أعادت قصة التنازع بين رامي مخلوف وبشار الأسد، أي ابن الخال مع ابن العمة، قصة الصراع الذي تفجّر بين رفعت الأسد (نائب رئيس الجمهورية للشؤون العسكرية وقائد سرايا الدفاع في حينه) وأخيه حافظ الأسد رئيس الجمهورية، في أواسط الثمانينات، والذي نجم عنه خروج رفعت من البلد ضمن تسوية مالية باهظة التكاليف، علماً أن الرجل كان من المداميك الأساسية للنظام الأسدي.
قصة رامي مخلوف مختلفة، فهو من الأركان الأساسية لنظام الأسد (الابن) لكن في المجال الاقتصادي، وهي حيثية مهمة، في تطور النظام الأسدي، من الأب إلى الابن، من جهتين. الأولى، أن نظام الأسد (الأب) كان يتصرّف، كصاحب مشروع سياسي (بغض النظر عن رأينا فيه)، وكصاحب سلطة عسكرية متوحدة، وعلى اعتبار أنه يمتلك البلد كلها، من خلال سيطرته على الموارد وعلى القطاع العام، وعلى العوائد الخارجية. وتبعاً لذلك، فإن الأسد (الأب) لم يكن يهمه، أو لم يكن يعنيه، إنشاء شركات، أو تكوين احتكارات، فهو يحتكر السياسة والفضاء العام والاقتصاد، تماماً مثلما يحتكر الجيش والأجهزة الأمنية، بمعنى أنه كان يترك ذلك الهامش الاقتصادي لتجار البلد، لكسب ولائهم، أو لإسكاتهم. الثانية، أن نظام الأسد في عهد الأسد (الابن) لم يكن يملك مشروعاً سياسياً، إذ أتته السلطة على طبق من ذهب، وبشكل سلس، ثم إن مشروع الأسد الأب كان تمخّض عن سلطة فقط، مع أدوار إقليمية محددة (لبنان فقط). أيضاً، الأسد الابن أتى في ظل تغيرات كبيرة، فثمة زيادة في عدد السكان، وفي تطور حاجات البلد الاقتصادية، كما ثمة تغيرات سياسية واقتصادية دولية، تمثلت بانهيار التجربة الاشتراكية واختفاء الاتحاد السوفياتي (السابق)، وفي التحول نحو الخصخصة، والانفتاح الاقتصادي على العالم، وفقاً لمسارات “العولمة”، وكلها تطورات حصلت في أواخر عهد الأسد الأب (المريض).
كيفما سار الأمر، فإن جوزة النظام الأسدي الصلبة باتت متصدعة، لذا فكل شيء يعتمد، في بقائه أو إزاحته، على ما تقرره عواصم الدول المعنية.
وربما يجدر التذكير هنا بأن سوريا لم تذهب نحو التحول إلى الخصخصة، وبيع القطاع العام، كما في مصر وغيرها، مثلاً، وإنما هي عملت على تنشيط القطاع الخاص وتوسيعه مع الحفاظ على القطاع العام، الذي بات متقادماً وخاسراً، كمرتع للفساد، ولامتصاص العمالة، كبطالة مقنعة، وللإبقاء على قاعدة اجتماعية مرتبطة في مورد عيشها بالنظام القائم.
هكذا، أي في هذا الإطار جاء دور رامي مخلوف، وصعوده، بالتلازم مع مجيء بشار الأسد كرئيس، باعتباره بمثابة الواجهة الاقتصادية للنظام لا أكثر، بيد أنه بحكم القرابة فقد كان واجهة بمرتبة شريك لكونه جزءاً أساسياً من السلطة/ العائلة، لكن ذلك يفيد، أيضاً، بأن سلطة مخلوف الاقتصادية، مع شركاته وثروته المالية الهائلة، إنما تأتت له من انتمائه للسلطة السياسية، إذ إن تلك السلطة هي التي مكنته من الاحتكار، وهي التي أمنت له الموارد والتراخيص، والنسب المئوية في معظم الشركات السورية.
بدهي في التنازع بين رامي ومخلوف أن صاحب السلطة (العسكرية والسياسية) سيغلب صاحب السلطة الاقتصادية، ويمكن أن يصادر كل أملاكه بمجرد قرار، وهو ما حصل مراراً، عبر التاريخ، وفي معظم التجارب، وهذا ينطبق على حالة الأسد مع مخلوف. بيد أن ما نتحدث عنه يفترض مشكلات أخرى قد تنجم عن ذلك، بسبب عوامل متعددة، أهمها، أولاً، أن سلطة الأسد لم تعد كما كانت، وأن الوضع السوري في غاية الاضطراب. ثانياً، يحاول مخلوف استنفار البيئة الشعبية ذاتها التي يستند إليها الأسد، وهذه سابقة تعد الأولى من نوعها، لا سيما أن مخلوف ينتمي إلى عائلة لديها امتداداتها، إضافة إلى استثماره فيها من خلال إنشاء جمعيات “خيرية”، تقوم بتقديم إعانات لألوف العائلات المحتاجة. ثالثاً، يأتي ذلك التنازع في ظل شكوك كبيرة تدور حول الجدوى من الإبقاء على بشار الأسد، بعد 20 عاماً من وجوده كرئيس. رابعاً، لم تعد سوريا كما كانت سابقاً، فثمة جيوش لأربعة دول على الأقل تتحكم، أو تنشر قواها، في الجغرافيا السورية هي الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا، من دون أن ننسى إسرائيل التي لديها الكلمة الأولى في تقرير الأمر في الجنوب.
الفكرة أن التصدّع، هذه المرّة، أصاب جوزة النظام الصلبة، في ظروف صعبة وخطيرة، على خلاف، أو أكثر، من المرتين السابقتين. وللتذكير، فإن الأولى تمت في ظل التنازع بين الأخوين الأسد (رفعت وحافظ)، مطلع الثمانينات، أما المرة الثانية، فهي تلك التي نجم عنها اغتيال اللواء آصف شوكت، صهر العائلة، وزوج الأخت الكبرى بشرى، في حادثة تفجير ما سمي “خلية الأزمة” (2013) وذهب ضحيتها عدد من المسؤولين الكبار في النظام، وقيل وقتها إن الصهر يحاول أن يلعب دوراً قد ينهي الرئيس، في سياق إخراج سوريا من ذلك الصراع.
الآن، إذا كان تم تجاوز التنازع في المرة الأولى (وبطله رفعت)، وفي المرة الثانية (حين سقط آصف)، ففي المرة الأولى لعبت العوامل الداخلية والخارجية لمصلحة الأسد الأب، في حين أتت المرة الثانية في بداية الصراع السوري، فتم تجاوزها لمصلحة تكريس الجهود لوأد ثورة السوريين، لمصلحة الأسد الابن، فإنه يأتي في هذه المرة الثالثة (وبطلها رامي مخلوف) في ظروف اضمحلال، أو تآكل، النظام الأسدي برمته، وفي ظروف تحلل عوامل قوته وإسناده، الداخلية والخارجية، وفي ظروف يطرح فيها الفاعلون الدوليون المزيد من الأسئلة حول الجدوى من بقائه.
في كل الأحوال، وكيفما سار الأمر، فإن جوزة النظام الأسدي الصلبة باتت متصدعة، لذا فكل شيء يعتمد، في بقائه أو إزاحته، على ما تقرره عواصم الدول المعنية.