12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 كان تاريخاً أشبه بشرارة النار الأولى التي أشعلت غضب القضاة في تونس. فخبر وفاة القاضية في المحكمة الابتدائية في محافظة نابل، سنية العريضي، بسبب فايروس “كورونا” واحتمال وجود شبهة في أنها لم تتلقّ الرعاية المناسبة من مستشفى خاص، هذا الخبر شكّل محركاً أساسياً لجملة مطالب اقتصادية واجتماعية، شدد عليها القضاة التونسيون طيلة الفترة الماضية.
بحسب رواية زوجها فإن العريضي قد تكون توفيت بعد مماطلة مستشفى خاص، اشترط قبل إدخالها العناية المركزة توفير شيك ضمان بـ5000 دينار تونسي/ 1800 دولار. وهو مبلغ لم يكن زوجها يملكه في تلك اللحظات، وأكد أن المستشفى لم يستقبل زوجته إلا بعد 45 دقيقة من الجدال حول مبلغ الضمان وكيفية توفيره، في حين أن حالتها كانت تسوء أكثر وأكثر. خالد العبروقي توفي هو الآخر في 22 من تشرين الثاني الماضي أثناء أدائه عمله بسبب فايروس “كورونا”. وهو قاضي التحقيق الأول بالقطب القضائي المالي والاقتصادي واعتبرته “نقابة القضاة التونسيين”، “شهيد الواجب” بسبب ضعف مقومات السلامة والوقاية في المحاكم التونسية وعدم تطبيق البروتوكولات الصحية المتعارف عليها دولياً.
غضب القضاة
حالة الغضب والاحتقان بين صفوف القضاة إثر وفاة زميليهما كانت واضحة، وفي بيانات متتالية، استهجنت “جمعية القضاة التونسيين” و”نقابة القضاة التونسيين”، “سياسة التهميش واللامبالاة التي تنتهجها الدولة التونسية بمؤسساتها تجاه السلطة القضائية، وذلك بتجاهلها جميع المطالب المقدمة لها”. وتقرر في بداية الأمر الدخول في إضراب عام لثلاثة أيام بداية من يوم 18 إلى 20 تشرين الثاني 2020، واستثنيت فيه طلبات الإفراج المقدمة مكتبياً والنظر في الاحتفاظ الذي انتهت آجاله، ثم تقرر تمديد الإضراب.
وقد أكدت “نقابة القضاة التونسيين” أن “دفاعها عن القضاة وحقوقهم المهدورة هو دفاع عن الحق الشرعي للمواطن التونسي في أن يكون قاضيه مستقلاً فعلياً عن كل تبعية، وعن كل ضغط وفي أن تكون العدالة ذات مكانة تعلو كل الحسابات وتتعدى كل المصالح”، وذلك بعدما علت أصوات تنتقد القضاة المطالبين بالاستشفاء في المستشفى العسكري.
تشير أميرة العمري رئيسة النقابة إلى أن “القاضي التونسي يعمل كثيراً، فيما لا يملك مكتباً مستقلاً، يستطيع إتمام عمله فيه بعد مداولات المحاكم، علاوة على الوضع المزري، لناحية عدم توفير أبسط مقومات المرفق الحكومي لائق، مثل الحمامات النظيفة والمكاتب المستقلة. إضافة إلى أن الأجور الممنوحة للقضاة لا تخولهم الحصول على تغطيات صحية محترمة”.
وفي بيان لها قررت نقابة القضاة التونسيين مواصلة الإضراب العام إلى غاية 4 كانون الأول/ ديسمبر.
وكان صدر الأمر الحكومي عدد 1132 المؤرخ في 12 كانون الأول 2019 والمتعلق بزيادة أجور القضاة من الصنف العدلي وقضاة المحكمة الإدارية وقضاة محكمة المحاسبات وضبط مقاديرها، ضمن منحة القضاء المخوّلة لكل سلك مذكور، قدرت بـ40 ديناراً /10 دولارات بداية من 1 تموز/ يوليو 2019 و50 ديناراً /15 دولاراً بداية من 1 كانون الثاني/ يناير 2020.
إلا أن هذه الزيادات يعتبرها القضاة غير كافية، لتأمين حياة كريمة، والحصول على تغطية صحية مناسبة.
دليلة علوي، مستشارة في الدائرة الجنائية المتخصصة بالعدالة الانتقالية، في المحكمة الابتدائية، تؤكد لـ”درج” أنه لولا وقوف زملائها القضاة إلى جانبها في وعكتها الصحية الصعبة لما كانت وفرت مصاريف علاجها في فترة ما.
“على رغم حصولي على بطاقة علاج في المستشفيات الحكومية إلا أنها لم تف بالغرض أثناء مرضي في الفترة الماضية. زملائي جمعوا لي مبلغ 5000 دينار حتى تمكنت من إجراء فحوص الأشعة وشراء الأدوية. روح الوحدة التي بيننا هي التي تنقذنا من الموت في بلد يراد فيه أن يكون القاضي مرتهناً وغير مستقل”.
تقول علوي: “منذ عام 2012 هناك مليارات الدينارات تضخ سنوياً في أرصدة وزارة العدل التونسية ممنوحة من الاتحاد الأوروبي في إطار برنامج دعم استقلال القضاء في تونس. كنا ننتظر أنها ستصرف لتجهيز المحاكم التي تفتقر لأبسط مظاهر اللياقة مثل الكراسي والمكاتب المخصصة للقضاة ولكتبة المحاكم وحتى الحمامات النظيفة. محكمة ولاية الكاف مثلاً/ الشمال الغربي لتونس، أكبر مثال على هذا الوضع الكارثي، فهي آيلة للسقوط وقد تم إغلاقها واعادة فتحها من دون إصلاح طوبة واحدة فيها. ناهيك بمحاكم أخرى في أطراف العاصمة وفي الولايات”.
وتشير إلى أن السلطة القضائية أصبحت مسلوبة الهيبة ومرتهنة لإرادة السلطة التنفيذية التي ترفض الاستجابة لمطالب القضاة. كما أنها تنتهج المماطلة والتسويف في إطار سياسة ممنهجة لضرب استقلالية القضاة على حد تعبيرها.
3 استحقاقات لا تراجع عنها
استحقاقات تشريعية ومالية وصحية، هي جملة المطالب التي صعّد من أجلها القضاة احتجاجاتهم، ويواصلون على إثرها خوض الإضراب العام. وتتمثل الاستحقاقات التشريعية في صوغ القانون الأساسي للقضاة وهو مطلب ملح وفيه ايجابيات لبنية السلطة القضائية وفق الدستور. تؤكد دليلة علوي في هذا السياق أن القانون الأساسي المنظم حالياً للقضاة قد تجاوزه الزمن فهو ساري المفعول منذ عام 1967. ومن غير المعقول أن يبقى منظماً لمهنتهم من دون تطويره ليتلاءم مع حاجات المهنة المعاصرة.
ويطالب القضاة بصوغ قانون لجهاز التفقدية للشؤون القضائية حتى تكون تحت إشراف المجلس الأعلى للقضاء، وليس تابعاً لوزارة العدل والسلطة التنفيذية. وجهاز التفقدية للشؤون القضائية هو مرفق حيوي، يقوم بمحاسبة القضاة في حال ارتكاب تجاوزات قانونية.
أما المطالب المالية فتعد استحقاقاً ملحاً لما توفره للقاضي من أمان اجتماعي وتضمن له حداً أدنى من الاستقلالية في حال حوصر بالإغراءات التي قد تسيء إلى ميزان العدالة.
وتستغرب علوي في هذا السياق تصريحات وزير العدل محمد بوستة الأخيرة، حين قدم معلومات مغلوطة عن أجور القضاة ومنحهم.
فعلياً يحصل القاضي رتبة أولى، على أجر 2949 ديناراً تونسياً، ويقتطع منه 32.5 في المئة.
ليبقى في الأخير مبلغ 2466 ديناراً دون احتساب مبالغ اقتطاع أخرى ناهيك بالتي فرضتها السلطة التنفيذية أثناء جائحة “كورونا”.
“لا يزعجني أن أستخدم المواصلات العامة لأنني غير قادرة على شراء سيارة، لكنّ ذلك قد يشكل خطراً على سلامتي الشخصية، أن أجلس مثلاً إلى جانب متهم في الحافلة وأنا بصدد متابعة ملفه. وقد حدث معي هذا الأمر عندما كنت أعمل في ولاية الكاف/ الشمال الغربي لتونس”.
وتؤكد علوي أنه وفق إحصاءات جمعتها “جمعية القضاة التونسيين”، القاضي التونسي هو الأدنى أجراً في المغرب العربي مقارنة بالمغرب وليبيا والجزائر ناهيك بدول الجوار الأوروبي. كما انه ينكب على حل أكثر من 130 ملفاً شهرياً من دون احتساب الساعات الإضافية.
عدالة معطلة
جاء في الفصل 18 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 تموز 1967 المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة “يحجّر تحجيراً باتاً على أعضاء السّلك القضائي الإضراب وكلّ عمل جماعي مدبّر من شأنه إدخال اضطراب على سير العمل بالمحاكم أو عرقلته أو تعطيله.” واستناداً إلى هذا الفصل يعلل المحامي مالك بن عمر، وجهة نظره الرافضة لإضراب القضاة ويقول لـ”درج”:
“عندما نتحدث عن القضاء فنحن نتحدث عن السلطة القضائية لا عن مجرد موظفين في إدارةـ فهل من حق السلطة أن تضرب؟ هل يمكن تخيّل إضراب رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو أعضائها عن العمل بصفتهم يمثلون السلطة التنفيذية؟ قطعاً لا، بالمثل لا يمكن القضاة بصفتهم ممثلين للسلطة القضائية الإضراب”.
ويرى بن عمر أن قرار الإضراب المتخذ من الهياكل القانونية هو غير قانوني لأنه نابع من سلطة يفترض أن تكون الساهرة على احترام القانون.
“لا يزعجني أن أستخدم المواصلات العامة لأنني غير قادرة على شراء سيارة،
لكنّ ذلك قد يشكل خطراً على سلامتي الشخصية،
أن أجلس مثلاً إلى جانب متهم في الحافلة وأنا بصدد متابعة ملفه”.
ويذكر أن مرفق العدالة معطل حالياً منذ 16 تشرين الثاني، وبداية الإضراب لم يتبعه اتخاذ اجراءات استثنائية تنظر في ملفات الموقوفين على ذمة قضايا جارية أو قضايا ذات صبغة معاشية كقضايا النفقة.
لدى المحاكم الآن قضايا قد تقلب الوجه السياسي الحالي وقد تلغي كراسي في البرلمان. وذلك بعد صدور تقرير محكمة المحاسبات الأخير التي كشفت عن استخدام “حركة النهضة” و”حزب قلب تونس” ورئيسه نبيل القروي، أموالاً غير مبررة أثناء حملاتهم الانتخابية في الانتخابات التشريعية، في أيلول/ سبتمبر 2019، وحتى بخصوص عضوية بعض الفائزين في انتخابات 2018. لكنّ القضاء معطّل الآن، لأن الدولة تغافلت لسنوات عن حقوق قضاتها. ويرى الناشط الحقوقي مهاب بن قروي من منظمة “أنا يقظ”، أن “التمديد في الإضراب الذي استثنى كل ما له علاقة بموضوع الانتخابات، هو نوع من الضغط على الحزام السياسي البرلماني الداعم للحكومة، من أجل حثها على تنفيذ مطالب القضاة”.