من المفارقات المؤلمة لتفجيري ساحة الطيران في بغداد، أن الأضرار المادية في السوق كانت ضئيلة جداً، لأن الأجساد التي تجمّعت حول الانتحاريين حمت المكان من شظايا التفجير، الذي حصد أرواح 28 شخصاً وأوقع 75 جريحاً، بحسب آخر إحصاء رسمي للضحايا، في منطقة تزدحم يومياً بمئات المتسوقين الذين يبحثون عن منتجات أرخص تلائم قدرتهم الشرائية المتدنّية. الأسلوب الدنيء الذي استخدمه الانتحاريون بادعاء مرض أحدهم، في استغلال لنخوة العراقيين واندفاعهم للمساعدة والنجدة، استدرج عشرات الأشخاص للتحلّق حول الانتحاري الأول لمحاولة إسعافه. ثم مع تجمع الناس لمساعدة الجرحى بعد الانفجار الأول، وقع الانفجار الثاني الذي عاد وأوقع قتلى وجرحى من جديد.
أحد أصحاب البسطات ويدعى مصطفى يقول إن الانفجار جاء في وقت مفاجئ بعد استقرار أمني دام قرابة السنتين، كما تزامن مع عودة السوق إلى شيء من الحياة والحركة، بعدما تراجعت الزحمة فيه بسبب جائحة “كورونا” لفترة معيّنة. والآن مع هذين التفجيرين سيعود الخوف إلى الناس من ارتياد الشارع والسوق. والبسطات وأصحابها، وقد فقد كثيرون منهم أرواحهم، سيفقدون لقمة عيشهم في الأيام والشهور المقبلة.
حمل التفجيران عنوان “عودة داعش” إلى الواجهة مجدداً، بعدما ارتاح كثر من العراقيين إلى أن التنظيم هُزم تماماً في العمليات الحربية التي استهدفته في شمال العراق. الكاتب السياسي العراقي أنمار غازي يقول لـ”درج” إن خلايا “داعش” لا تزال تعمل وهناك مؤشرات سبقت الانفجار، لوجود خروق أمنية ترتبط بالتنظيم في محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين والأنبار، وحتى في بعض مناطق بغداد، وهذه الخروق لم يعلن عنها.
غازي يخشى من أن تجرّ عودة التفجيرات البلاد إلى خطابات التجييش المذهبي من جديد: “هناك بعض التصريحات والإيحاءات من أطراف سياسية أو أعضاء في مجلس النواب العراقي أو محللين في الشأن السياسي، قد تشعل فتيل الحرب الطائفية والعرقية من جديد، وتحيي سيناريو الاقتتال الشعبي المذهبي التي شهده العراق منذ عام 2006، والذي حصد أرواح آلاف العراقيين”، متخوفاً من موجة عنف جديدة “لا سيما أن العراق مقبل على انتخابات برلمانية بعد شهور”.
“التراخي في تنفيذ الإجراءات الأمنية الاحترازية بحجة تحسن الأوضاع الامنية أدى إلى تغلغل العصابات الإرهابيَّة من جديد بين صفوف المواطنين”.
ويرى غازي في هذين التفجيرين دليلاً على عودة خلايا “داعش” الإرهابية إلى التكاثر وهي توجّه رسائل بالدم إلى الحكومة والأجهزة الأمنية، التي يجب أن “تاخذ الحيطة والحذر وتفعّل الجهد الاستخباراتي بشكل حقيقي وواضح وليس إعلامياً فقط، من أجل تجفيف منابع تمويل هذه الخلايا وتدريبها وتجهيزها”. ويشير غازي إلى أن “التراخي في تنفيذ الإجراءات الأمنية الاحترازية بحجة تحسن الأوضاع الامنية أدى إلى تغلغل العصابات الإرهابيَّة من جديد بين صفوف المواطنين”.
الكاتب العراقي المتخصص بالشؤون الأمنية والعسكرية محمد الموسوي يستغرب كيف ينفّذ انتحاريو داعش عمليات إرهابية بهذه السهولة، بعد الهزيمة المفترضة للتنظيم، ومع امتلاك العراق ترسانة عسكرية كبيرة وخبرات أمنية واسعة من الصراع الطويل مع “داعش”، وما أضيف إليها بعد تحرير المناطق التي كانت تسيطر عليها عصابات التنظيم، فضلاً عن المعلومات الأمنية التي حصلت عليها الأجهزة من مئات الدواعش الذين ألقي القبض عليهم. مع ذلك فشلت الأجهزة الأمنية، وخصوصاً الاستخبارية، في تتبع هذين الانتحاريين الذين تجهزا وتنقلا بحرية قبل أن يصلا إلى سوق مزدحم بالناس. ويربط الموسوي بين عودة التفجيرات الإرهابية إلى شوارع بغداد وبين اقتراب الانتخابات النيابية وما يشهده العراق من “تخندقات سياسية لا تخلو من بث سموم في عقول الجيل الناشئ الجديد الذي لم يعِ ولم يعش أحداث الصراعات الطائفية بعد عام 2003”.
المصالح الإقليمية والدولية أيضاً لها دور في تلك الخروق الأمنية كما يقول الموسوي، فالعراق لا يزال للأسف “ساحة صراع دولية وإقليمية وجميع الدول المجاورة تحاول إبعاد الخطر منها ونقل صراعاتها إلى داخل العراق”.
التفجير استدعى إعلان حالة استنفار كبيرة لدى الجهات الحكومية والأمنية، إذ أجرى القائد العام للقوات المسلحة العراقية رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي تغييرات أمنية وعسكرية شملت كبار القادة والضباط من أجل وضع استراتيجية أمنية جديدة للحد من الخروق الأمنية، وكتب على “تويتر”: “ردنا على من سفك دماء العراقيين الطاهرة سيكون قاسياً ومزلزلاً”. كما تعهدت قيادة العمليات المشتركة بـ”اعتقال من ساعد الإرهابيين في الوصول إلى بغداد”، مشيرة في تبريرها لما حدث إلى أن “الضغط الذي مارسته القوات الأمنية على الإرهابيين دفعهم إلى تنفيذ عملياتهم الإجرامية في قلب العاصمة العراقية”.
إقرأوا أيضاً: