تحقيق: محمد بسيكي، أحمد حاج حمدو (SIRAJ)، شارلوت ألفريد وبشار ديب (lighthouse report)
حتّى آخر طلقة خرجت من فوهات بنادق المتحاربين في حيّ القابون الدمشقي، كان منزل الشاب بلال البكري (23 سنة) ما زال صامداً، إذ كانت عائلته محظوظة بنجاة منزلها من القصف العنيف والغارات الجوية، برغم شراسة المعارك هناك.
عندما اندلعت الثورة السورية كان بلال في مرحلة التعليم الإعدادي (الصف التاسع) حينها ترك المدرسة بسبب تدهور الوضع الأمني في القابون.
كان يعيش مع أهله في بيت من 4 غرف، وقد نجح مع بداية عام 2011 في بناء غرفة جديدة خاصة به على السطح، وضعَ لها سقفاً و نوافذ حديدية، وجهزها بالأسلاك الكهربائية اللازمة للإنارة، ووضع باباً مناسباً لتبدأ مرحلة الاستقلالية، لكن انطلاق المعارك ورصد بيته من قبل قناصة تابعين للنظام على الأوتوستراد الدولي من جهة حرستا المقابلة، خرّب خططه، وجعله يعيش متنقلاً ومتخفياً بينما كان القصف على الحي على أشده.
يقول: “عندها أدركنا أن بيتنا أصبح مكشوفاً، ولا يمكن أن نبقى فيه، وعلينا المغادرة على الفور، غادرنا في بداية عام 2013، بعدها بقيت بعيداً من البيت”.
في أيار/ مايو 2017، حطّت المعارك أوزارها في حي القابون الدمشقي بموجب اتفاق وقّعته الحكومة السورية مع فصائل المعارضة المتمركزة هناك، يقضي بخروجهم مع المدنيين المتبقين في الحي ومنهم بلال وعائلته عبر ممرات نحو الشمال السوري، وحتّى ذلك الحين تأكّد بلال من أن منزله على ما يرام، باستثناء بعض الأضرار الطفيفة نتيجة وقوع قذيفة على جدار المنزل من الجهة الجنوبية.
يقول: “في زيارتي الأخيرة إلى البيت قبل النزوح كنت أبحث عن أثمن الأشياء أصطحبها معي… هل تعلم ماذا أخذت؟ لدينا إبريق شاي عمره نحو ستين سنة، أعطاني إياه جدي من بيته، معتبراً أنه تحفة قديمة… أخذت أيضاً بعض الثياب الشتوية وحذائي المفضّل من نوع كاتربيلر… وأخذت آلة كان يعمل عليها والدي لقص الخشب، إضافة إلى كيس يحتوي صوراً قديمة وذكريات لأفراد عائلتي”.
تظهر صور الأقمار الصناعية أنّ منزل بلال كان قائماً عند مغادرته وعائلته الحي إلى شمال سوريا، ولكن بعد فترة، هُدم المنزل الواقع خلف بناء شركة سيرونكس الحكومية وجرّف بالكامل مع كل البيوت بالقرب من الاوتستراد الدولي (M5)، ضمن عمليات هدم واسعة قامت فيها الحكومة السورية في حي القابون وأحياء أخرى، بعد انتهاء المعارك، بحجّة إزالة الأسلحة و الأنفاق والذخائر غير المنفجرة التي خلفتها المعارضة قبل استسلامها، وتم تحويل أجزاء كبيرة من أحياء المعارضة السابقة إلى أنقاض ليس خلال الحرب، بل بعد انتهائها.
يظهر تحليل صور الستالايت أن منزل بلال تم هدمه في الفترة بين 13 و23 أيلول/ سبتمبر 2017.
يقول بلال، الذي يعيش في منفاه في مدينة اسطنبول التركية: “علمنا أنه تم تجريف المنطقة كاملة بعد هدم البيوت القريبة من الاوتوستراد، وشملت عمليات الهدم الشريط الموازي للأوتوستراد من النقطة التي يقع فيها بيتنا وصولاً إلى حي البعلة في القابون”.
على غرار بلال، هدمت قوات الحكومة السورية مساحاتٍ شاسعة من حي القابون الاستراتيجي، الذي يقع على مدخل العاصمة دمشق، في منطقة حيوية تطل على الاوتستراد الدولي حلب- دمشق، وتحيط بها ثكنات عسكرية ومؤسسات سيادية يحظر على المدنيين الاقتراب منها كمقرات القوات الخاصة في الجيش وكلية الشرطة وفرع المخابرات العسكرية والحرس الجمهوري.
يكشف تحليل مفصل لصور الأقمار الصناعية، ومقاطع فيديو، وتغريدات من وزارة الدفاع السورية، جمعها وحللها صحافيون استقصائيون من “الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية” – سراج وLighthouse reports على مدار عام كامل، تعرّض نصف حي القابون تقريباً للهدم بعد انتهاء المعارك أواخر عام 2017، بما في ذلك مبانٍ شاهقة، مثل مبنى العبود ومبنى الأوقاف اللذين يعتبران من العلامات العمرانية المميزة والتي يعرفها سكان الحي.
بداية عام 2018 دأبت وزارة الدفاع السورية وعبر حسابها في “تويتر” على نشر تغريدات على شكل تحذيرات موجهه للسكان، تقول إنّ وحدات الهندسة في الجيش السوري ستقوم بتفجير عبوات وذخائر من مخلفات المعارضة السورية في الكثير من الأحياء والمدن السورية كدمشق وحلب وريف دمشق، وكان حي القابون واحداً من هذه الأحياء.
قام فريق من الصحافيين الاستقصائيين بتجريف هذه التغريدات (1000 تغريدة) وفرزها مناطقياً وزمنياً على مدار أربع سنوات وقاطعها مع وضع حي القابون عند خروج المعارضة منه في 2017 وعلى خط تسلسل زمني لغاية عام 2020.
بعدها تم البناء على تعليق لخبراء عسكريين (ضابطين سابقين في الجيش السوري) بعدما شاهدوا مقاطع الفيديو والصور التي عرضناها عليهم، وخبيرين دوليين، وكذلك على شهادات سكان الحي المهجّرين للوقوف حال بيوتهم وعقاراتهم، عن احتمال وجود ذخائر وعبوات ناسفة بين الشوارع والأزقة في القابون، ما دفع النظام السوري إلى تفجيرها.
بير بريفيك (Per Breivik)، رئيس قسم إزالة الألغام في منظمة المساعدات الشعبية النرويجية (NPA) والتي حصلت على إذن من الحكومة السورية في كانون الأول/ ديسمبر 2021 لبدء إزالة الألغام ولم تبدأ العمل بعد، شكّك في مساعي النظام السوري في تخليص المنطقة من الألغام، وأنه “لا يبدو أنهم يجعلون المنطقة آمنة”. وقال: “إذا هدمت المبنى، فهذا لا يعني أن جميع المتفجرات سوف تنفجر، كذلك يجب على منظمات إزالة الألغام أن تهتم بهذا العمل بدلاً من الجنود. القابون منطقة سكنية، لذلك لا ينبغي أن يقوم الجيش بإزالة الألغام… إنها عملية إنسانية”.
السكان بدورهم نفوا ادعاءات تبعثر الذخائر والعبوات داخل الأبنية وفي الأزقة، والحاجة لتفجيرها، في وقت تعذر الوصول للمنطقة لكونها منطقة عسكرية مغلقة، ويحظر على طواقم الصحفيين وحتى سكان الحي الدخول.
وبالتالي كانت تغريدات وزارة الدفاع السورية عن تفجير الذخائر والعبوات الناسفة بمثابة ستار اختفت وراءه عمليات تفجير واسعة للبيوت وتجريفها لأهداف أخرى، يكشفها هذا التحقيق الاستقصائي.
تعذّر حصولنا على تعليق وتوضيحات من الحكومة السورية أو الجيش للاستفسار على عمليات الهدم الواسعة.
كتلة أحجار !
حي القابون مع امتداده باتجاه حي تشرين، وهو حي شعبي وسكن عشوائي لمواطنين سوريين من مختلف المحافظات وخاصة إدلب وحلب وريف دمشق والحسكة، هؤلاء جاؤوا إلى دمشق بحثاً عن حياة أفضل. قبل الثورة كان السكان يعملون في ورشات بسيطة كالخياطة والملابس، وكانوا موظفين وسائقي سيارات اجرة وعمال مياومين في أعمال البناء، يبنون بيوتاً ومشاريع لسكان دمشق الأغنياء ويعملون في مشاريع تموّلها البلديات في العاصمة أي لمصلحة الحكومة.
يخترق الحي نهر قديم شبه جاف، وهناك سوق للخضراوات مشهور، وهناك سوق الكترونيات يعرفه السوريون جيداً، يعرف باسم سوق التهريب، تأسس في ثمانينات القرن الماضي بالتزامن مع العقوبات الأميركية على سوريا والحصار الاقتصادي الذي فرض ومنع وصول المواد الحساسة والالكترونيات الغربية للبلاد. كانت تدخل المنتجات تهريباً من لبنان وتباع في السوق السوداء وبعلم الحكومة.
قبل أشهرٍ قليلة من اندلاع الاحتجاجات في سوريا، كان بناء العبود الضخم في حي القابون الدمشقي جاهزاً للسكن، حيث بدأ العمل على بناء المجمّع عام 2009 وكان جاهزاً للاستخدام بحلول 2011، إلّا أن الملّاك داخل المجمّع لم ينعموا به إلّا لفترةٍ محدودة، وتحوّل المبنى إلى كتلة حجارة متراكمة.
تحدّث فريق التحقيق إلى أحد المالكين، وفضّل عدم ذكر اسمه لأسبابٍ تتعلّق بسلامته، وقال: “قبل تشييده، حصل البناء على الموافقة على التطوير من قبل البلدية بحيث يكون لدى المالكين أوراق رسمية للعقار الذي أقيم على مساحة 2500 متر مربّع، ويتكون من 14 طبقة، في كل طبقة يوجد 8 شقق سكنية ليكون إجمالي عددها 112 شقّة، بكلفة 330 دولاراً للمتر المربّع”.
وأضاف المالك، أنه بعد اندلاع المعارك، نزح 70 في المئة من سكّان المبنى، ثم تم تهجير العائلات الباقية في وقتٍ لاحق.
يؤكّد المالك أنّ المبنى أصيب بطلقات نارية وقصف بقذائف الهاون، كما تعرض لقصف بالدبابات بسبب ورود معلومات عن استخدام الطوابق العليا منه من قبل القنّاصين التابعين لفصائل المعارضة في الحي لرصد الطريق الدولي، لكنه أوضح أن البناء تضرّر بنحو 20 في المئة فقط.
في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، تداول نشطاء مقطع فيديو لعملية هدم البناء بالتفجير حيث سوّي بالأرض وارتفعت سحابة غبار ضخمة جداً.
عرضنا الفيديو والخرائط الجديدة على أحد المالكين في البناء وسألناه عما إذا تم إخطاره بتفجير البناء أو أنه سوف يحصل مع الملاك الآخرين على تعويضات لقاء خسارته؟ قال : “لم يتم إخطار المالكين بأن المبنى سيتم تفجيره، والآن لا يعرفون طريقة المطالبة بالتعويض”، لافتاً إلى أن رؤية الدمار الممنهج في حي القابون جعلتهم يفقدون الأمل.
إلى جانب بناء العبود، يعتبر بناء الأوقاف في حي القابون، واحداً من أهم الأبنية في الحي. وهو عبارة عن كتلة عمارات على شكل مجمع سكني من خمسة أبنية، ويتكوّن كل بناء من 12 طبقة، كل طبقة من خمس شقق.
في 26 تشرين الثاني 2018 نشرت وزارة الدفاع السورية تغريدة على “تويتر”، تفيد بأن وحدات الهندسة في الجيش السوري ستقوم بتفجير عبوات ناسفة من مخلفات الإرهابيين في منطقة القابون شرق دمشق الساعة الواحدة ظهراً بالتوقيت المحلي.
أحد المقاتلين في الجيش السوري، صوّر مقطع فيديو بثه عبر “فيسبوك” في اليوم الذي غرد فيه حساب وزارة الدفاع على تويتر، يظهر لحظة تفجير مبنى الأوقاف في اليوم ذاته. في الفيديو يظهر العسكري ممسكاً بجهاز لا سلكي، ويقول بعد تفجير البناء وتسويته بالأرض ضاحكاً، “لا ضل بناية ولا ضل شي”، ليأتي صوت من خلفه على ما يبدو أنه أمر من ضابط آخر يثني على العملية مهنئاً من قام بها، ويقول “لا تفتحوا الطريق (الأوتوستراد) على مهل شوي”.
معلومات “فريق الصحافيين” الذي عمل على التحقيق والصور ومقاطع الفيديو المتاحة التي توثق هدم المبنى من زوايا مختلفة، أشارت إلى وجود طبقتين تحت كل عمارة، وهما عبارة عن مستودعات وملاجئ كانت تستخدم أثناء الحرب كمستشفيات ميدانية ومدارس.
تعود ملكية الأرض التي أقيم عليها المبنى إلى وزارة الأوقاف، ولذلك سمّي “مبنى الأوقاف”، حيث كانت مؤسسة الإسكان العسكري الحكومية هي من تتولّى إنشاء المجمّع السكني.
المبنى كان قيد الإنشاء، وكان يفترض أن يُباع على شكل شقق لأفراد الجيش السوري على أقساط ولكن لم يكتمل البناء ولم يسكن فيه أحد بسبب اندلاع المعارك.
أوضحت المعلومات التي جمعناها أيضاً أنه تم ربط الأقبية الموجودة أسفل المباني بأنفاق تحت الأرض، لتسهيل عمليات تنقل السكان بين المجمعات السكنية، وبالتالي تجنب المشي في الشوارع خوفاً من عمليات القنص والقصف على الحي.
في محيط المبنى، تظهر الصور المنشورة وصور الأقمار الصناعية أن مدرسة عبد الغني الباجقني المتوسّطة القريبة قد دمّرت بالكامل عام 2017 إلى جانب مبانٍ أخرى بسبب الهدم.
قبل ذلك، كان المبنى قد ظهر بصورةٍ نشرها “مكتب التوثيق في حي القابون” في 24 شباط/ فبراير 2014، وظهر المبنى قائماً لكنّه تعرّض لتضرّر بسبب عمليات القصف.
بناء الأوقاف وآثار الدمار التي خلفتها المعارك والقصف، مكتب التوثيق/ القابون 2014.
المنظمات بدلاً عن الجنود
تتطلب القواعد الدولية من منظمات نزع الألغام التابعة للأمم المتحدة والمنظمات غير الهادفة للربح مثل NPA تقليل الأضرار التي تلحق بالممتلكات أثناء إزالة المتفجرات. ومع ذلك، لم تسمح الحكومة السورية لأي منظمات دولية كبرى بدخول البلاد لإزالة الألغام خلال عقد من الحرب، وهو تأخير وصفه مسؤول دولي وخبير في إزالة الألغام، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بأنه تصرف لم يسبق له مثيل.
المحادثات بين النظام السوري والمنظمات الدولية تعطّلت بسبب مخاوف المنظمات من أن الحكومة ستحاول السيطرة على الموظفين الدوليين والمحليين الذين تقوم بتعيينهم والمناطق التي يُسمح لهم بالعمل فيها.
يقول بير بريفيك (Per Breivik): “لن نستبدل برامج إزالة الألغام العسكرية على الفور، لكنني آمل أن نفعل ذلك في الوقت المناسب”.
ويضيف: ” إذا فجّرت عبوة ناسفة في بناء، ستؤدي إلى انهياره مع غيره. كما أنها ليست طريقة فعالة للتأكد من التعامل مع جميع المتفجرات. لا توجد طرائق مختصرة لإزالة الألغام للأغراض الإنسانية، يجب التعامل مع كل لغم على حدة وواحداً تلو الآخر”.
تحدّث فريق الصحافيين إلى ضابطين سابقين في وحدات الهندسة السورية، وعرضوا عليهما صوراً ومقاطع فيديو وأدلّة بصرية تظهر سياقات الهدم الممنهج بالأسلحة المتفجرة للبيوت السكنية والعمارات في القابون، وأكّد كلاهما أن هناك إمكانية لإزالة المتفجّرات ومخلّفات الحرب دون الحاجة لهدم المباني السكنية أو تفجيرها.
العقيد المنشق أديب عتيق، قال: “ليس طبيعياً أن يتم هدم المباني سواء بسبب الذخائر أو الأسلحة أو حتى الألغام، لأن هذه المخلّفات يمكن التعامل معها وتفكيكها وإزالتها ونقلها بعيداً لتفجيرها دون الحاجة إلى هدم المبنى أو تفجيره”.
يسأل: “كيف عرفوا أن هذا المبنى فيه ذخائر طالما أنهم لم يدخلوا إليه؟ وإذا دخلوا إلى المبنى ووجدوا ذخائر أو أسلحة أو ألغام فهذا معناه أنّهم كانوا قادرين على إزالة الألغام والذخائر وحملها إلى الخارج دون هدم المبنى أو تدميره، لأن معاينة الألغام تتطلب مشاهدتها بالعين المباشرة ودخول المبنى”.
الحالة الوحيدة التي تتطلّب التفجير بحسب عتيق، هي وجود قنابل الطائرات الضخمة التي يقارب وزنها ألف كيلوغرام و التي لا يمكن تفكيكها، وفي هذه الحالة يجب بناء ساتر أو جدار من الرمل حولها ثم تفجير القنبلة فقط دون إحداث ضرر في المنطقة.
هدم الحارة!
بعد وصول الشاب رامي ع، من سكان حي البعلة في القابون إلى شمال سوريا، ضمن موجة التهجير القسري في أيار/ مايو 2017، دخل أصدقاؤه إلى الحي وأخبروه وقتها أن بيته في حالة جيدة.
يقع المنزل بجانب خزان المازوت في حي البعلة، مساحته مئة متر مربع، مؤلف من طبقتين، شيّد على أرض زراعية تملكها العائلة. لكن بعد عشرة ايام دخلوا مرة أخرى إلى الحي وأخبروه أن بيته تم تفخيخه وهدمه.
يقول رامي: “لقد تم هدم الحارة بالكامل. وجدوا كل البيوت وقد سويت بالأرض”.
على غرار حالة بلال، لا تفكر عائلة رامي بالعودة إلى سوريا، خوفاً من الاعتقال والسجن، وبالتالي هم أمام احتمال كبير لفقدان ملكياتهم لمصلحة المشاريع الجديدة المنوي تنفيذها في القابون.
3 أهداف وراء الهدم
يتفق العقيد أديب عتيق مع رئيس قسم الهندسة في الفرقة الرابعة سابقاً، محمود العبد الله، في أن السبب الأبرز للهدم هو التغيير الديموغرافي، إذ تحدّث كلاهما عن نية النظام بتغيير السكّان، فيما يوضح عتيق أنّه شاهد عمليات هدم مشابهة في حي التضامن في دمشق عام 2012.
العقيد العبد الله الذي خدم لسنواتٍ طويلة في اختصاص هندسة الميدان، قبل مغادرة البلاد في صيف 2012، وضع ثلاثة أهداف للنظام السوري خلف الهدم وهي تخفيف الحاضنة الشعبية من السكان الأصليين وإجراء توزيع ديموغرافي جديد، وإقامة مشاريع سكنية فاخرة من الشركات والتجار المقرّبين منه، ومنع السكان من العودة إلى منازلهم.
قبل الحديث عن الهدم وضع العقيد عبدالله سؤالاً: “ما هي مخلّفات الإرهابيين التي تتحدّث عنها الحكومة السورية؟” وفي الإجابة على هذا السؤال يوضح أن مقاتلي المعارضة ليست لديهم مخلفات استراتيجية، لأن أسلحتهم أصلاً غير متطوّرة، كانوا يستخدمون الأسلحة الفردية والرشاشات المتوسّطة والقنابل اليدوية والقناصات وقذائف المدفعية وقذائف الدبابات والسماد المطبوخ بشكل تقليدي لتحويله إلى عبوات ناسفة، موضحاً أنّه في الخلاصة لا توجد مخلفات حرب لدى المعارضة وإنما بقايا الأسلحة والذخائر والقذائف وهذه يمكن التعامل معها بسهولة دون الحاجة إلى هدم المدن.
ويشرح العبد الله، أن تفجير الذخائر يكون بوضع مخططات لحالة الأبنية التي تحتوي على الذخائر، حتى أعرف كيفية توجيه الضغط من أجل تفجير الذخائر دون هدم المبنى بشكلٍ كامل، مشيراً إلى أن النظام السوري استخدم سلاح “الخراطيم المتفجرة” التي تسمى “الحشوة الثعبانية“، والتي تتهم المعارضة روسيا بتزويدها للنظام وكان الهدف منها “تفجير الألغام”، ولكن كان الهدف حقيقة هو تدمير أكبر مساحة ممكنة من المباني.
مشاريع إعادة الإعمار
القابون هو أحد الأحياء العشوائية الأولى التي تخطط الحكومة لتفكيكها وإعادة بنائها من خلال المباني الشاهقة ومراكز التسوق الفاخرة، بموجب تشريعات ما بعد الصراع المثيرة للجدل والتي تسمح للنظام بمصادرة الأراضي والشراكة مع مستثمرين من القطاع الخاص لتطويرها.
أصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد عام 2012 مرسوماً حمل الرقم 66 “لتطوير مناطق المخالفات والعشوائيات في دمشق”، مثل القابون وجوبر وبرزة.
بعد اكتمال عمليات هدم البيوت وتفجير المساكن والأبنية، أصبحت الأرض في وضعية جهوزية لتنفيذ مشاريع تنظيمية، لأنها أصبحت جاهزة لتشييد الأبنية وفق المخططات التنظيمية والهندسية.
في 14 أيلول/ سبتمبر 2021، صدر المرسوم الذي حمل الرقم (237) ونصّ على إحداث “مناطق تنظيمة” في مدخل دمشق الشمالي (القابون وحرستا)، مستنداً إلى المخطط التنظيمي التفصيلي الذي يحمل رقم (104) والمصدّق من مجلس محافظة في حزيران/ يونيو 2019، والذي غطى نحو 200 هكتار (2 مليون متر مربع)، من مناطق القابون وحرستا، وذلك لإقامة مشروع يضم أبراجاً سكنية وتجارية وخدمية، إضافة إلى مبانٍ استثمارية ومستشفيات ومدارس ومراكز خدمية للمدينة.
بموجب المخطط التنظيمي الجديد، يجب إخطار سكان القابون بالخطوات التي تنوي الحكومة تنفيذها، إلى إعطائهم فرصة للاعتراض على تقييم الحصص والتعويضات بموجب المخطط الجديد.
المخطط التنظيمي الجديد للقابون السكني – خاص فريق التحقيق
تكمن المخالفة هنا للقانون أن الحكومة لم تتبع قواعد قانون إزالة الأنقاض (قانون رقم 3 لعام 2018)، يقول مسؤول الحوكمة وبناء القدرات في وحدة المجالس المحلية التابعة للمعارضة السورية، مظهر شربجي، على اعتبار أن جميع سكان القابون الذين تحدثنا إليهم غير قادرين على إثبات الملكية وعليه من المستحيل إخطارهم قبل إزالة بيوتهم لأنه تم تهجيرهم.
تنص الفقرة “ج” من المادة (2) من القانون على أنه لمالكي عقارات المنطقة العقارية والمقتنيات الخاصة والأنقاض ووكلائهم القانونيين وأقاربهم حتى الدرجة الرابعة ولكل ذي مصلحة أن يتقدم إلى الجهة الادارية المختصة خلال ثلاثين يوماً من تاريخ الإعلان بطلب يبين فيه محل اقامته مرفقا بالوثائق والمستندات المؤيدة لحقوقه.
في بحث مفصّل أجرته “منظمة سوريون من أجل العدالة والحقيقية”، أكدت أن المآخذ الكبرى على المرسوم رقم 237، تكمن في توقيت إصداره، والمهلة القصيرة الممنوحة للناس لتثبيت حقوقها (30 يوماً)، ولا سيما أنه يشمل مناطق منكوبة هجرها سكانها بسبب النزاع، أو مناطق اعتاد الناس فيها على التملك خارج السجل العقاري (بموجب أحكام محكمة أو وكالات عدلية أو وثائق عادية)، ما يطرح مخاوف جدية بضياع نسبة كبيرة من حقوق الناس على ملكيتها بهذه المناطق.
وفقاً للمهندس شربجي، فإنه من المرجح أن تجعل عمليات الهدم هذا الأمر أكثر صعوبة، لأن وثائق الملكية غير الرسمية لا تتضمن مواصفات البناء حتى لا يتمكن الناس من إثبات قيمة ممتلكاتهم بعد هدمها.
يضيف: “سيكون من المستحيل على السكان المهجّرين المطالبة بالتعويضات والحصول على الحصص في المشاريع السكنية الجديدة لأنهم مطلوبون للنظام السوري لأسباب سياسية، وبالتالي هناك احتمالية كبيرة أنه ضاعت ممتلكاتهم”.
تعتبر “هيومن رايتس ووتش”، عمليات الهدم في القابون “جريمة حرب محتملة”، وعمليات غير قانونية ولا يوجد سبب عسكري كاف لهدم البيوت، وأن القانون الدولي يحظر التدمير الجائر للممتلكات.
قالت الباحثة سارا كيالي لفريق التحقيق: “إنهم يهدمون أراضي خاصة دون سابق إنذار أو تعويض مناسب لسكان القابون، وهذا يمنع الأهالي من العودة إلى هذه المناطق”.
وأضافت: “الحكومة السورية جيدة جداً في تصميم إطار قانوني وسياسي يسمح لها بفعل ما تريد تحت ستار شرعي زائف. يسمح لها بانتهاك حقوق الناس تحت ستار الشرعية. لكن إذا نظرت إلى التأثير على الأرض، ستجد أنه من الواضح جداً أنها مسيئة وتنتهك حقوق السوريين والمقيمين بطريقة تتعارض مع القانون الدولي”.
الدور الروسي الملغوم
قال الجيش الروسي، الذي يقوم بتدريب المهندسين العسكريين السوريين على إزالة الألغام، إنه ساعد دمشق في تحديد المجالات ذات الأولوية لإزالة الألغام، بما في ذلك القابون. وبحسب وسائل إعلام روسية رسمية، فإن الشرطة العسكرية الروسية تساعد المهندسين السوريين على الأرض في أحياء دمشقية عدة.
في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2020، نقلت وكالة “تاس” الروسية عن قائد القوات الروسية في سوريا الفريق سيرجي كوزوفليف، أن فرق القنابل الروسية فحصت أكثر من 10 آلاف هكتار من الأراضي السورية.
عام 2018، أقامت روسيا مركزاً لإزالة الألغام في سوريا مكوّناً من 8 مدربين روس خرّجوا 600 من خبراء المتفجرات السوريين.
تؤكّد تصريحات رئيس وحدات الهندسة في الجيش السوري، انخراط الشرطة العسكرية الروسية في المساعدة في إزالة الألغام. وقال قائد وحدة المتفجرات المكلّفة بإزالة الألغام في ضواحي دمشق، ميّاس محمود عيسى. في تصريحٍ في 13 كانون الأول 2018: “إن نصف الألغام ومخلفات الحرب تمت إزالتها من الغوطة الشرقية قرب دمشق بمساعدة الشرطة العسكرية الروسية”.
فيما أظهر تقرير بثّته СЕГОДНЯ الروسية، قوات وآليات من الشرطة العسكرية الروسية وهي تشارك في عمليات إزالة الألغام في سوريا.
بالتوازي مع ذلك، كانت دمشق قد منحت من قبل موافقة لمجموعة أرمينية تديرها وزارة الدفاع الأرمينية للانخراط في تفكيك الألغام وإزالتها في حلب في 9 شباط/ فبراير 2019.
بينما وضعت عمليات هدم البيوت أوزارها في حي القابون، وأصبحت المنطقة معدة للتطوير العقاري، لا تزال أحياء أخرى في محافظة حلب وريفها تشهد المصير ذاته، حتى لحظة كتابة هذا التحقيق. حيث مهّد النظام عبر بنية تشريعية صلبة لهذه “الانتهاكات” كما يقول حقوقيون.
في الأثناء لا تُفكّر عائلة بلال وكغيرها من مئات العائلات التي نزحت قسراً إلى شمال سوريا، بالمطالبة بأي تعويضات أو الاعتراض على هدم بيوتها، بسبب الخوف من الاعتقال والسجن.
“بصراحة الكثير من الناس مثلنا، فقدوا الأمل”، يقول الشاب لفريق التحقيق،
ويضيف متحسّراً: “حالياً وأنا في اسطنبول أشتاق للأيام السابقة – أهلي وأصدقائي وأقربائي في القابون… لكن لا أحنّ للعودة إلى سوريا الحالية، سوريا الحالية لا تشبهني، ولا أعتقد أنّ أي شخص سوري يريدها أو يحنّ للعودة إليها… أحنّ للعودة فقط، إذا عاد الأشخاص الذين رحلوا… الأشخاص الذين كانوا بيننا… لذلك لا أفكر بالعودة أبداً”.
تم إنجاز هذا التحقيق بالتعاون بين وحدة “سراج” للصحافة الاستقصائية و Lighthouse Reports وراديو “روزنة”، ونشرت النسخة العربية على “درج”.
شارك في الإعداد أحمد عبيد (صوت العاصمة)، وميس قات مع Fernande van Tets.
نشر التحقيق في صحيفة Trouw الهولندية وThe Guardian البريطانية).
إقرأوا أيضاً: