه، وعائلة الفياض ومئات آخرين مجهولة، بعدما نقلت المقابر الجماعية الأساسية إلى مقابر أكبر مساحة خارج المدينة هي: “الشهداء”، “تل البيعة”، “حطين”، لتوارى في الثرى هناك.
يعتبر ياسر الخميس، الذي قاد فريق البحث والانتشال، أنّ دور فريقه كان إسعافياً منذ البداية، وكان يعمل من دون تدريب وذلك بسبب الحاجة الماسة لنقل الجثث من المدينة بناء على طلب وإلحاح الأهالي الذين بدأوا بالعودة بعد خروج داعش.
يقول: “عندما دخلنا الرقة شاهدنا الجثث في الشوارع، كانت المدينة عبارة عن أكوام من الجثث والناس سكنت فوقها، وعلى سبيل المثال كانت الجثث في الشوارع وبين البيوت والأبنية وفي الصالات وعلى السواتر الترابية وفي نهر الفرات وضمن الأراضي الزراعية، تصوّر وجدت 60 جثة في صالة أفراح.. وكنت شاهداً على تشييد أحد الأبنية فوق قبور 10 جثث في حارة البدو. تخيل!”.
حفّار القبور
في الحادي والعشرين من حزيران/يونيو 2018، تكشف أشراقة شمس ذلك اليوم مصدر الصوت الوحيد الذي كان يسمع في عدد من أحياء مدينة الرقة، صوتُ مَجارف يدوية تحفر في التراب، يتخللها صوت الرياح وهي تمر من بين أغصان أشجار الصنوبر القريبة.
حينها كان حفارون يرتدون أقنعة طبية خفيفة، ويحملون أكياساً زرقاء لوضع الأشلاء والعظام داخلها، يهمّون بانتشال مئات الجثث من مقبرة التاج الجماعية التي بدأت تصدر منها رائحة الموت: “في مقبرة التاج الجماعية سلمنا 31 جثة إلى أقاربهم، بعدما جرى التعرف إلى الجثث من خلال المقتنيات الشخصية والوثائق المتواجدة معها أو من خلال اللباس والعلامات الفارقة. كما تمّ تمييز عناصر داعش من خلال اللباس… باقي الجثث لم نستطع التعرف عليها، لذلك وضعنا لكلّ جثة رقماً على الكيس الذي توضع فيه، ثمّ جرى دفنها في مقبرة تل البيعة”.
لا يعرف العامل إن كان الفياض وعائلته من بين الجثث التي تم نقل رفاتهم لصعوبة تحديد هوية الضحايا وجنسهم، لكن ما يعرفه هو أنه تم تسليم فقط 31 جثة لأقاربها، فيما ضاعت جثث 371 ضحية قتلوا ودفنوا على عجل هنا في ظروف مريبة.
يتقاطع كلام الحفار مع وثيقة اطلع عليها فريق التحقيق لمقبرة التاج الجماعية تشير إلى انتشال 402 جثة من المقبرة، بينهم 298 ذكراً، و 36 أنثى، و 45 طفلة، و 17 لم يحدد جنسهم بحسب الوثيقة.
يقول ياسر الخميس: “نحن كنا مخيّرون: إمّا أن تذهب الأدلة كاملة (الجثث) أو نعمل على نقلها مع توثيق سبب الوفاة، بعد شهرين من العمل أصبح لدينا قاعدة بيانات وهي حاليا تضم 6100 جثة.. لقد سجلنا كل شي يتعلق بالجثث كعلامات فارقة مثل وجود سن مكسور أو من هذا القبيل”.
تغيّر قواعد الاشتباك
كان يُطلق على مدينة الرقة عاصمة تنظيم داعش، و قتها كانت المدينة مكتظّة بالمدنيين، وكانت قبل الهجوم الأخير تتعرض للقصف بواسطة طيران التحالف الدولي ضمن قواعد اشتباك تستهدف التنظيم بشكل خاص، وتقلل من الخسائر في صفوف المدنيين، إلا أن قواعد الاشتباك تلك تغيرت عند محاصرة المدينة براً، وتقوقع مقاتلي داعش في داخل المدينة، بحيث خففت القوات الجوية والبرّية من بعض القيود المفروضة عليها بموجب القوانين الأميركية، ما تسبب في دمار كارثيّ في الأبنية والممتلكات، وموت مدنيين من السكان بحسب تقارير حقوقية
يقوم فريق الاستجابة الأولية بتسجيلها بعد انتشال الجثث والتي تتضمن في تفاصيلها عدد الجثث التي تم استخراجها، وجدول أيام العمل، وجنس الجثة، وتخلو من الإشارة إلى أي معلومات إضافية أو علامات مميزة أو حتى أرفاقها بصور ملابس الضحية التي عثر عليها بجانب الجثة.
