أمين معلوف أميناً عاماً دائماً للأكاديمية الفرنسية.
لبنانياً، كان يفترض بهذا الحدث الثقافيّ الفرنسي أن يكون مدوّياً، وأن يندرج في السجل الثقافي الوطني، كواحد من صنائع العقل اللبناني وتأثيراته في الثقافة العالمية.
لكن الافتراض المذكور على الأرجح ضحية أمرين اثنين، الأول يكمن في الضحالة الثقافية السائدة، بفعل استئثار نموذج ثقافي متواطئ مع الاستئثار السياسي. والثاني يتعلق بالروائي اللبناني نفسه، وبموقعه وموقفه ونظرته للثقافة وللسياسة ماضياً وراهناً، وهو لا شك مرتبط سلباً بسابقه.
تجاوز معلوف التشتت الهوياتي إذا جاز التعبير، وعبر عنه في كتابه “الهويات القاتلة”قائلاً:”منذ غادرت لبنان للاستقرار في فرنسا، سألني البعض مراراً عن طيب نية إن كنت أشعر بنفسي فرنسياً أم لبنانياً، وكنت أجيب هذا وذاك، لا حرصاً مني على التوازن، بل سأكون كاذباً لو قلت غير ذلك”.
هجرة معلوف كانت بلا شك قسرية، وكانت الحرب اللبنانية أكبر دوافعها، قد ينطوي الأمر على سخرية مؤلمة، أقله في نظر المُحتفين بمعلوف من خارج السلطة.
تصور بقاء الأخير في لبنان كان ليفضي في أحسن أحواله إلى نموذج عن “المثقفين” الذين دفعتهم الحروب اللبنانية إلى تلازم ثقافتهم مع السياقات السياسية المتنافرة، أو العيش تحت وصايتها، ما أنتج غالباً سجلاً ثقافياً رديئاً، وأمين معلوف نموذج وازن عن الحالة الطردية بين الحرب والثقافة، أي بين ضيق الأفق المتاح للعقل، وبين حريته المطلقة.
نماذج عن هذا التصادم وشت به ماضياً وقائع كان معلوف في صلبها، ووقائع أخرى تبدو أكثر راهنية عن إخضاع وترويض الثقافة بين الموروث الديني والسائد السياسي.
عمل أمين معلوف في الوفد الصحافي اللبناني الذي غطى المفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية التي سبقت توقيع اتفاق 17 أيار/مايو من العام 1983 وانسحب من الوفد قبل توقيع الاتفاق المذكور، وسافر إلى فرنسا مباشراً لتكثيف سمته الثقافية.
الانشطار السياسي اللبناني الذي رافق ذلك الاتفاق، انتهت مآلته بهزيمة صانعيه، وفي ظل هيمنة “العقل” الحربي، كان طبيعياً أن يندرج معلوف ضمن المهزومين، وبكلفة قد لا يتاح للمثقف النوعي التماهي معها كما حال السياسي.
في أوائل شهر حزيران/يونيو عام 2016، تحدث أمين معلوف للقناة الرابعة الإسرائيلية، من الأكاديمية الفرنسية التي آلت أمانتها العامة راهناً إليه. المناخ الثقافي الصرف الذي ساد اللقاء لم يعفِ الروائي اللبناني من تهمة التطبيع مع إسرائيل، ومن مطالبة إعلام وجمهور الممانعة بتجريده من “لبنانيته”.
الواقعتان تفضيان إلى فكرة صارت سائدة عن استحالة الفصل بين الثقافة والسياسة والدين، أقله في عقل ممانع يُخضِع الأولى لمشيئة الأخرى، وبلا أثر رجعي.
يُنتخب أمين معلوف أميناً عاماً للأكاديمية الفرنسية في زمن لم يكن فيه لبنان ممانعاً أكثر مما هو عليه راهناً، ولا تتبدى الثقافة مسلوبة من فضائها الواسع ومن حريتها أكثر مما هو حالها في ظل وزير حالي (محمد جواد مرتضى) يريد تأطيرها بعمق في الموروث الديني والسياسي البائس.
في الحالين هناك مؤشر عن الأفق الضيق الذي سيسيل فيه حدث ثقافي هو أيضاً معيار عن التفاوت المتنامي للثقافة بين حقبتين كانت الحروب المتناسلة منذ العام 1975 حدها الفاصل. علماً أن الوزير الذي هلل لطَعن الكاتب سلمان رشدي، لم ينبس بكلمة (حتى الآن) عن الحدث الذي أوصل لبنانياً إلى سدة الأكاديمية الفرنسية!
أغلب الظن، أن العبور الباهت للحدث الفرنسي في الثقافة اللبنانية، الرسمية خصوصاً، يُثري مساراً يدّعيه مقاومو التطبيع مع إسرائيل، لكنه أيضاً يفضح مسارهم الذي يستقوي على ثقافة لا تملك مناعة التطبيع السياسي الممانع الذي بوشر به منذ مؤتمر مدريد، وقد لا ينتهي بالترسيم البحري الأخير جنوباً .
إنها مشقة الثقافة في وطن يضيق بقامات كأمين معلوف، ويتسع لمحاكم التفتيش الثقافي.