“ما أنا إلا عامل… مجرد عامل”، جملة من رسالة القيادي العمّالي شادي محمد إلى زوجته، كتبها من محبسه في سجن العاشر من رمضان، ليعبّر عن خوفه من النسيان في سجنه المستمر منذ نهاية نيسان/ أبريل ٢٠٢٤، بعدما اعتُقل مع ستة مواطنين بسبب دعمهم غزة، وقد عُرفوا إعلامياً باسم معتقلي “البانر”، واعتُقلوا بسبب تعليق لافتة على أحد كباري (جسور) مدينة الإسكندرية، تحمل عبارة “افتحوا معبر رفح”، لمناشدة السلطات المصرية بفتح معبر رفح، أثناء حرب التجويع التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ووجّهت لهم السلطات المصرية تهمة تأسيس جماعة إرهابية في القضية رقم 1644 لسنة 2024.
لم يؤثّر قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة، الذي بدأ تنفيذه في ١٩ كانون الثاني/ يناير الماضي، في إمكانية إطلاق سراح المعتقلين، على خلفية دعم غزة أثناء حرب الإبادة منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣، والذي يزيد عددهم عن ١٠٠ مواطن، بينهم طفلان يبلغان من العمر ١٧ عاماً، كتبا عبارات لدعم غزة على كوبري دار السلام، ومنهم كذلك مريض بسرطان الدم يحتاج إلى المتابعة الصحية، وذلك تبعاً للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية. وقد وجّه أهالي المعتقلين مراراً استغاثات ونداءات للسلطات للإفراج عن أبنائهم، لأن دعم غزة وتعليق لافتة لا يستحقّ السجن لمدة تزيد عن عشرة شهور، وأعلن البعض أن أبناءهم قد انضمّوا إلى التظاهرات الداعمة لغزة، بناءً على توجيهات الدولة.
تكبّدت سلوى رشيد عناء السفر لزيارة زوجها شادي محمد، في سجن العاشر من رمضان في محافظة الشرقية، بمسافة تبعد عن الإسكندرية ٥ ساعات، تخرج في الليل لزيارة زوجها ظهر اليوم التالي، لكن سجن العاشر من رمضان، كان أكثر آدمية من سجن برج العرب، القريب من الإسكندرية، الذي نُقل إليه شادي فيما بعد من دون إبداء أسباب، قبل أن يبدأ إضراباً عن الطعام احتجاجاً على التغريب والتجريد من متعلّقاته، بعدها غاب عن جلسة تجديد الحبس، لتبدأ زوجته الدخول في دوامة من القلق على وضع زوجها الصحي وعلى سلامته الجسدية.
وشادي محمد، هو أحد مؤسسي “اللجنة الشعبية للتضامن مع الشعب الفلسطيني” في الإسكندرية، ومن مؤسسي “المؤتمر الدائم لعمّال الإسكندرية”، وسبق اعتقاله في تشرين الأول/ أكتوبر في عام 2022، على خلفية نشاطه النقابي في شركة “لينين جروب” للمفروشات والمنسوجات، بعد فصله عن العمل، بسبب مشاركته في إضراب لعمّال الشركة.
تقول سلوى زوجته ل”درج”: “إن شادي كان لديه هاجس بأنه سيُنسى في السجن، لكن بعد إضرابه عن الطعام، وغيابه عن جلسة التجديد، ارتفع أصوات المتضامنين معه، وهو ما عرفه لاحقاً منها، وقد رفع التضامن من روحه المعنوية للغاية”، وتضيف: “انهاردا كان معاد الزيارة الأساسية وزرته بمستشفى سجن برج العرب”، وتتابع أنه “قد ظهرت عليه آثار الإضراب بشكل كبير، في نقصان وزنه، لكنه بدأ بالتعافي”، وكان شادي قد دخل في إضراب عن الطعام يوم ٢٩ كانون الثاني/ يناير الماضي، وقد زارته سلوى في مستشفى السجن بعدما أنهى إضرابه، ارتاحت سلوى قليلاً واطمأنت لتحسّن حالة زوجها الصحية، وحصوله على الجرائد اليومية، وإتاحة التريّض، ووجود سرير للنوم على خلاف السجن، لكن تحسّن ظروف السجن بالطبع ليس بديلاً عن الحرية.
علم شادي أنه لم يُنس، وأن هناك ٣٠٠ شخصية عامة وأجنبية، قد وقّعوا على عريضة للمطالبة بتوفير الرعاية الطبية له، وتختم سلوى كلامها بأن المهم الآن هو الإفراج عن كل المعتقلين، وأنه “كويس إننا قادرين نتضامن، ولو كملنا ومنخيناش (لم نتراخَ) في يوم من الأيام هيبقى لينا تأثير”.
“بناشد أي حد عنده رحمة في البلد دي يرحمنا، ويرحم أمي لأنها تعبت بجد”.
ماذا حدث في ٢٠ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣؟
نشرت الهيئة الوطنية للإعلام يوم الجمعة ٢٠ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣، خبراً عن خروج مظاهرات في القاهرة والمحافظات، تلبية لنداء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي برفض تهجير الفلسطينيين، ودعت الحركة المدنية إلى مظاهرة أمام جامع مصطفى محمود. وعلى الرغم من دعوة الرئيس نفسه إلى مظاهرات رفض تهجير الفلسطينيين، لكن اقتراب المتظاهرين من ميدان التحرير، بعد خروجهم من جامع الأزهر عقب صلاة الجمعة، نكأ جراحاً قديمة، خاصةً عندما خرجت أصوات قليلة تُعلن أن “المظاهرة بجد وأنهم لا يفوّضون أحداً”، وانتهى اليوم باعتقال عدد من المتظاهرين، منهم من كان موجوداً بالمصادفة في محيط ميدان التحرير، وأعلن المحامي خالد علي القبض على ٤٣ متظاهراً على الأقل، من ميدان التحرير والشوارع المجاورة له، تلاه القبض على بعض المتظاهرين من بيوتهم. ووُجهت إلى المتظاهرين في قضية رقم ٢٤٦٨ لسنة ٢٠٢٣ حصر نيابة أمن الدولة عليا تهماً، منها الانضمام إلى جماعة إرهابية، وارتكاب عمل إرهابي باستخدام القوة والعنف والترويع، بغرض الإخلال بالنظام العام، وتعريض سلامة المجتمع للخطر، واستعمال القوة والعنف، وتخريب أملاك عامة والاشتراك في تجمهر.
سارة محمد شقيقة علي محمد (٢٤ سنة) أحد المعتقلين على خلفية التظاهر لغزة تقول: “علي حالته النفسية سيّئة لأن الموضوع طوّل، داخلين على سنتين”، وتضيف: “هو يقول إنه لم يكن هناك داعٍ للحبس من الأساس، فهذه المظاهرات دعت إليها الدولة، والدولة نفسها تساند فلسطين”، تستقلّ سارة وأمها التي تعاني من أمراض مزمنة، سيارة أجرة مكلفة للغاية إلى سجن بدر ٢، الذي يبعد عن منزلهما مسافة ساعتين، لزيارة علي. خسر علي سنة دراسية بسبب عدم سماح السلطات له بتقديم الامتحانات في العام الماضي، أما والدته فتعيش بمفردها بعد سجن ابنها، وتنتظر خروجه، وتختم سارة كلامها بقولها: “بناشد أي حد عنده رحمة في البلد دي يرحمنا، ويرحم أمي لأنها تعبت بجد”.
ممنوع التظاهرات بأمر الحاكم
يبدو سؤال لماذا يستمر اعتقال مواطنين مصريين لدعم غزة عبثياً، خاصةً بعد دعوة السيسي بنفسه المواطنين إلى الخروج، لكن ذلك يأتي في سياق عام يحظر التظاهرات منذ تولّي السيسي الحكم. فقد أصدرت رئاسة الجمهورية قانون ١٠٧ لسنة ٢٠١٣، المعروف بقانون التظاهر الذي يحظر الاجتماعات في الأماكن العامة والتظاهرات، ويقرّ السجن المشدد للمتظاهرين مع الغرامة المالية، ويُتيح استخدام الأمن للقوة في حال عدم استجابة المتظاهرين لفضّ التظاهر، أو إلقاء القنابل المسيلة للدموع، واستخدام الهراوات.
ذهب القانون إلى أبعد من ذلك أيضاً، حيث أجاز استخدام طلقات الخرطوش المطاطي وغير المطاطي، وعلى أثر هذا القانون بدأ اعتقال عشرات المواطنين، تلاهم الآلاف، فهجر المتظاهرون الشوارع، وسكنت الميادين لفترة طويلة، تلك الميادين التي ضجّت ذات يوم بهتاف الملايين، حتى درج نقابة الصحافيين الشهير بات التظاهر عنده حلماً بعيداً عن المتظاهرين، لكن رغم قمع التظاهرات والتجمّعات، تغضب الجموع بين الحين والآخر وتعود إلى الشوارع، آخرها التظاهرات التي خرجت بعد حرب الإبادة الصهيونية، والتي تمركزت أمام نقابة الصحافيين، واشترك فيها رموز الحركة المدنية الديموقراطية مثل حمدين صباحي، وجميلة إسماعيل، وخالد البلشي نقيب الصحافيين، وأحمد طنطاوي المرشح الرئاسي السابق الذي يقبع الآن في السجن بعد تأييد حكم حبسه لعام.
اعتُقل على إثر تظاهرات دعم غزة أيضاً، بعض المتظاهرين الذين هتفوا لغزة، وهتفوا ضد سمسرة العرجاني، واعتُقل طالبان بسبب إنشاء كيان طلابي تضامني مع فلسطين، أُطلق سراحهما لاحقاً، وفرّق الأمن مظاهرة سلمية نسائية خرجت تضامناً مع نساء غزة، واعتُقلت بعدها ١٨ فتاة من أمام مكتب هيئة الأمم المتحدة للمرأة في القاهرة، وأُخلي سبيلهن لاحقاً بكفالة مالية.
مع اختفاء التظاهرات في مصر في الوقت الحالي، وخفوت أصوات المتظاهرين، وتأكيد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أن تهجير الشعب الفلسطيني ظلم لا يمكن أن نشارك فيه، لا تزال أمهات معتقلي دعم فلسطين وزوجاتهم، ينتظرن أبناءهن وأزواجهن على مائدة الإفطار في رمضان، تلك التي غابوا عنها للسنة الثانية. وتصرّ الدولة على معاملتهم كعبرة، يعاقبون للمساحة الضئيلة التي انتُزعت للتظاهر، ويذكّرون الجميع بأن النزول إلى الشوارع أمر محاط بالمخاطر، حتى ولو دعا إليه الرئيس بنفسه، فالسجن دائماً مصير مطروح.