“مبادرة تشريعية جديدة تهدف إلى “أخلقة الحياة الاجتماعية والسياسية” وذلك عبر التصدي للجريمة الالكترونية المتعلقة بـ”هتك الأعراض والمساس من شرف الأفراد والجماعات دون وجه حق بغاية الحد من انتشار “الاشاعات” التي تمس من اعتبار الأشخاص ورمزيتهم الاجتماعية والسياسية”.
بهذه الفقرة استهلّ النائب مبروك كورشيد عن حركة “تحيا تونس”، التي يرأسها رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، شرح أسبابه لتقديم مبادرة تشريعية لرئيس مجلس نواب الشعب، تهدف إلى تنقيح الفصلين 245 و247 من المجلة الجزائية التونسية، مع طلب إحالتها بصفة مستعجلة على أنظار اللجنة المختصة طبقاً لأحكام النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب التونسي.
وتنص هذه المبادرة التشريعية على معاقبة مرتكب “القذف الإلكتروني” بالسجن مدة عامين وبخطية مالية تتراوح بين 10 آلاف و20 ألف دينار تونسي ويرفع العقاب إلى الضعف إذا كان القذف واقعاً أثناء عملية انتخابية أو في الستة أشهر السابقة لوقوع الانتخابات.
وفي محاولة لمحاكاة طريقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في فرنسا، قدّم كورشيد مشروعه الجديد، معللاً ذلك بأنه يرغب في “محاربة الأخبار الزائفة”. وذلك في خضم انتشار جائحة “كورونا” في تونس، في 12 آذار/ مارس 2020. يومها تونس سجلت 13 حالة إصابة بالفايروس.
لعل النائب اعتقد أن الانشغال بالمستجدات الصحية الخطيرة ستكون فرصة للانقضاض على مكتسبات الثورة المتعلقة بحرية التعبير والصحافة.
ما أثار غضب الصحافيين والحقوقيين هو أن هذا المشروع يسحب من المرسوم 115 المتعلق بحرية التعبير والصحافة والطباعة والنشر، حصرية المساءلة القضائية في قضايا النشر الإلكتروني ويعوضها بعقوبات سالبة للحرية. كما أنه تحصين جديد للنواب من النقد وكشف خفايا أفعالهم.
24 ساعة كانت كفيلةً لإسقاط “افتراضيّ” لمشروع قانون أطلقَ عليه إعلامياً في تونس “قانون القذف الإلكتروني”. ففي اليوم ذاته، 29 آذار 2020، الذي انتشر فيه نص المقترح على صفحات “فايسبوك”، أكد صحافيون وناشطون ومواطنون حقهم بالتعبير، عبر تدوينات ساخرة، مشيرين إلى أن “القذف” وسيلة للتعبير عن الرأي الحر ونقد الأداء الحكومي والسياسي.
حتى بدأ النواب الموقعون على مشروع القانون وعددهم 46 يدوّنون واحداً تلوَ الآخر على صفحاتهم الشخصية عبر “فايسيوك”، سحبهم توقيعهم من هذا المشروع. نواب من مختلف المشارب السياسية والفكرية “إسلاميون” و”يساريون” وحتى “ديموقراطيون”، صُدم الرأي العام حين رأى أسماءهم بين الموقعين، بعدما صدعنا كثيرون منهم بسنوات نضالهم ودفاعهم عن الحق والحريات.
النائب فيصل التبيني عن “حزب صوت الفلاحين”، كان موقفه هزليّاً إلى درجة السخرية والجزع في آن واحد.
التبيني، قال إنه لم يقرأ مشروع القانون ولم يعتقد أنه سالب للحرية ومضيّق عليها، وأكّد أنه وقّع على المشروع “بالثقة” الممنوحة لزميله مبروك كورشد.
“في الوقت الذي كان على نواب الشعب أن يهتموا بوباء كورونا وإيجاد حلول للأزمة ومعاضدة جهود وزارة الصحة، نجدهم يتسللون لتمرير مشروع قانون لا يرتقي إلى مستوى قوانين تونس الثورة بل نعتبره انقلاباً على ثورة الشعب التونسي لتكميم الأفواه والتضييق على الحريات”.
أمر ضاعف حجم المصيبة والمهزلة، فنائب الشعب يوّقع على مشروع قانون سالب للحرية، علاوة على أنه لم يقرأه!
كما تعالت بالتزامن مع التدوينات على “فايسبوك” أصوات منظمات المجتمع المدني الرافضة لهذا المشروع. وتتالت البيانات المنددّة به والمعتبرة أنه طريق سالك للعودة إلى مربع الاستبداد وديكتاتورية ما قبل الثورة التونسية.
الجمعية التونسية للمحامين الشبان، كانت أول جمعية تصدر بياناً، اعتبرت فيه هذا المقترح ضرباً لحرية التعبير وعودة إلى مربع التضييق على المواطنين. كما سجلت رفضها المطلق هذا المقترح ودعت إلى إسقاطه. وأعلنت عن اعتزامها القيام بالخطوات والتحركات المتاحة قانوناً لإسقاطه وفق ما جاء في نص بيانها.
الهيئة الوطنية للمحامين أصدرت أيضاً بياناً رأت فيه أن القانون محاولة غير مقبولة لضرب الحريّات العامة بالبلاد.
وأعرب مجلس الهيئة، في البيان ذاته، عن استغرابه من السعي إلى تمرير بعض القوانين لضرب حرية التعبير باستغلال الأزمة التي يمرّ فيها العالم والتي لا يمكن أن تشكل سبباً للاعتداء على حريات الشعب والانفراد بالرأي.
معركة حريات جديدة
معركة حريات أخرى شرسة، وقد تكون طويلة الأمد تنتظر الصحافيين ونشطاء المجتمع المدني إن انقضت جائحة كورونا بسلام. وستعود المواجهات بينهم وبين ممثلي السلطة التشريعية الراغبين في التضييق على الحريات العامة والفردية بدعوى محاربة الأخبار الزائفة ومعاقبة الذين ينشرونَ البلبلة في الأوساط الإعلامية.
ولعل حجة النائب مبروك كورشيد “محاربة الأخبار الزائفة” هي كلمة حق أريد بها باطل، إلا أن النائب تناسى أن هناك فرقاً كبيراً وشاسعاً بين معاقبة ناشري الأخبار الزائفة وبين تكميم الأفواه لتحصين النواب من النقد. لا سيما أن تقديم هذه المبادرة تزامن مع انتشار أخبار نواب مخالفين للقانون بتغطية بعضهم على فارين من الحجر الصحي الإلزامي، واحتكار بعضهم مادة “السميد” التي يصنع منها الخبز.
الدكتور في القانون الدستوري أيمن الزغدودي يؤكد لـ”درج” أنه على رغم من مشروعية التصدي للأخبار الزائفة التي من شأنها المساس بالأمن والدفاع الوطنيين إلا أن المقترح التشريعي المذكور سلفاً يشكّل خطراً على حرية الصحافة بسبب الخلط الموجود في ذهن النواب أصحاب المبادرة بين الأخبار الزائفة والأخبار غير الصحيحة، إذ يكمن الاختلاف بينهما في مدى احترام الصحافي قواعد المهنة قبل بث الأخبار ومدى علمه بزيف الخبر قبل نشره.
ويرى الزغدودي أنه حين يقوم الصحافي بالتأكد من صحة الخبر ويتبين انه غير صحيح بعد نشره، نكون إزاء خبر غير صحيح لا خبر زائف وهنا يختلف التعامل القانوني مع كلتا الحالتين، إذ نلتجئ إلى آلية التصحيح في الصورة الأولى وإلى العقاب الجزائي في الصورة الثانية. ولذلك فان هذه المبادرة لا ترتقي حتى لتكون ارضية للنقاش المجتمعي حول مسألة التصدي للأخبار الزائفة ولا تمكن مقارنتها بالقوانين الأوروبية نظراً إلى افتقارها إلى الحد الأدنى من الجدية.
النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين بدورها أدانت مشروع القانون مع 39 منظمة وجمعية حقوقية ونقابية تونسية، على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل في بيان مشترك.
واعتبر الموقعون على البيان المشترك أن أحكامه متعارضة بصورة صارخة مع الفصول 31 و32 و49 من الدستور التونسي، والتي تنص على حماية حرية التعبير والصحافة والإعلام وحق الوصول إلى المعلومة. كما اعتبروا أن هذا المشروع يعارض المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه تونس.
ويعكس هذا المقترح التشريعي خلطاً واضحاً وخطيراً بين الثلب والأخبار الزائفة، فلئن اشترك المفهومان في وجوب نشر أخبار غير صحيحة، فإنهما يختلفان من حيث المصلحة المراد حمايتها بما أن جريمة الثلب تهدف إلى حماية كرامة الأشخاص، في حين أن جريمة الأخبار الزائفة تهدف إلى حماية الأمن العام والدفاع الوطني والصحة العامة، وفق ما جاء في نص البيان.
عضو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، فوزية الغيلوفي، أوضحت لـ”درج” أن مشروع القانون قمعي وفاشي، ويعيد المجتمع التونسي إلى مربع الحكم الدكتاتوري، كما أنه يتنافى وروح الدستور الذي ضمن حرية الرأي والتعبير والصحافة. تضيف الغيلوفي: “في الوقت الذي كان على نواب الشعب أن يهتموا بوباء كورونا وإيجاد حلول للأزمة ومعاضدة جهود وزارة الصحة، نجدهم يتسللون لتمرير مشروع قانون لا يرتقي إلى مستوى قوانين تونس الثورة بل نعتبره انقلاباً على ثورة الشعب التونسي لتكميم الأفواه والتضييق على الحريات”.
وتشدد الغيلوفي على أنّ المشروع سحبه مقدّموه على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بعد ضغط الصحافيين والمواطنين لكنه فعلياً لم يُسحب بعد من مكتب مجلس النواب، مضيفة أن النقابة ستكون لهم بالمرصاد.
مبروك كورشيد أكد في تصريحات إعلامية كثيرة، ان التراجع عن مناقشة المشروع سببه الكورونا وأنه مقتنع بما فعل وسيواصل حشد الدعم والتأييد من زملائه النواب. مؤكدا أن حتى إدارة الفاسبوك في الشرق الأوسط تواصلت معه ودعمت مبادرته لمحاربة نشر الأخبار الزائفة.
والآن فيما ما زال مشروع القانون على رفوف البرلمان، هل ستنجح المنظمات والجمعيات الحقوقية بمعية الصحافيين في الحفاظ على المكسب الوحيد والمهدد في كل لحظة، ألا وهو حرية التعبير؟!