ولعل هذا ما يفسر أنّ هذا الفريق عَمل منذ خروج التنظيم على انتشال الرفات من المقابر بطرق بسيطة وبدائية، مدفوعاً بمطالبة الأهالي الذين بدأوا بالعودة التدريجية لأحيائِهم حيث افتقر عناصره للخبرة في هذا المجال، وهم على الأغلب من العمال العاديين، يرافقهم طبيب شرعي ولا يستخدمون سوى وسائل الحفر التقليدية.
يعترف الخميس أنه “كان هناك سرعة في العمل على انتشال الجثث وبطريقة غير علمية، ولكن مرد ذلك إلى شكاوى الناس المتتالية، ومطالبتهم بضرورة نقل الجثث لتعود الحياة، لذلك اضطررنا إلى نقل هذه الجثث”.
صورة جوية من القمر الصناعي لصالة التاج وبجوارها أرض زراعية في العام 2015.
صورة جوية من القمر الصناعي تظهر إزالة مبنى الصالة كلياً في العام 2017 كما تظهر الصورة شكل المقبرة الجماعية.
بدوره يعتبر مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، أنّ موضوع المقابر الجماعية بالنسبة لقوات سورية الديمقراطية لم يكن أولوية، حيث يتم العثور على الجثث بطريقة فوضوية، مشيراً إلى مشكلة متعلقة بخلل هيكلي في إدارة الحكم: “هناك خلل مركزي في إدارة الحكم في مناطق قسد، وبالتالي هناك مشكلات خدمية في المنطقة (الرقة) والحل يكمن في انتخاب جهات تمثل المجتمعات المحلية والسكان للعمل على تحديد هويات القتلى”.
أم فيصل، سيدة من سكان الرقة، فقدت زوجها في العام 2012 بعدما اعتقلته أجهزة مخابرات النظام السوري في الرقة، كان ابنها البكر فيصل (18 عاماً) سندها الوحيد، رجل البيت رغم صغر سنه كما تقول، لكن فرحتها بشبابه لم تكتمل بعدما فقدته أثناء المعارك التي شهدتها الرقة وخلال قصف قوات التحالف الدولي.
في منزلها المتواضع ونصف المهدّم، المؤلف من غرفتين ومطبخ صغير، والذي يحيط به ركام المدينة التي لم تتعاف بعد من الحرب، تقول “لا تفتحوا جروحي من جديد فأنا أحاول أن أداويها.. كان فيصل عامود بيتي بعد اعتقال ابو فيصل، ولكنني فقدت السراج والعامود معاً.. نزحنا الى منطقة الكسرات في البرك وبقينا هناك خمسة أشهر، عبرنا نهر الفرات مع طفلي الصغيرين، بعد استهداف التحالف للجسور، ولم يكن البرك آمن في ظل استهداف القوارب من قبل الطيران ايضاً، لقد قتل العديد من الناس”.
عندما عادت السيدة إلى المدينة وحين باشر الاهالي بنقل الجثث من مقبرة التاج، ذهبت تطلب المساعدة من الأهالي لنقل جثمان ابنها فيصل إلى مقبرة أخرى، تقول ” لم أجد قبر ابني وذلك لان الاهالي باشروا بنقل جثامين ذويهم قبل أن تتدخل فرق الاستجابة لإخراجهم بشكل نظامي، ومن خلال استخراج الأهالي جثث أقاربها وحفر التربة تغيرت ملامح المقبرة، ولم أعد أعلم أين قبر فيصل بالتحديد”.
تضيف “عندما باشر فريق الاستجابة بنقل مقبرة التاج، لم أجد جثة ابني من بين الجثث التي نقلوها أو وثقوها حسب زعمهم، وبهذا يكون فيصل قد مات مرتين مرة عندما استهدفه طيران التحالف بقيادة أمريكا، والمرة الثانية حين لم أعثر على قبره أو جثمانه”.
يقول الخميس الذي لا يزال يقود فريق الطب الشرعي وشؤون المفقودين المؤلف من 43 شخصاً ( أطباء ومدخلو بيانات وحقوقيون وعناصر ومهندسون): “إننا كفريق لم نطمس الأدلة، بل على العكس وثقنا كل الجثث التي لا تحتوي على وثائق، ربما ذهبت الأدلة القانونية، لكن في النهاية هذه الجثة دفنت في مقبرة بعد معرفة سبب الوفاة: قصف أو إعدام او أسباب أخرى، نحن نفتخر بعملنا.. فريقنا لم يذنب وإنما أخطأ. ولكن ان تخطئ في أخذ العينات والموقع، أفضل من أن تخطئ وأن تذهب آثار الجثث بشكل كامل”.
جثث تدُفنَ على عجل
حصل فريق التحقيق على فيديوهات توثق نقل المقابر الجماعية، كما رصدنا خطوات النقل حيث يتم وضع الجثث في أكياس ومن ثم يتم دفنها في مقابر مثل مقبرة تل البيعة الواقعة على مسافة خمسة كيلومترات شرق الرقة، وهي مقبرة عامة.
تؤكّد منظمة هيومن رايتس ووتش، أنّ استخراج الجثث حسب وثائق اللجنة يتطلب تحليل بقايا الهياكل العظمية من المقابر الجماعية وجمع المعلومات حول المفقودين، والقدرة على إجراء الحفريات، ومهارات في التعرف على الجثة وتحديد سبب الوفاة.
“عائلات الضحايا والمفقودين في المقابر الجماعية تستحق أن تعرف مصير أبنائها وأن تصل إلى العدالة، الحفاظ على الأدلة من هذه المقابر الجماعية هو جزء أساسي في هذه العملية”.
الملعب الأسود
عمار. غ (43 عاماً) ابن مدينة الرقة، والذي يعمل سائق ميكروباص لنقل الركاب على طريق الرقة-دير الزور، يستذكر كيف اعتقل تنظيم داعش ابن عمه عام 2016 وأودعُوه في سجن العكيرشي، ثم نقلوه إلى الملعب البلدي في الرقة (الملعب الأسود) الذي كان يتخذه التنظيم مقراً أمنياً، ليلقى حتفه هناك بقصف التحالف على الملعب في حزيران/يونيو 2017.
بحسب المعلومات التي وصلت للعائلة دفن الشاب في مقبرة الفخيخة الجماعية جنوب نهر الفرات (منطقة الكسرات).
تعتقد العائلة الآن وبعد مضي أربع سنوات على دفنه أن جثة الشاب موجودة في مكان ما في الرقة، بعدما تم نقل الجثث من مقبرة فخيخة مع بداية العام 2020 إلى مقبرة تل البيعة، يقول عمار “حاولت العائلة معرفة مكان جثة ابن عمي من خلال فريق الاستجابة، ولكن لا يوجد آثار مميزة… في مقبرة تل البيعة (حيث نقلت الجثث من مقبرة الفخيخة الجماعية) هناك الكثير من الجثث التي لم يتعرف عليها الأهالي.. أعدادها كبيرة جداً.. آلاف الجثث التي لا يمكن معرفتها ذلك لعدم وجود جهاز فحص الحمض النووي”. على حد قوله.
يحمّل الشاب المسؤولية للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية التي لم تساعد بشكل صحيح وسريع لمعرفة هويات القتلى ومصير الجثث، حيث الإمكانات التي يعمل بها الطبيب الشرعي ضعيفة، وهناك بطء في عمل الاستجابة ولا يوجد أجهزة لكشف الحمض النووي.
يقول: “الأهالي ينتظرون بفارغ الصبر”. مشيراً إلى أنّ الحصول على أجهزة لتحليل الحمض النووي DNA وبالتالي تحديد هويات الضحايا، هو الطريق الوحيد لمعرفة هوية أكثر من 5 آلاف جثة مجهولة الهوية والمصير.
ولطالما يشتكي فريق شؤون المفقودين و الطب الشرعي من نقص الدعم، ونقص الخبراء في علم الآثار والأنثروبولوجيا. يضم ياسر الخميس الذي يرأس الفريق صوته إلى صوت الشاب عمّار وآخرين، ويطالب بضرورة توفير مثل هذه الأجهزة التي تسهل عمل فريق الطب الشرعي، يقول: “نحتاج أجهزة تحليل DNA وكذلك لاتباع دورات تدريبية مكثّفة للتعامل مع الوضع”.
من جانبه يدعو فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان وكالة البحث عن المفقودين التي تديرها اللجنة الدولية للصليب الأحمر البدء بالمساعدة في البحث عن آلاف المفقودين في سورية.
أين جثة أخي؟
فايز (41 عاماً) من سكان الرقة – منطقة بين الجسرين، فقد أخاه صلاح البالغ من العمر 43 عاماً اثناء المعارك والاقتتال بين قوات “قَسد” وتنظيم داعش بالقرب من منطقة الكراجات نهاية العام 2017.
حَصلنا على رقم تواصل معه عبر تطبيق واتساب لمعرفة مصير جثة أخيه، وهل عثر على جثته بعد 4 سنوات من وفاته؟ وتبيّن لنا أنه خرج من الرقة ويعيش الآن في تركيا كلاجئ.
وافق على الحديث مشترطاً عدم الإفصاح عن اسمه الثلاثي لأن عائلته ما تزال في الرقة.
يَروي فايز تفاصيل القصة مستذكراً أخيه صلاح عندما همّ عصراً بالخروج من البيت “باحثاً عن مكان يستطيع منه تأمين الخبز أو أي شي يؤكل من المحلات المجاورة للكراج، ولكنه تأخر إلى ما بعد آذان المغرب، ولم يعد ونحن جالسون في غرفة في المنزل ننتظر عودته، ولكننا لم نعلم بأن هذه آخر مرة سنرى صلاح فيها”.
كانت المباني المرتفعة في المنطقة والقريبة من بيت صلاح، مراكز قناصة يتبعون تنظيم داعش، وكانت هذه المباني مستهدفة بشكل كبير من قوات التحالف وقسد، فقد دمرت بشكل كبير، بسبب استخدامها من قبل القناصة وفي المقابل كان هناك قنص واستهداف لِمنطقة بين الجسرين من قبل قوات “قسد”.
كل شي متحرك هو هدف، بحسب فايز. يقول “لم يعد صلاح في ذلك اليوم ولم يكن هناك أي وسيلة تواصل معه، ليجد أحد سكان الحي جثته بالقرب من منطقة الكراجات مصاباً بطلقة قناص استقرت في صدره، حيث تمكن من سحب جثته مع بعض الجيران، ودفنوه في المقبرة القريبة حيث كان الأهالي وأفراد التنظيم يدفنون الموتى”.
حتى اليوم لا تعلم العائلة من استهدف صلاح ووضع حداً لحياته، ولا يعلم فايز على وجه التحديد ماذا حل بجثة أخيه بعد نقل المقبرة إلى خارج المدينة بعد خروجهم من الرقة عندما تسنت لهم الفرصة إلى تركيا عبر مدينة إعزاز.
الصلاة على القبر
في تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش في تموز/يوليو 2018، تؤكد المنظمة الحقوقية العالمية أنه في حال استمر العمال في نبش القبور دون تدريب تقني ومعدات ودعم مناسب، فقد تفقد العائلات الفرصة لتحديد رفات أحبائهم بدقة.
“النتيجة، نحن اليوم أمام فشل في التعامل مع المقابر وتحديد هويات القتلى وبالتالي لدينا قلق كبير لان هذا عبث بالأدلة وخلطها وتغيير للوقائع. استمرار العمل بهذه الطريقة يضاعف المشكلة” يقول فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وبدورها تشدد لينا الحسيني من لجنة شؤون المفقودين الدولية على أن “المقابر الجماعية هي مسرح جريمة، ويجب التعامل معها على هذا النحو: فقد تحتوي على أدلة يمكن أن تكون مهمة في الإجراءات الجنائية وآليات العدالة الأخرى”.
“لن نقوم بنقل أي جثث جديدة، إلا بعد تلقينا تدريبات، وكذلك الحصول على أجهزة لأخذ العينات من الجثث، وكشف تفاصيل الوفاة”، يؤكد ياسر الخميس. في الأثناء لا تزال أم فيصل تأمل بأن تجد قبر ابنها يوماً ما… فهي تذهب كل يوم إلى مكان دفنه الأول (مقبرة التاج) وتقرأ الفاتحه على روحه، ثم تذهب إلى مكان دفنه الثاني (حيث نُقل رفاته إلى مقبرة تل البيعة) وتقرأ الفاتحة على روحه أيضاً، عسى أن تصل دعواتها إلى روحه وجسده الغائبين.
أمّا فايز، ورغم عدم معرفته حتى اليوم بمكان دفن أخيه صلاح، لكن كلّه أمل بأن يتمكن يوماً ما من الوقوف عند قبر أخيه الذي ترك وراءه ثلاثة أطفال أكبرهم عمره 8 سنوات، واصغرهم سنتين، ليحكي له ما حل بمدينتهم التي دمرتها الحرب.
أنجز التحقيق بإشراف الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – “سراج”.
إقرأوا أيضاً: