بابتسامة امتنان، قالت النائبة الترامبية في الكونغرس، مارجوري تايلور غرين، إن العلم الأميركي الذي كان مرفوعاً خلف دونالد ترامب لحظة محاولة الاغتيال، التفّ حول نفسه صانعاً شكل ملاك.
الملكوت إذاً، وبينما يمناه كانت تقف سدّاً إلهياً بين الرصاصة وبين جمجمة مبعوثه الخاص إلى أميركا، كانت يسراه تلهو بخفة بالراية العملاقة لتحوّلها ملاكاً معلقاً في الهواء كإشارة من السماء إلى الملياردير وأتباعه تقول إنها معكم، كتلك الإشارات التي تركها الرب لشعبه في طول العهد القديم وعرضه.
غرين نموذج فاقع لأتباع حركة تؤمن عميقاً بأن الله ترك كل ما بين يديه من مشاغل عصر سبت عادي، وتوجه إلى بلدة نائية في بنسلفانيا، لينقذ الأب المؤسس والملهم للترامبية، ويذيّل معجزته بتوقيعه المعروف، أي رسم الملاك. على مثل هذا الأب لمثل هذه الحركة، أطلق توماس كروكس النار. ماذا لو أن يد العناية الإلهية، لحكمة نجهلها، غابت ذاك النهار عن صدغ دونالد ترامب؟
ما نعرفه عن كروكس، حتى الآن، أنه فتى أبيض في العشرين من العمر، متفوق مدرسياً، خريج علوم هندسة الكومبيوتر، هادئ وكتوم وأقرب إلى أن يكون انطوائياً، يحب الألعاب الإلكترونية، ووالده، ابن الطبقة الوسطى، يقتني مجموعة من الأسلحة المتنوعة.
هل كروكس بلا أديولوجيا ؟
يترك عادةً مطلقو النار الجماعيون عن قصد أو من دونه، أثراً يدل على أفكارهم أو ما تحتقن به أنفسهم قبل الانفجار الأخير. لم يجد عملاء الأف بي آي في هاتف كروكس أو بين أغراضه الشخصية أي أثر يدل على دوافعه لهذا الشكل من الاهتمام بترامب. لا دليل على أنه مؤدلج، أو أنه انفجر بعد عمر من التعرض للتنمر أو العنف المنزلي.
لا شيء نعرفه عنه سوى أنه بحث على “غوغل” عن شخصيات من الحزبين الديموقراطي والجمهوري واحتفظ بصورهم، كما بحث عن “اضطراب الاكتئاب الجسيم”. والأرجح أن معظم مستخدمي الإنترنت في أميركا وبقية الكوكب وضعوا لمرة على الأقل في حياتهم مصطلح اكتئاب في خانة البحث.
لا شيء يميز توماس إذاً عن مطلق شاب أميركي في سنه، حتى أنه أكثر عادية من الذين كان يعتقد معارفهم أنهم عاديون إلى أن ظهروا في أروقة مدارس ابتدائية وارتكبوا مجازر. وتوماس، فوق ذلك، أرعن بما يكفي لأن يذهب إلى مهرجان انتخابي لرئيس سابق، ويثير بتصرفاته الغريبة ريبة الترامبيين قبل أن يتسلق تحت أنوفهم سقف مبنى قريب، ويتمدد على سطحه، لتسمح له بعد ذلك سلسلة من الأخطاء تعاون عليها عناصر الحرس الرئاسي مع الشرطة المحلية بإطلاق ثلاثة عيارات نارية كادت تردي ترامب وتشعل العنف الهائل الكامن في المجتمع الأميركي.
أخطر ما في توماس كروكس ليس محاولة الاغتيال نفسها بل انتفاء دافعه إلى هذه المحاولة. وفي غياب أي توضيح منه تركه قبل مقتله، وبعده بالطبع، يمكن لأسبابه أن تتراوح بين أنه وجد ضرورة ماركسية لينينية في حرق المراحل وتقريب موعد الحرب الأهلية الأميركية الثانية وانفجار صراع الطبقات، وبين أن يكون قرر قتل دونالد ترامب شخصياً ليثبت لفريق الرماية الذي فشل في الانضمام إليه أنه رامٍ ماهر.
أخطر ما في فعلة توماس أنها على الطريقة الأميركية، حيث الهزل الكامن فيها بالحجم نفسه للكارثة التي كان يمكن أن توصل إليها.
إقرأوا أيضاً:
اغتيال غير سياسي؟
نحن أمام اغتيال غير سياسي لأهم سياسي أميركي حالياً، يقوم به أميركي عادي، وُلد في عالم ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر ابناً وفياً للعنف الأميركي اليومي، الكامن منه والظاهر. وأميركا لديها فائض في العنف، وفائض حرفي في كل شيء، فائض في الثراء والفقر، في التطرف والتسامح، في رفض الآخر وقبوله، لديها فائض في البارانويا يساوي الفائض في عدد شرائح برغر ماكدونالدز التي تحتاج إلى تصريف يومي، لديها فائض في الديموقراطية والانتخابات التي تكاد تُجرى على مدار الساعة، من المحلية الضيقة إلى الفدرالية والرئاسية ضمنها.
سلاح المرشحين الدائم لا يعتمد على جذب الخصوم بقدر ما يعمل على بث الخوف في قلوب المناصرين لدفعهم إلى صناديق الاقتراع. والحرب على مقعد شيوخ في الكونغرس غالباً ما تخاض بالأدوات نفسها للحرب على مقعد البيت الأبيض. تنقسم الولايات المتحدة إلى أميركيتين، أميركا الليبراليين الخائفين من أبيض محافظ عنصري ذكوري ريفي يريد القضاء على أميركا الملونة القوس قزحية التي تحضن الأقليات وتمكن النساء وتدمج بلا أي تمييز مجتمعات المثليين والعابرين وغيرهم، وأميركا المحافظة “الوطنية” و”العائلية” و”الأخلاقية” التي تقول إن الرب خلقنا ذكوراً وإناثاً وهكذا يجب أن نبقى، في النوع نفسه، مرتبطين بالنوع الآخر حصراً، وتعتبر نتفلكس والحدود الجنوبية والجامعات الكبرى والفيغان والطاقة النظيفة شراً مطلقاً ومؤامرة مستمرة لسحق رب العائلة الأميركي وعائلته معاً.
أميركا البيضاء التي على يقين بأن الليبراليين يريدون خطف روح الأميركي الأصلي. يكممون فمه بحجة الصوابية السياسية، ويأخذون منه وظيفته بحجة حقوق الأقليات، وينزعون عنه مظلة الحماية، إذ يصادرون سلاحه ويهشّمون صيت شرطته تمهيداً لتفكيكها. يسلبونه شاحنته الصغيرة وموسيقاه وريفه المفتوح على الأفق ومواشيه ومصانعه ومزارعه، بينما يحشون دماغ طفله في المدرسة بخزعبلات البيغ بانغ وحق الإجهاض والحرية التامة بأن يكون ما يريد، صبياً أو فتاة أو سنجاباً.
حرب ثقافيّة بين أميركيتين
بين أميركيتين تدور هذه الحرب الثقافية الباردة، ينخرط فيها كل صناع الرأي، من البيت الأبيض إلى الكونغرس إلى هوليوود إلى سي إن إن وفوكس وإكس ويوتيوب وفيسبوك والإنترنت العميقة.
حرب شرسة بين ثقافتين تتداخل فيها عوامل الانتهازية والتكسب والنفوذ وحب الشهرة مع الإيمان المتجذر بأن الآخر هو الجحيم. والجميع يثير بارانويا الجميع. حرب بفائض في الضوضاء لا يسمع فيها المحارب إلا صوته، ولا يفكر فيها إلا بمخاوفه، هو الذي يعيش، مهما كان انتماؤه تحت كم هائل من الضغوط الاقتصادية تجعله هشاً وقابلاً في أي لحظة للانكسار، كما للانفجار غضباً.
على النموذج الأكثر حماسة وصعوداً حالياً، أطلق الفتى الأرعن النار. الترامبيون هم النواة الصلبة للجمهوريين. حجر الأساس للدفاع عن أميركا التي لم تنس بعد اجتياح نموذج باراك أوباما لها، والتي عادت بالغش والتزوير لتطرد ترامب خارج بيته وتضع مكانه بايدن دمية يحركها بالخيوط من فوق أوباما ومحفله من الأشرار كنانسي بيلوسي وآل كلينتون.
الترامبيون على يقين بأن ثمة محفلاً ما تحاك فيه المؤامرات ضدهم، كل المؤامرات من كوفيد إلى الغش في التصويت إلى قاعات المحاكم التي مثل فيها ترامب. هؤلاء مستعدون للثورة في أي لحظة الآن دفاعاً عن أميركا. ولو أن توماس كان ماهراً في التصويب كما يظن، لما ترددوا للحظة في الإيمان بأنها المؤامرة الكبرى، وبأن الساعة قد حانت، وأن اليد الإلهية التي سحبت ترامب إلى السماء بدلاً من ترك توقيعها الملائكي على العلم المرفرف، كتبت الكلمة التي رددها بنفسه العائد لتوه من بين يدي الرب: حاربوا.
إقرأوا أيضاً: