مع التطوّر الإعلامي والرقمي المتسارع، وانحسار الإعلام التقليدي ومؤسساته، باتت المواقع الإلكترونية والمنصّات البديلة هي الحاضر الأقوى على الساحة، ما يستدعي وضع أطر تشريعية واضحة لتنظيم هذا القطاع، بخاصة لناحية التراخيص الواجب استحصالها لمزاولة العمل الإعلامي. يطالب خبراء ومتابعون للشأن الإعلامي بضرورة تركيز القانون الجديد على تأمين الظروف والفرص التي تساعد على الإبداع الإعلامي والابتكار والفكر الخلّاق عبر تأمين بيئة قانونية داعمة لذلك.
اليوم، يسجّل المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، المواقع الإلكترونية في سجل يمسكه من دون نص قانوني واضح، ويجتمع مع لجان المواقع الإلكترونية ويوزِّع البطاقات الصحافية عليها، الأمر الذي أدى إلى اعتراض نقابة المحررين، لأن ما يقوم به المجلس هو خارج عن صلاحياته.
إذ يتمحور أحد أبرز الإشكاليات المطروحة في قانون الإعلام المرتبطة بتنظيم الإعلام الإلكتروني، حول حسم مسألة ما إذا كان سيُخضع لنظام شبيه لإجازة المطبوعات الصحافية، أو سيعتمد تطبيق مبدأ العلم والخبر.
في هذا السياق، يشرح النائب فراس حمدان (أحد أعضاء اللجنة المصغّرة) لـ”درج”، أن عمل اللجنة في ما يتعلّق بشقّ الإعلام الإلكتروني، يقوم بشكل أساسي على تحسين صيغة القانون ليشمل المواقع الإلكترونية والصحافيين المستقلّين لتؤمَّن لهم الحماية القانونية التي تشمل عدم تجريم الرأي.
يؤكد حمدان أن “مشروع القانون فيه ثغرات وبنود سجّلنا اعتراضنا عليها، ونعمل على نقدها وتعديلها بما يتلاقى مع مبدأ حرية الإعلام”. ويُضيف أن أحد هذه الاعتراضات يتعلّق بالتراخيص والرسوم، إذ تتمسّك “قوى التغيير” برفض فرض رسوم على المواقع الإلكترونية، ورفض مبدأ استحصالها على تراخيص، بناءً على مبدأ حرية الإعلام وتعزيز الابتكار لدى الشباب.
معاناة تسجيل المنصات الإلكترونيّة
عانى عدد من المواقع والمنصات الإعلامية الحديثة من هذا الواقع، الذي يخلط بين كل ما هو تقليدي ورقمي لناحية التراخيص، ومنها ما حدث عند إطلاق منصة “نقد بوليكتس” (منصة إعلامية مستقلة تأسست في 2020). إذ يروي الشريك المؤسس في المنصة كارل حداد لـ”درج”، رحلة التسجيل قائلاً، عندما بادرنا لتسجيل المنصة رسمياً، كانت الإدارات الرسمية في إضرابٍ عام، عندها قررنا تسجيلها كشركة إعلانات، لا سيما أن الفريق كان يملك مهارة صنع الإعلانات وبإمكانه تمويل ذاته عبرها، إلا أن مؤسسي “نقد” لم يتمكنوا من تسجيل المنصة كمؤسسة إعلامية أو تقديم “علم وخبر”.
يضيف حداد، “حاولنا أن نسأل المنصات المستقلة عن آلية تسجيلها، وكانت الإجابة أن تسجيل المنصة لمؤسسة مدنيّة هو الحلّ، إلا أننا عجزنا عن ذلك نتيجة إضراب المؤسسات الإدارية وإضراب القضاة… وحتى اليوم، لم نسجّل “نقد” كشركة مدنية”. ونتيجة لذلك، يعجز مؤسسو “نقد” عن التقديم على غالبية المنح لعدم حصولهم على أوراق تثبت أن منصتهم “شركة مدنية” أو مؤسسة إعلامية، وهو ما يعيق عملهم، وفق حداد.
ليست “نقد” المنصة الوحيدة في هذا المدماك، فمنصات إلكترونية كثيرة ليست مسجّلة ضمن المؤسسات الإعلامية. وفي هذا الإطار، ترى عميدة كلية العلوم الإنسانية في جامعة سيدة اللويزة ماريا أبو زيد، أن أبرز المشاكل التي يعاني منها الإعلام الالكتروني في لبنان هو غياب القانون الذي يرعى هذا النوع من الإعلام، وهو ما يؤدي إلى عقبات أساسية أثناء مرحلة تسجيل المنصات الإعلامية، ولذلك تسجَّل غالبية المنصات حالياً كهيئات لا تبتغي الربح، عوضاً عن شركات تبتغي الربح، وفق قانون 1909 للجمعيات، وبالتالي تحصل المنصة على “علم وخبر” بدلاً من الحصول على رخصة إنشاء شركة.
تُضيف أبو زيد، “يؤدي غياب القانون إلى تعددية في المرجعيات القانونية لعدد من القوانين، فمثلاً كل ما يختصّ بالمحتوى يعود إلى أحكام قانون المطبوعات لعام 1962. أما نشاط المنصات الإعلامية الرقمية التي تبيع إعلانات مثلًا، يتم تنظيمها وفق قانون التجارة”.
من ناحية أخرى، يلفت المستشار القانوني في مؤسسة “مهارات” طوني مخايل، إلى أن الإعلام الإلكتروني يُعاني من مشكلات إضافية، كالتحديات التي تتعلّق بانتهاك حقوق النشر والتعدّي على الملكية الفكرية، إذ يمكن للمحتوى المنشور على الإنترنت أن يتعرّض للنسخ غير القانوني أو الاستخدام غير المصرّح به. ويشير الى “نشر الأخبار الإلكترونية من دون التدقيق فيها، الأمر الذي يزيد من مخاطر نشر المعلومات الكاذبة”، مضيفاً: “كما أن الإعلام الالكتروني قد يتضمن محتوى يحرّض على العنف أو ينشر رسائل كراهية تستهدف فئات معينة من الأفراد”.
يوضح مخايل أنه ووفقاً للواقع القانوني الراهن، يُعتبر “نشر المواقع الإلكترونية الإخبارية حرّاً من الناحية التنظيمية المتعلقة بتقديم المحتوى الإخباري (أي لا يحتاج إلى إذن أو ترخيص من جهة معينة)، وإنما هنالك بعض الموجبات المتعلقة بالنشر المهني الإلكتروني الموجّه للعموم. وقد نصّت المادة 74 من قانون المعاملات الإلكترونية معطوفة على المادة 31، على هذه الموجبات، كما تنصّ على أن تنشر وسيلة الإعلام الإلكترونية على موقعها معلومات تشمل اسمها وعنوانها التجاري واسم ممثلها القانوني ومركزها إذا كان شخصاً معنوياً، إضافةً إلى العنوان المفصّل لمحلّ الإقامة وعنوان بريده الإلكتروني، ورقم ومكان تسجيله في السجل التجاري ولدى الدائرة الضريبية المختصة”.
إشكالية التراخيص للمنصات الإلكترونيّة
يُوضح مخايل أن الحلول المطروحة في اقتراحي “مهارات” و”اليونيسكو” لقانون الإعلام، هي أن تخضع المواقع الإلكترونية الإخبارية لنظام “العلم والخبر”، على أن يتضمّن التصريح معلومات أساسية عن المالكين، والمدير المسؤول والاسم والعنوان، إضافةً إلى مصادر التمويل في سجل متاح للعموم.
أما عن المسار القانوني لتسجيل منصة إلكترونية، فيُشير مخايل أولاً الى أنه “من واجب المواقع الإلكترونية الالتزام بمبادئ الشفافية في الملكية ومصادر التمويل وتقديم علم وخبر للهيئة المختصة، وهي الهيئة الوطنية للإعلام، ما يعزّز بالتالي مصداقية المواقع وجدّيتها في ممارسة مهنة الصحافة.
ثانياً، “التزام المواقع الإخبارية الإلكترونية بالقوانين المالية لناحية التسجيل في السجل التجاري والتصريح الضريبي للمؤسسة والعاملين فيها، إضافة إلى حفظ حقوق العاملين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”.
ثالثاً، “الالتزام بالمعايير الأخلاقية والقوانين المتعلّقة بالتشهير والإساءة وبعدم نشر المحتوى الذي يحرّض على الكراهية والعنف، وذلك من خلال التزام شخصي، فضلاً عن التعاون بين تلك المواقع لوضع مدوّنة سلوك يُعمل على التقيد بأحكامها”. وأخيراً، يُضيف مخايل، أن على القانون ضمان توفير آليات لتصحيح الأخبار المنشورة إلكترونياً وحفظ حقّ الرد.
نماذج أوروبية لوسائل الإعلام الناشئ
وفق دراسة أعدّها الصحافي والخبير الإعلامي الهنغاري أتيلا مونغ (تشمل الاتحاد الأوروبي والدول الغربية البلقانية)، “فإن القوانين لا تفرض قيوداً كبيرة على إنشاء مؤسسات الإعلام أو الحصول على تراخيص للعمليات الإعلامية”.
ويشرح مونغ عن وجود تباينات في النهج المتّبع لتراخيص وإجراءات التسجيل لخدمات الوسائط السمعية البصرية بين البلدان المختلفة، إذ قد تفرض بعض البلدان قيوداً على الملكية الأجنبية في وسائل الإعلام، إلا أن الاتجاه العام يميل نحو موقف غير مقيّد في ما يتعلق بدخول السوق.
وبحسب مونغ، “من المهم ملاحظة أنه يمكن استخلاص بعض التوصيات من هذا التحليل، لا سيما للمناطق التي تواجه تحديات مماثلة مثل لبنان. وإحدى التوصيات الرئيسية تتضمن إزالة الحواجز الحالية أمام دخول السوق، وسينطوي ذلك على تعزيز تشكيل شركات إعلام جديدة وتفكيك أي عوائق موجودة حالياً. ويرى مونغ أن التسهيلات لن تشمل تبسيط الإجراءات البيروقراطية للتراخيص فقط، إنما ستشمل ضمان سهولة الوصول إليها من حيث التكلفة والكفاءة”.
يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج زمالة مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان”، الذي تنفّذه مؤسسة “مهارات” بدعم من الاتحاد الأوروبي. هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي.
إقرأوا أيضاً: