“لم أحمل السلاح يوماً، ولم أكن أبداً موالياً لأي طرف، لكننا صُنِّفنا إرهابيين لمجرد بقائنا في تلعفر حين استولى عليها (داعش) صيف 2014. منذ ذلك اليوم دمرت حياتنا. فرض علينا التشرد وكتب نهاية وجودنا في تلعفر”.
يسحب أحمد رشيد (55 سنة)، نفساً عميقاً من سيجارته، وهو ينظر إلى النافذة من شقته الصغيرة في عينتاب جنوب تركيا، حيث يستقر منذ نحو ثلاثة أعوام، قبل أن يضيف: “لا يمكنك أن تجازف بالعودة إلى مدينتك، ربما تُخطَف بدافع الابتزاز، أو توجه لك تهمة موالاة التنظيم، ووسط الفوضى والفساد سيتطلب إثبات الحقيقة وقتاً طويلاً، وقد تدفع حياتك ثمناً”.
رشيد، يبدي قلقه من المشهد الأمني: “بعد عامين من التحرير لم يتحقق الاستقرار، لا شيء واضح. لا تعرف من يحكم. هناك قوات الجيش والشرطة وقوات الحشد بتشكيلاته المختلفة، وعلى بعد عشرات الكيلومترات ينتشر البيشمركة وقوات ايزيدية مختلفة التوجهات… أطواق من القوات متعددة الولاءات تنتشر في بيئة منقسمة مذهبياً وقومياً ودينياً، وعلى مقربة من البيئة الحاضنة لـ(داعش) الممتدة جنوباً على طول الصحراء”.
نصف السكان لم يعودوا
مخاوف رشيد يحملها عشرات آلاف التركمان السنة، الذين يتوزعون بين مخيمات النازحين داخل العراق، أو يستقرون في تركيا وبينهم من يحاول “الهجرة إلى أوروبا، فلا أمل بعودة قريبة”، بعد مرور عامين كاملين على استعادة المدينة التي كانت تضم نحو 250 ألف تركماني، ينقسمون بين الطائفتين السنية والشيعية، نزح أكثر من 70 في المئة منهم خلال سيطرة “داعش”.
لا أثر واضحاً في تلعفر لعمليات الإعمار، والدمار واضح في مختلف أحياء المدنية وركام البنايات التي تعرضت للقصف ينتشر في الكثير من مناطق القضاء، الذي كان أحد ساحات الصراع المذهبي في العراق بعد 2003 والذي راح ضحيته آلاف المدنيين.
تبدو أحياء كاملة فارغة في المدينة التي عدتها الحكومة المحلية منكوبة، فأكثر من نصف السكان ما زالوا نازحين أو لاجئين، بحسب أرقام يوردها مسؤولون حكوميون وحزبيون ومنظمات.
وتعدّ تلعفر، أكبر قضاء في العراق، وتتبعه ثلاث نواحٍ هي: ربيعة ذات الغالبية العربية، وزمار ذات الغالبية الكردية، والعياضية ذات الغالبية التركمانية، بينما يشكل التركمان غالبية سكان مركز القضاء القريب من الحدود السورية، وشكّل الكثير من أبنائه المنخرطين مع المسلحين الصف الأول في تنظيمي “القاعدة” و”داعش”.
يقول صالح، وهو أحد أقارب رشيد ورفيقه في رحلة اللجوء، بينما كان يمسك يد ابنه ذي الأعوام الخمسة والذي كان رضيعاً حين اقتحم تنظيم “الدولة الإسلامية” المدينة، ونفذ عمليات قتل واعتقال وخطف، استهدفت خصوصاً التركمان الشيعة: “لم يكن ممكناً أن نغادر، حدث الانهيار الأمني سريعاً، تشكيلات أمنية كاملة تبخرت خلال ساعات، وفرّ الضباط والجنود إلى بيوتهم”.
ويضيف مستذكراً أيام الهجوم الأولى: “الناس كانوا مصدومين ومشوشي التفكير، لا يعرفون ما يجب فعله، ولا يعرفون طبيعة القوة المهاجمة ولا سياساتها”.
“بالنسبة إلى عائلة تضم 9 أفراد، كانت المغادرة وسط ظروف القتال مجازفة قد تنتهي بالموت، كثيرون قتلوا خلال محاولات الخروج… في الأيام اللاحقة، التنظيم كان يتوعد بقتل كل من يحاول الخروج. لم يكن يرحم أحداً”، يقول صالح، وهو يرفع يده اليمنى إلى عنقه ويحركها سريعاً بشكل افقي، في إشارة إلى “الذبح” الذي عرف به التنظيم.
الاتهام على الهوية
قريب آخر للعائلة يقيم في تركيا ويواصل عمله القديم في تجارة المواد الغذائية، يؤيده في الرأي: “نعم التركمان السنة بقوا في المدينة، لكن لم يكونوا جميعاً موالين للتنظيم، ولم يكونوا مخيرين للعيش في ظل حكمه. قتل كثر منهم على يد التنظيم. في الحقيقة قتل منهم أكثر من الشيعة التركمان”.
ويبدي (س.م) مخاوفه من العودة: “مثل آلاف آخرين خسرنا ممتلكاتنا، وذقنا مرارة العيش في المخيمات ولاحقاً في تركيا ولا نعرف مصيرنا هنا، لكننا قلقون من العودة. ما حدث خلق الكثير من الانقسامات والشكوك والآلام”.
ويتابع: “لا أحد لم يفقد عزيزاً أو يخسر شيئاً غالياً في تلك الحرب… داري أضحت ركاماً ومتجري لم يعد له وجود، ولم يتسنَّ لي حتى ترويج معاملة التعويض، لعدم إمكان العودة”.
ويقيم عشرات الآلاف من سكان نينوى والمحافظات العراقية ذات الغالبية السنية في تركيا، وانخرط كثر منهم في سوق العمل، واشترى المتمكنون منهم عقارات لضمان إقامتهم الدائمة.
وبحسب إحصاءات رسمية تركية، بلغ عدد الشّقق السكنيّة المُباعة للأجانب في تركيا عام 2018، أكثر من 39 ألفاً و663 شقّة، وتصدر العراقيون قائمة المشترين بـ8 آلاف و205 منازل وشقق، تلاهم الإيرانيّون بـ3 آلاف و652 شقة. وبلغ إجمالي مبيعات العقارات للعراقيين في السنوات الأربع الأخيرة أكثر من 20 ألف عقار.
الخدمات الغائبة
وإذا كان عشرات آلاف السنة خائفين من العودة إلى تلعفر بسبب احتمالات الملاحقة أو التهديد أو الابتزاز، أو نتيجة خسارتهم ممتلكاتهم في مدينة قدمت لـ”داعش” قادة وأمراء بارزين، فإن للشيعة أسبابهم أيضاً في عدم العودة إلى المدينة التي نزحوا منها في حزيران/ يونيو 2014، هرباً من “عروض القتل الجماعي”، التي كان التنظيم يتفنن في تقديمها علناً. وانطلقوا بلا أي مؤونة في رحلة طويلة وشاقة وذات مسار متعثر، امتدت لأيام بدءاً من سنجار ومروراً بإقليم كردستان ومناطق في كركوك وديالى، ثم بغداد وانتهاءً بالنجف وكربلاء جنوب البلاد.
حسين مصطفى (30 سنة)، لا يزال نازحاً في مخيم الكرفانات على أطراف النجف جنوب العراق، وهي مدينة مقدسة لدى الشيعة احتضنت بعد حزيران 2014 عشرات آلاف النازحين الشيعة الهاربين من نينوى.
مصطفى، وهو موظف حكومي منتسب إلى إحدى دوائر النجف منذ النزوح، وربّ أسرة مكونة من 7 أفراد، يواصل حياته الجديدة التي بناها في النجف ولا يفكر بالعودة إلى مسقط رأسه. “ما زلتُ غير مطمئن للواقع الأمني فنحن نسمع عن إعادة داعش تنظيم صفوفه، وقبل أسابيع شن هجمات في سنجار وفي محيط تلعفر أوقعت ضحايا. لا يمكن القول إن المدينة مؤمنة، على رغم كل ما يقوم به الحشد والجيش”.
ويضيف: “كما نخشى من ضعف القانون، وحصول احتكاك بين الفصائل الأمنية ما سيولد فوضى. ثم من يقول إن الإرهاب لن يعود بوجه آخر”.
وتظهر الأرقام الرسمية أن أكثر من نصف سكان المدينة لم يعودوا إليها إلى الآن. وفيما يؤكد مسؤولون أن نسبة العائدين من الطائفتين متساوية، تؤكد معلومات ومؤشرات لمنظمات مدنية تعمل هناك، أن نسبة السنة العائدين أقل وأن حوالى 40 في المئة منهم عادوا فقط مقابل عودة نحو 60 في المئة من الشيعة.
ويشير مصطفى إلى أسباب أخرى لعدم عودة كل السكان الشيعة رغم أن الملف الأمني وحتى الإداري أضحى بشكل كبير تحت سيطرتهم: “المخلفات الحربية والألغام لم يتم انتشالها كلياً بخاصة في أطراف تلعفر وهي تشكل مصدر تهديد قاتل”.
ويورد محمد قاسم (45 سنة)، الذي لم يتحمل حياة النزوح، وعاد عقب أشهر من تحرير المدينة، جانباً آخر من الأسباب التي تمنع كثيرين من العودة: “الشوارع مدمرة وبعضها لم يعد سالكاً، والخدمات البلدية ضعيفة فمياه الإسالة تصل إلى البيوت بضع ساعات كل أسبوع، وساعات تجهيز الكهرباء الحكومية متذبذبة، وحتى المولدات الأهلية لا تتوفر في كل مكان فهي تتركز في المناطق التي شهدت عودة مكثفة”.
ويصف قاسم الحياة في المدينة بالاستثنائية: “آثار الدمار ما زالت قائمة، ولا حديث عن الإعمار، مع أن المدينة عدّت منكوبة وفق قرار مجلس المحافظة والبرلمان. فرص العمل قليلة والناس يعيدون تأهيل منازلهم برواتبهم وبما يجنونه من مال بسيط، لكن البعض لا يملك ما يصرفه لتأمين متطلبات عائلته فكيف بترميم منزل”.
المؤسسات المدمرة
ولا يقتصر غياب الإعمار على الممتلكات الخاصة من مساكن وعمارات تجارية، فمعظم المباني الحكومية كالقائمقامية والمجلس المحلي ودوائر الماء والجنسية والري والمحكمة والمصرف الحكومي ومراكز الشرطة، لا تزال مدمرة ولجأت إلى مبانٍ بديلة في انتظار إعادة البناء، وحتى تلك التي لم تدمر تفتقر إلى مستلزمات العمل الأساسية.
والأمر ذاته يتكرر في مقرات الأحزاب السياسية وحتى دور العبادة (غالبيتها شيعية)، دمرت خلال المعارك أو بقرارات من التنظيم الذي سعى إلى انهاء أي أثر يشير إلى الهوية الشيعية.
سلام أحمد، وهو شاب ثلاثيني، يقول “تلعفر منكوبة، لا يمكن أن تتحدث عن استعادة الحياة الطبيعية فيها. ما حصل كان أمراً مزلزلاً ولد شرخاً مجتمعياً، وتسببت جولات المعارك بدمار كبير”.
ويستدرك: “كان يمكن أن يكون الوضع أقل سوءاً، لولا عمليات النهب والسرقة التي حصلت في المدينة لمحتويات المقرات الحكومية ومئات المنازل على يد التنظيم في 2014، ثم عمليات السرقة والحرق على يد بعض الجماعات المسلحة عقب تحرير القضاء نهاية آب/ أغسطس 2017”.
وتعرض نحو 3 آلاف منزل، من مجموع نحو 30 ألف وحدة سكنية، إلى دمار كلي أو كبير على يد تنظيم “داعش” وخلال عمليات التحرير وما بعدها، بينما تعرضت منازل أخرى إلى أضرار متفاوتة، إلى جانب عشرات المؤسسات الحكومية التي تمّ تفجيرها أو تعرضت لضربات جوية حين اتخذها التنظيم نقاط تمركز.
كما تعرضت المئات من المنازل وعدد من المراكز الصحية والمدارس والمباني الأهلية والحكومية إلى عمليات حرق وسلب ونهب محتوياتها عقب تحرير تلعفر من قِبل مجموعات “لم تحدد هويتها”. وبحسب نشطاء لم تستهدف تلك العمليات منازل عناصر التنظيم فقط أو التي اتخذت مراكز لتحركاته، بل شملت حتى منازل مقاتلين في صفوف الأجهزة الأمنية.
وهناك خطر آخر يهدد العائدين ويحصد ضحايا كالشقيقين حسن وحسين، اللذين كانا منشغلين في تأهيل منزلهما استعداداً لإعادة عائلتهما المقيمة في النجف، حين انفجرت عبوة ناسفة مزروعة في زاوية في باحة المنزل، ومثلهما قضت امرأة ثلاثينية مع طفليها في قرية “كسر محراب” على أطراف المدينة بعد مضي تسعة أشهر على استعادة المدينة.
وأزهقت المخلفات الحربية أرواح نحو 70 مواطناً بينهم أطفال ونساء، فضلاً عن رجال أمن، في فترات مختلفة، بحسب منظمات مدنية.
أرقام رسمية
وتكشف سجلات السلطات الإدارية والأمنية في تلعفر نهاية 2018، عن حصول زخم كبير بأعداد العائدين في بعض الأحياء السكنية كالوحدة والقلعة والجزيرة، وهي أحياء ذات غالبية شيعية، فيما النسبة متفاوتة في أحياء العروبة والمثنى ذات الغالبية السنية، والمعلمين ذات الغالبية الشيعية، بينما أحياء السراي والربيع وسعد وهي أحياء مختلطة مذهبياً، فلا تزال شبه خالية.
وبحسب السلطات تكاد تكون نسبة المكونات العائدة إلى منازلها متقاربة. لكن نشطاء مدنيين يشككون بذلك. ويتوزع العائدون بين السكان الأصليين ونازحين من القرى القريبة، إلى جانب النازحين داخلياً من حي إلى آخر. وتشير السجلات إلى وجود حوالى 30 عائلة نازحة “من السنة” إلى تلعفر من محافظتي الانبار وكركوك ومن مركز الموصل.
أزهقت المخلفات الحربية أرواح نحو 70 مواطناً بينهم أطفال ونساء، فضلاً عن رجال أمن، في فترات مختلفة، بحسب منظمات مدنية.
وتظهر إحصاءات أن “حوالى 45 في المئة من السكان عادوا إلى تلعفر، و15 في المئة منهم لم يتمكنوا من العودة إلى منازلهم الأصلية التي دمرت بفعل العمليات الإرهابية والعسكرية”.
ومع غياب نصف سكان المدينة، فإن مسؤولين إداريين يقولون إن “مستوى الخدمات المقدمة هو أفضل بقليل من الخدمات التي تقدم في حال الطوارئ”. وينبه هؤلاء إلى أن المدينة ستشهد “أزمة كبيرة” في حال عودة النازحين المنتشرين في محافظات وسط البلاد وجنوبها وفي مخيمات حمام العليل والقيارة وحسن شام وخازر في محافظة نينوى، إلى جانب نازحين في مركز الموصل وكركوك وتركيا.
العودة الجزئية
ويستبعد شاكر أحمد، وهو تركماني يعيش في دهوك منذ رحيله عن تلعفر التي عاش فيها نحو عقدين من الزمن، عودة جميع أهالي المدينة حتى مع استتباب الأمن وتحسن الخدمات، “الأمر يتعلق أيضاً ببناء آلاف النازحين لحياة جديدة في مدن أخرى بعيداً من تلعفر، فهؤلاء انخرطوا في بيئات جديدة وتكيفوا معها، وأبناؤهم تعودوا على الحياة فيها ولا يمكن تغيير كل ذلك. هذا حصل مع نازحي سنجار وسهل نينوى أيضاً”.
ويشير إلى أن عودة عائلات كثيرة كانت جزئية، “عاد عدد من أفرادها فيما آخرون بقوا في مناطق النزوح لمراقبة مسار الأوضاع، وهناك من نزح مجدداً بعد عودته”.
ووثقت منظمات مدنية، نزوحاً عكسياً لـ32 عائلة من تلعفر إلى مدن الوسط والجنوب، عام 2018.
ويرجع نائب رئيس مؤسسة إنقاذ التركمان عامر المولى، أسباب “العودة المتلكئة” لأهالي تلعفر إلى “دمار البنى التحتية ونقص الخدمات”، لكنه يشير أيضاً إلى “الهواجس الأمنية”.
وعلى رغم التطمينات والتأكيدات المستمر من القوات الأمنية ومن قيادات الحشد أن المنطقة مستقرة تماماً “بدليل عدم حصول مواجهات حقيقية مع مقاتلي داعش“، إلا أن تقارير أمنية كثيرة تنبه إلى أن التنظيم بدأ يعيد بناء نفسه، وقد يشن قريباً هجمات في تلعفر على غرار ما يقوم به بشكل شبه يومي في مناطق كركوك وديالى.
لكن خالد محمود (52 سنة) والذي عاد إلى تلعفر بعد نحو 4 سنوات من النزوح، يرى أن سوء الخدمات حالة متوقعة: “الخدمات في جميع مناطق العراق متدهورة، فكيف تكون حال مدينة كانت تحت سيطرة التنظيم وتعرضت لمئات الضربات الجوية المؤثرة؟”.
ويستدرك “أي مدينة لا يمكن أن تبث فيها الحياة ما لم يعد إليها أهلها لإعمارها. نعم بدأنا من الصفر بعدما نُهبت بيوتنا ومحالنا. إعادة البناء ستتحقق إذا كانت هناك إرادة للعيش المشترك بمحبة وسلام ونبذ للعنف والتفرقة والطائفية، وإذا كنا تعلمنا من الدروس السابقة”.
محمود لم يجب إذا ما كان متفائلاً “بانتصار إرادة العيش المشترك ونبذ العنف” في تلعفر ومحيطها الذي شهد عمليات قتل وخطف واسعة على أسس دينية ومذهبية ولدت انقسامات مجتمعية حادة بحسب مثقفين ونشطاء.
ويقول المواطن (ك. ج) إن “داعش” حدد في فترة حكمه ومن خلال “أحرف وكلمات” خطت على جدران مئات البيوت وأبوابها أوضاعها، وكتب مقاتلون من تنظيمات أخرى لاحقاً كلمة “محجوز” على الكثير من المنازل الشيعية والسنية وحتى على بعض المساجد السنية، ما ولد استياءً ومخاوف لدى السكان.
ومع التأثير الكبير لضعف الخدمات وتعقيدات المشهد الإداري وما يرتبط بسلطة القانون، في خيار النازحين والعائدين، فإن أي زعزعة في الوضع الأمني قد تدفع إلى عمليات نزوح جديدة من تلعفر كما من سنجار المتاخمة، والتي لا يزال حوالى 70 في المئة من سكانها نازحين من مسلمين وأيزيديين.
الأطواق الأمنية
وفي ظل سلطات متداخلة بين “الحشد الشعبي” والجيش والشرطة والإدارة المحلية (القائمّقام والمجلس المحلي) ونفوذ العشائر تظهر بوضوح تعقيدات المشهدين الإداري والأمني.
أمنياً، تنتشر في مركز المدينة قطعات من الجيش العراقي (اللواء 92 ومعظم منتسبيه من أبناء تلعفر)، والشرطة، وفي محيطها قوات من “الحشد الشعبي” (لواء الحسين، المكون في غالبيته من التركمان مع بعض الأيزيديين والعرب) وفصائل أخرى من الحشد.
وأحيط مركز المدينة بثلاثة أطواق أمنية، الأول من الجيش، والثاني من الشرطة، فيما الثالث من “الحشد الشعبي”. وتقيم السلطات نقاط تفتيش بين عدد من مناطق المدينة.
ولدواعٍ أمنية، تلزم السلطات الإدارية المواطنين بمراجعة مركز الأمن الوطني، واستخبارات الجيش، عند ترويج أي معاملة، بهدف تدقيق أسمائهم والتحقق من سلامة موقفهم. وتتدخل جهات عدة في كل ما يتعلق بالوضع والقرار الأمني، بينما يقتصر دور مراكز الشرطة المحلية على متابعة القضايا الجنائية.
ووسط تلك السلطات المتقاطعة تبرز أيضاً سلطة العشائر، التي يرى البعض أنها “ضرورية لخلق التوازن المذهبي” في ظل سيطرة الشيعة على القرار في تشكيلات الجيش والحشد.
لكن ذلك التوزيع في مراكز القوة والقرار يثير قلق كثيرين، وبينهم علي صالح (40 سنة) عنصر أمني، الذي يطالب بوجود قوة عسكرية بقيادة ومنتسبين من خارج المدينة “ما سيساهم في تعزيز الأمن واحترام القانون، أما اقتصار وجود قوات عناصرها من سكان المدينة نفسها فسيؤدي إلى الفوضى وضياع القانون في ظل العُرف والعلاقات والولاءات العشائرية”.
فيما يعرب المواطن كرار سالم، عن قلقه من “عدم احترام القوات الأمنية والقانون”، قائلاً أن بعض شيوخ العشائر والوجهاء “يتدخلون في صميم عمل الأجهزة الأمنية، بحكم العلاقات التي تربطهم بقيادات تلك الأجهزة”.
اختطافات متكررة
المتطلبات الأمنية وسلسلة من قصص “تقارير الوشاية الملفقة والخطف والابتزاز والضغط” التي يتناقلها بعض السنة، رفعت من مخاوف سعد وهب، وهو أحد النازحين إلى تركيا، ومنعته من العودة، فهو يخشى الاعتقال على خلفية انتماء كثر من أبناء عمومته إلى “داعش”، حتى وإن لم تكن لهم صلة بالتنظيم.
يقول وهب: “قد تعتقل بسبب وشاية شخص متضرر أو منافس، معرفة الحقيقة وإثبات البراءة عند من لا يفهم غير لغة القوة والسلاح صعبان للغاية”.
وبحسب وهب، يعيش كثر من تركمان تلعفر في تركيا ولا يريدون العودة لأسباب متعددة “إما خوفاً لأن بعض أفراد عائلاتهم كانوا مع التنظيم، ويخشى آخرون بسبب الدمار الذي حل بمنازلهم وعدم قدرتهم على إعادة ما كان، إلى جانب غياب فرص العمل، فيما لا يستطيع كثيرون العودة بسبب سيطرة ناس على منازلهم وعدم قدرتهم على إجبارهم على إخلائها”.
وبحسب ناشطين محليين، شهدت تلعفر في نحو عام “9 حالات اختطاف لشبان سُنة، لم يُعرف مصيرهم حتى الآن”. لكن السلطات الأمنية تنفي تسجيل أي شكوى بخصوص ذلك. فيما يتناقل مواطنون قصصاً عن حالات ابتزاز تطاول عائلات سنية.
وكشف النائب التركماني ثابت بشار العباسي، في أيار/ مايو 2019، عن تسجيل 12 حالة خطف لمواطنين “عزل” في تلعفر، نُفذت من قبل “جهات غير معروفة”، منبهاً إلى أن الوضع الأمني في القضاء يحتاج إلى “مراجعة جدية”.
ولم تجد عائلات الضحايا أمامها غير البحث المستمر بوساطة جهات سنية كالجبهة التركمانية والوقف السني ووجهاء عشائر، والصبر مع التزام الصمت أملاً بعودة الأحباء.
وأعلنت مديرية الاستخبارات العسكرية، في بيانٍ في 6 حزيران 2019، تحرير مواطن اختطفه مجهولون من قضاء تلعفر، في قضاء بيجي في محافظة صلاح الدين.
المستقبل المجهول
مع عمليات تحرير القضاء في آب 2017، فضلت آلاف العائلات حتى مع سلامة موقفها الأمني، النزوح إلى المخيمات خوفاً من عمليات انتقام، بينما عبر آخرون الحدود باتجاه سوريا أو توجهوا إلى تركيا بخاصة الموالون لـ”داعش”.
وتستقر عائلات المشتبه بانتمائهم إلى تنظيم “داعش” من مواطني تلعفر في مخيمات عدة في محافظة نينوى، بينها الجدعة وحمام العليل والقيارة، وهي تخضع لإجراءات أمنية وإدارية مشددة تصل إلى حد تقييد حرية الخروج، فيما لجأت عائلات أخرى إلى تركيا وسوريا.
جيلان (20 سنة) التي تعيش مع عائلتها في مخيم حمام العليل بعدما أمضت نحو 9 أشهر في أحد مخيمات سوريا، تصف المخيم بـ”سجن كبير مزدحم”، تقول “الوضع مزرٍ من كل النواحي وحريتك مقيدة، كل ما تستطيع فعله هو التواصل عبر أجهزة الموبايل مع معارفك وصديقاتك خارج المخيم، من دون أن يُسمح لك بالمغادرة إلا في حالات نادرة”.
وتنفي جيلان أي علاقة لعائلتها بتنظيم “داعش”: “نحن ذقنا الأمرّين خلال فترة حكمهم، لكن تهماً لا أساس لها بدعمنا للتنظيم أُلصقتْ بنا”.
وتبدي حسرتها وأمنيتها بالرجوع إلى مدينتها، قائلة بصوت خفيض متقطع: “حتى لو سُمح لنا بمغادرة المخيم، فمن الصعب العودة بعد تلك التهم… أرواحنا باتت في خطر… لا نعرف مصيرنا، لكن لا أمل بأن نعود يوماً ونرى مجدداً مدينتنا”.
التغيير الديموغرافي
ومع “الخلل الحاصل في ميزان القوة” بين مكوني تلعفر الأساسيين، لا يخفي بعض السكان مخاوفهم من حصول “تغيير ديموغرافي” تدريجياً، فأعداد العائدين إلى المدينة من الشيعة أكبر، واستولى عشرات “الشيعة” ممن تضررت منازلهم على منازل “السنة” في مناطق حسنكوي والقادسية والربيع، التي لم يعد سكانها بعد، واستقروا فيها، وإن كانت بينها منازل تعود إلى عناصر في تنظيم “داعش”.
يقول (سهيل.ع) الذي يعيش في المدينة، إن أحد أقاربه النازحين طلب منه تفقد منزله بعد أشهر من تحرير المدينة، ففوجئ بعائلة أخرى مستقرة فيه، ذكرت أن صاحب البيت مطلوب لارتباطه بـ”داعش” وأنهم لن يغادروه بعدما تعرض منزلهم إلى قصف جعله ركاماً.
تستقر عائلات المشتبه بانتمائهم إلى تنظيم “داعش” من مواطني تلعفر في مخيمات عدة في محافظة نينوى، بينها الجدعة وحمام العليل والقيارة، وهي تخضع لإجراءات أمنية وإدارية مشددة تصل إلى حد تقييد حرية الخروج
وينبه إلى أن تلك الحالات “إذا تم السكوت عنها فستنعكس سلباً على الواقع الأمني وسترجع الجميع إلى المربع الأول، في ظل الكثير من التهم الكيدية التي يعول عليها بعيداً من القضاء والقانون”.
لكن الناشط المدني فاضل قاسم، يرى أن تلك الإشكالات والتجاوزات تعد طبيعية بعد حرب مدمرة راح ضحيتها الآلاف وفتنة كبيرة أشعلها التنظيم.
ويبدي تفاؤلاً بالمستقبل، قائلاً “لأول مرة نجد وعياً عالياً بأهمية نبذ الخلافات، ونرى رغبة في التعايش وطي صفحة الماضي… وبعد نحو عقدين من الزمن تُنظم اليوم فعاليات مشتركة بين المكونات”.
عوائق الانسجام
بيد أن مراقبين ونشطاء لا يبدون ذلك التفاؤل، مع غياب الحوار المجتمعي وعدم حسم ملفات شائكة كمصير أكثر من 1300 مختطف ومختطفة من الشيعة على يد التنظيم، وسبل معالجة مشكلة عائلات المنتمين إلى التنظيم، وأزمة المنازل المدمرة وتعويض ذوي الضحايا والمتضررين.
يقول عمر خالد، وهو حقوقي وناشط في قضايا حقوق الإنسان: “طوال عامين لم يتحقق شيء على صعيد المصالحة المجتمعية ولا على صعيد إعادة البناء. كل ما حصل هو تعزيز الأمن الذي كان هشاً في تلعفر لنحو 15 عاماً. ذلك سيعني استمرار المظالم وتأخر بناء الثقة بين سكان المدينة، ما قد يفتح الباب أمام ولادة موجات جديدة من العنف”.
ويرى ضرورة التوقيع على ميثاق شرف مجتمعي وتبني “برنامح إعادة بناء على صعيدَي الإنسان والأرض، وعدم السماح للمصالح الخارجية بالتدخل في شؤون المدينة”.
لا صدى لتلك الكلمات ولا لوعود إعادة البناء الحكومية ولا للانفتاح المجتمعي، لدى أحمد رشيد الذي يواصل من تركيا رحلة البحث عن وطن بديل.
يقول رشيد وهو يغلق باب شقته في عنتاب “الحقائق موجعة، لقد خسرنا مدينتنا وبلدنا بل وحياتنا كلها. لم تبق لنا غير الذكريات. لم نكن حين دخل “داعش” مدينتنا مخيرين بالبقاء فيها، ولا نحن اليوم نملك خيار العودة إليها، كلنا نبحث عن وطن بديل”.
أنجز التحقيق بدعم شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية وتحت إشرافها