رحّب الجيش السوداني، قبل يومين، بالاعتذار الرسمي الذي قدمته كولومبيا عن مشاركة بعض مواطنيها كمرتزقة في صفوف “قوات الدعم السريع”، مندداً في الآن ذاته، بالدعم الخارجي الذي تتلقاه الميليشيات التي يقودها حليف الأمس، الفريق أول محمد حمدان دقلو الذي يُلقب بـ “حميدتي”.
في الوقت الذي كان فيه قياديو عبد الفتاح البرهان يرحبون بالقرار الكولومبي، كان البعض منهم يفتح الطريق لمرتزقة من الخارج، لدعم جهود الجيش لفرض سيطرته على المناطق المتنازع عليها، مما زاد من متاعب السودانيين الراغبين في إنهاء الحرب بين الجنرالات المتصارعين.
ينهى جيش البرهان عن جلب المرتزقة، إلا أنه يأتي بمثل الفعل وأتعس منه وفق ما أكدته التقارير الحقوقية والميدانية، وآخرها التقارير التي تحدثت عن تواصل استنجاده ب”الحرس الثوري الإيراني” الذي يضع القارة الأفريقية نصب عينيه.
الحرس الثوري في السودان
مطلع الأسبوع الماضي، اقتحمت ميليشيات “الدعم السريع” منطقة وادي سيدنا العسكرية شمال مدينة أم درمان، ودمّرت عدداً من الطائرات الحربية والمسيّرات والآليات، وفق قولها، وفي هذا الاقتحام استهدفت الميليشيات المتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية “خبراء أجانب تابعين للحرس الثوري الإيراني”.
قالت ميليشيات حميدتي الدموية إن خبراء “الحرس الثوري الإيراني” يعملون مع جيش البرهان في قاعدة وادي سيدنا الجوية. ولا تعتبر هذه المرة الأولى التي يتّهم فيها جيش البرهان، بالاستعانة بالمرتزقة وخاصة الإيرانيين في حربه ضد حميدتي.
وأفادت تقارير غربية مطلع هذه السنة، بقيام طهران بتسليح الجيش السوداني، حيث حصل البرهان على طائرات بدون طيار إيرانية من نوع “مهاجر6” و”أبابيل”، ما مكن الجيش من حسم عدداً من المعارك لصالحه، خاصة معركة أم درمان في آذار/ مارس الماضي.
كما تحدثت تقارير أخرى عن وصول طائرات مدنية من إيران محملة بأسلحة نوعية وخفيفة للجيش، وجاء الدعم الإيراني للبرهان، مباشرة إثر تبادل السفراء بين طهران والخرطوم في أواخر تموز/ يوليو 2024 واستئناف العلاقات بينهما (قُطعت العلاقات بين الطرفين سنة 2016 من جانب السودان لدعم السعودية).
يرجع سبب الاهتمام الإيراني بالبرهان ودعمه، إلى كون السودان عنصراً مهماً في محور السياسة الخارجية الإيراني، وترى طهران أن الخرطوم يمكن أن تساعدها في تنفيذ أجنداتها للتأثير في القارة السمراء وبسط نفوذها هناك.
ويمتلك السودان إطلالة مهمة على البحر الأحمر، وهي تحت أنظار الإيرانيين الذي يسعون جاهدين للسيطرة عليها، حتى يتمكنوا من السيطرة على أحد أبرز الممرات التجارية في العالم، ففي المنطقة المقابلة يوجد حلفاؤهم (جماعة الحوثي باليمن).
نتيجة تواصل توافد المرتزقة ودعمهم طرفي الصراع الوحشي الدائر في السودان؛ الذي اندلع في البلاد منذ نيسان/ أبريل 2023، ارتفعت أعداد القتلى من المدنيين، ودُمّرت قرى ومدن بكاملها، وهُجر ملايين السكان من بيوتهم، وانتشرت مظاهر الفوضى والعنف، مما شكّل واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
لا يهم البرهان ولا حميدتي حجم الكارثة التي نتجت عن هذه الحرب، ما يهمهم فقط تحقيق امتيازات إضافية، وإن كلفهم الأمر حرق الأخضر واليابس في البلاد، وهو ما يخدم القوى الأجنبية المتدخلة في هذا الصراع، ومن بينها إيران التي تكبدت في الفترة الأخيرة خسائر كبرى في مناطق نفوذها التقليدية، وتسعى جاهدة إلى تعويضها في القارة الأفريقية.
القرن الأفريقي
ينوي الإيرانيون بناء قاعدة بحرية في مدينة بورتسودان السودانية، في حال فوز جيش البرهان بالحرب، بالتالي توسيع نفوذهم البحري والسيطرة على منطقة القرن الأفريقي بمداخلها ومخارجها، بخاصة مضيق باب المندب، وهو ما يفسر هذا الدعم الكبير المقدّم للبرهان.
وتقع منطقة القرن الأفريقي في أقصى شرق القارة الأفريقية، وتطل على البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، وتضم أربع دول هي الصومال وجيبوتي وإريتريا، ومن ورائها إثيوبيا التي تعدّ الأكبر من حيث المساحة والتعداد السكاني.
تكتسب هذه المنطقة أهمية كبرى بالنسبة إلى السياسة الخارجية الإيرانية، وهو ما يفسر الاهتمام الكبير بها، حيث عملت طهران على تعزيز تعاونها مع الأنظمة المركزية والجماعات المسلحة النشطة في تلك المنطقة، مستغلة حالة الفوضى المنتشرة هناك.
وعززت طهران في الفترة الأخيرة تعاونها العسكري مع الجماعات المسلحة في الصومال، حيث تصل الأسلحة الإيرانية إلى هذا البلد الأفريقي تباعاً، مما ساهم في تزايد حدّة الصراع فيه ويقوّض الجهود المبذولة لبناء دولة مستقرة يحكمها القانون.
وتقدّم إيران تسهيلات كبرى للحصول على أسلحتها، وأبرز التكنولوجيات العسكرية المتطورة لمن يطلبها في الصومال، مما مكنها من زيادة نفوذها في هذا البلد، الذي ترسو في مياهه الإقليمية بوارجها الحربية لحماية سفنها التجارية.
في هذا الشأن أفادت تقارير بأن إيران أقامت علاقات سرية مع حركة “الشباب” في الصومال، وتقول هذه التقارير إن طهران تستخدم عناصر الحركة لمهاجمة القوات الأميركية وباقي القوات الأجنبية المنتشرة في هذا البلد، الذي يعاني من غياب الدولة المركزية.
فضلاً عن الصومال، وصل السلاح الإيراني إلى أديس أبابا، حيث قامت طهران بتزويد الحكومة الإثيوبية بطائرات مسيّرة خلال حربها ضد جبهة تيغراي، ولعبت هذه المسيّرات دوراً هاماً في ترجيح كفة الحكومة في الحرب، التي سقط فيها آلاف القتلى من المدنيين.
سلمت إيران إثيوبيا طائرات بدون طيار من نوع “مهاجر 6” التي تعمل في مجالي التجسس والضربات الهجومية، مستغلة تراجع الدعم الغربي للحكومة الإثيوبية، نتيجة تورطها في ارتكاب جرائم حرب في إقليم تيغراي.
إلى جانب إثيوبيا والصومال، ركزت طهران اهتمامها على إريتريا، التي سبق أن تم اعتماد بعض جزرها لتدريب عناصر من جماعة الحوثي المسيطرة على مناطق واسعة من اليمن، ومثل هذا البلد الأفريقي نقطة ارتكاز مهمة لنقل السلاح الإيراني إلى جماعة الحوثي.
كما تستخدم السواحل الإريترية لتهريب النفط الإيراني، عبر ناقلات كبيرة في ظل تواصل العقوبات الغربية على طهران نتيجة برنامجها النووي، وعادة ما تنفي سلطات البلدين هذا الأمر، لكن العديد من التقارير تؤكد هذه الأخبار.
لم تخرج رابع دول القرن الأفريقي –ونعني هنا جيبوتي- عن اهتمام الإيرانيين، حيث تستخدم هذه الدولة الأفريقية لإيصال السلاح الإيراني إلى الحوثيين، ومن ثم مهاجمة المصالح الغربية في البحر الأحمر.
إقرأوا أيضاً:
الأنظار منصبّة على القارة بأكملها
لا تهتم طهران بمنطقة القرن الأفريقي فقط، إنما أهدافها منصبّة على كامل القارة السمراء بشمالها وجنوبها، غربها وشرقها، ولا يُعتبر الاهتمام الإيراني بالقارة الأفريقية وليد اللحظة، إنما يرجع إلى ما قبل ثورة سنة 1979، وتعزز أكثر بعد سقوط نظام الشاه.
تراجع هذا الاهتمام في عهد الرئيس حسن روحاني (2013-2021) لكن مع وصول خلفه الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي إلى الحكم، تغيرت المعادلة مجدداً، لأسباب عديدة منها الحصول على أسواق جديدة وكسر العزلة الدولية المفروضة على إيران.
نجحت إيران السنة الماضية في استعادة العلاقات الدبلوماسية مع عدد من الدول الأفريقية، بعدما انتهى السبب المباشر لقطع هذه العلاقات (توتر العلاقات الإيرانية السعودية) وعملت على التقرب أكثر من الأنظمة المناهضة للغرب.
في الأثناء، أظهر النظام الإيراني تماهياً مع قادة الانقلابات التي حصلت في منطقة الساحل (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) بعدما أعلنت رفضها الوجود الغربي فوق أراضيها، وقامت بوقف التعاون العسكري مع الدول الغربية.
ويُعتبر “الحرس الثوري” المنظمة الإيرانية الرئيسية في القارة الأفريقية، ول”فيلق القدس” التابع له علاقات مع الجماعات المسلحة والشبكات الإجرامية في القارة، كما تنشط طهران في القارة السمراء، عبر الجماعات الدينية الشيعية المتغلغلة في العديد من المجتمعات الأفريقية والمؤسسات الاقتصادية والخيرية.
أهداف كثيرة
يستغل النظام الإيراني دول القرن الأفريقي لنقل المساعدات والأسلحة إلى المتمردين الحوثيين في اليمن ودول أخرى كما بيّنا في البداية، كما يستغل تقاربه مع الدول الأفريقية للالتفاف على العقوبات الغربية وتهريب النفط وبيعه في القارة السمراء.
لطهران أهداف اقتصادية كبيرة من هذه التحركات، فهي تعلم حجم الثروات التي تمتلكها القارة الأفريقية، لذلك تسعى إلى أن يكون لها نصيب من هذه المدخرات، خاصة مخزون اليورانيوم في النيجر وأوغندا وزيمبابوي، كما تأمل أن تكون لها حصة في السوق الأفريقية الاستهلاكية الكبيرة.
كما تأمل إيران أن تقوي تجارة المخدرات التي تشرف عليها الفصائل والجماعات المسلحة التابعة لها، ذلك أن منطقة الغرب الأفريقي، تمثّل نقطة هامة في تجارة المخدرات القادمة من دول أميركا اللاتينية والمتجهة نحو أوروبا أو آسيا.
هذا النفوذ المتزايد في أفريقيا، من شأن طهران أن تستخدمه أيضا كورقة ضغط وأداة لمحاصرة خصومها الغربيين والإسرائيليين، وقد عاينا ذلك من خلال الهجمات التي تنفذها جماعات الحوثي ضد المصالح الغربية في البحر الأحمر منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
تسعى إيران أيضاً إلى التخلص من عزلتها عن الغرب وكسر تأثيره وزيادة عدد الأصوات المؤيدة لها في الأمم المتحدة، فالقارة الأفريقية تمثّل قوة تصويتية كبيرة داخل أروقة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها.
تقدّم في اليمن وتراجع في سوريا
بفضل علاقاتها المتنامية مع دول القرن الأفريقي استطاعت إيران إيصال مساعدات وأسلحة نوعية إلى جماعة الحوثي، وقد مكنهم هذا الأمر من تحقيق تقدّم ملحوظ على الأرض، على حساب القوات المسلحة التابعة للنظام الرسمي اليمني وحلفائه العرب.
كما استطاعت إيران “التنفيس” على تابعها في لبنان (حزب الله) في حربه ضد إسرائيل، فالهجمات الحوثية على المدن الإسرائيلية، منحت “حزب الله” مساحة أكبر للمناورة، ومكّنت الحركات المسلحة في غزة من الحصول على داعم خارجي قوي.
ومنذ نهاية السنة الماضية، يستهدف الحوثيون في اليمن، سفن شحن إسرائيلية أو مرتبطة بها في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي بصواريخ ومسيّرات، كما ينفذون هجمات بصواريخ ومسيّرات على المدن الإسرائيلية، بينها عمليات استهدفت تل أبيب.
في مقابل ذلك، أثّرت السياسة الإيرانية تجاه القارة الأفريقية في نشاط طهران داخل سوريا، إذ خفت الاهتمام الإيراني في الفترة الأخيرة بسوريا، مقابل التركيز أكثر على التوسع في أفريقيا بعد أن اطمأنت لسيطرة نظام بشار الأسد على الوضع هناك.
لكن يبدو أن الحسابات الإيرانية هذه المرة قد أخطأت، إذ حصل ما لم يكن في الحسبان، حيث شهد الوضع الميداني في سوريا الأسبوع الأخير، تغيرات كبرى بعد سيطرة القوى المسلحة المعارضة على مدينة حلب؛ ثاني أكبر المدن السورية، وتوجهها نحو حماة للسيطرة عليها مستغلة هرب قوات نظام الأسد من هناك، ثم وصولها إلى العاصمة دمشق وفرار الرئيس بشار الأسد وسقوط النظام.
وتقف إيران حالياً على الربوة لمتابعة تطورات الوضع السياسي في سوريا بعد حسم الوضع الميداني لصالح المعارضة المسلحة، خاصة وأن حليفها الأبرز “حزب الله” اللبناني، قد خرج منهكاً من الحرب مع إسرائيل، وتراجعت قدراته نتيجة هذه الحرب، مما ضاعف خسائرها الاستراتيجية في هذه المنطقة.
بالمحصلة، نرى أن إيران قد سعت إلى تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية عبر عناصر “الحرس الثوري” ومؤسساتها الخيرية وجماعاتها الدينية، إلا أنها أهملت نفوذها في الشرق الأوسط، مما جعلها تتكبد خسائر كبرى ليس من السهل تعويضها.
إقرأوا أيضاً: