يوم الاثنين 14 نيسان/ أبريل سيبقى يوماً حزيناً في ذاكرة التونسيين، يوم سقط جدار مدرسة في معتمدية المزونة في ولاية سيدي بوزيد، على تلاميذ كانوا يقبعون حذوه، فقُتل ثلاثة منهم وجُرح اثنان آخران. ثلاثة شبّان كانوا على وشك إجراء امتحان الثانوية العامّة (البكالوريا) بعد أسابيع قليلة لتنفتح أمامهم أبواب المستقبل، علّهم يستطيعون بواسطة التعلّم محاربة الفقر والهشاشة الاقتصادية الجاثمة على مدينتهم.
شبّان راحوا ضحية إهمال السلطة وسياسة التقشّف، التي انعكست على حالة البنى التحتية التعليمية والصحّية وغيرها، ليشهدوا بوفاتهم على عجز من هم في الحكم على إيجاد حلول للمناطق الداخلية المهمّشة، التي لطالما دفعت ثمن السياسات الفاشلة.
مرّة أخرى تحصل الكارثة في سيدي بوزيد، المحافظة الجريحة التي كانت منبع الثورة التونسية، مرّة أخرى تكون مسرحاً لتخاذل السلطة، ولتعميق الهشاشة الاجتماعية المخجلة للمدن الداخلية المنسيّة.
احتجاجات ضد الإهمال…وتعزيزات أمنية
خرج أهالي المزونة للاحتجاج على مدى أيام، تنديداً بالظلم والإهمال الذي يتعرّضون له من قِبل السلطات، فتمّ التصدّي لهم عبر التعزيزات الأمنية، التي أتت لإخماد “الاحتجاجات” عبر إطلاق القنابل المسيّلة للدموع، والقيام بسلسلة من التوقيفات لشباب الجهة الغاضب، بدت السلطة مرتبكة وخائفة من أن يُعاد سيناريو كانون الأول/ ديسمبر 2010، حينما أضرم البوعزيزي النار في نفسه، فأشعل جذوة الثورة.
لأيّام عديدة انتظر أهالي المزونة المفجوعون بأولادهم والأمّهات الثكلى اللواتي فقدن أبناءهن بكلّ بساطة، أن يأتي مسؤول واحد لزيارتهم، أو لتفسير ما حدث، أو لتقديم كلمة اعتذار عما حصل، ولكن الصمت ظلّ مطبقاً من قِبل وزارة التربية وكلّ من يمثّلها. رفض المسؤولون تقديم أية تصريحات للصحافة حتى للتلفزة الوطنية، التي أصبحت منذ زمن بوقاً للسلطة، وفي ذلك دلالة على قمّة الارتباك الذي وصلت إليه الأوساط الحاكمة.
عوضاً عن الاعتذار، أعطت السلطة الأمر بإسقاط كلّ الجدران والأسوار الآيلة للسقوط في المدارس، لتجنّب تكرار حوادث مثل “واقعة الجدار” في المزونة، ولكن في الوقت نفسه من دون أن تعطي آجالاً للوقت الذي ستتم فيه إعادة بناء هذه الجدران.
في الأثناء، زادت حالة الاحتقان في المدينة المكلومة، وتواصلت الاحتجاجات التي قادتها النساء في حالات عديدة. لفتت انتباهي شعارات أطلقتها امرأة بسيطة كانت تشارك في هذه الاحتجاجات، لخّصت من خلالها مأساة المواطن، ليس فقط في المزونة، بل في تونس بشكل عامّ، قالت: “لسنا شعباً جاهلاً… لسنا حيوانات، كما يدّعون… نحن شعب نطالب بحقوقنا الحياتية… حقّنا في العيش، حقّنا في الصحّة، حقّنا في التربية، حقّنا في الطاقة، حقّنا في التشغيل، حقّنا في المواطنة…”، جاءت كلماتها كصرخة حقّ في وجه القائمين على الحكم حالياً، الذين يحرمون المواطنين من أبسط حقوقهم الحياتية.
يبدو هذا غريباً من نظام حكم شعبوي نجح في الوصول إلى السلطة تحت شعار “الشعب يريد”، ولا ينفكّ يردّد أنه في خدمة الشعب، وأنه جاء للقضاء على منظومة الفساد والفاسدين ،”والعشرية السوداء” بقيادة الإسلاميين، ولكنه في النهاية، لم يجلب لهذا الشعب ما وعده به من رخاء واستقرار.
قيس سعيد وصل !
أخيراً، وبعد خمسة أيام، وفي فجر يوم 18 نيسان/ أبريل، قرر رئيس الجمهورية قيس سعيّد القدوم إلى مدينة المزونة للقاء الأهالي عند الساعة الثالثة صباحا! وجاء في الوقت نفسه ليشدّ أزر الأمنيين ويشكرهم على جهودهم في التصدّي للاحتجاجات، ويُهنّئهم بعيد قوات الأمن الداخلي، الذي يُصادف في اليوم نفسه، ولم يُفلّت الفرصة كالعادة لكيل التهم”للخونة والعملاء” الذين ساهموا في تأجيج الأوضاع، ويختم قوله إن “جيرانه يعانون وهو أيضا يعاني”، ليتحوّل بقدرة قادر من أعلى مسؤول سياسي في الدولة مُطالب بإيجاد حلول للبنية التحتية المهترئة للمؤسسات التربية، إلى “ضحيّة”!
أتحفتنا بعد ذلك وسائل إعلام السلطة، بالإعلان أن سيادة الرئيس وعد باتخاذ إجراءات عاجلة لإيجاد حلول للمنطقة المنكوبة، وأن الأمور عادت للاستقرار وكأن شيئاً لم يكن!
ولكن ما لا يخفى على العديد من المراقبين وعلى جزء كبير من الشعب التونسي، أن “حادثة الجدار” ليست حادثة فردية، فقد أعقبتها بعد يوم واحد حادثة حصلت في حاسي الفريد في القصرين (وهي من أكثر الجهات فقراً في الجمهورية التونسية) راح ضحيّتها تلميذ نتيجة انقلاب شاحنة كانت تقلّه مع تلاميذ آخرين من المدرسة في غياب النقل المدرسي. بالتالي، نحن أمام مشكلة حقيقية يبرز فيها عجز الدولة عن توفير الحقوق الأساسية لمواطنيها في التعليم، والصحّة، والنقل.
نهاية السياسات الشعبوية ؟
حادثة المزونة أسقطت القناع عن السياسات الشعبوية، التي استثمرت لسنوات في سخط التونسيين من حكومات ما بعد الثورة، التي لم تلبِّ مطالبهم في “الشغل والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية”، ولكنها في الوقت نفسه لم تعطهم شيئاً يُذكر من هذه المطالب، سوى الوعود الواهية والتهم للطبقة السياسية السابقة لـ 25 تموز/ يوليو 2021، بالفساد والعمالة.
ارتفاع نسق الحركات الاحتجاجية منذ بداية السنة، يفضح تململ قطاعات عديدة من الشعب التونسي من الأداء الحكومي، وعدم قدرة السلطة على إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، ولم تُفلح إقالة رئيس الحكومة كمال المدوري، الشهر المنقضي في التخفيف من الغضب الشعبي، وحسب التقرير الثلاثي لـ “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” فقد بلغت التحركات الاحتجاجية في الأشهر الثلاثة الأولى لـسنة 2025، 1132 تحرّكاً احتجاجياً، تضاعف معها نسق الاحتجاج بنحو 238% عن السنة الماضية، وقد شارك فيها عمّال ومعلّمون وأساتذة وموظّفون وحقوقيون ونقابيون وصحافيون، وهذا يعني أن رقعة الغضب بصدد الاتّساع شيئاً فشيئاً.
الشارع يغلي، والسلطة مرتبكة لا تملك سوى العلاج الأمني للمشاكل، والمزيد من التضييق على المعارضين وناشطي المجتمع المدني والصحافيين، وعلى كل مواطن يجرؤ على انتقادها، والأزمة تشتدّ أكثر فأكثر، فهل هي بوادر ثورة جديدة؟