إن استغربتم أن بيننا من يعتبر خروج الولايات المتحدة من أفغانستان نصراً للإسلام، ومن ثَم تُرادف “طالبان” عنده كل خير، فتذكروا أن بيننا أيضاً، مثلاً لا حصراً، من يرون في البعثي صدام حسين بطلاً شهيداً و جمال عبد الناصر زعيماً خالداً.
الأول كان جزاراً بشعاً خسر حروبه ثم سلطته ثم استقلال بلاده ليختم الخسارات بحياته، والثاني عجز عن النصر في أيٍ من حروبه ولم يبق من إرثه إلا شعاراتٍ وثقافة قمع، لم يُنقص من مقامهما شيئاً عند من يبدوا أنهم الأغلبية بيننا، بل كثرٌ منا يعتقدون أن معاندة الواقع حتى الفناء مجدٌ تليد أياً كانت الخسارات.
من ثَم حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل كانت “نصراً إلهياً” بغض النظر عن الكلفة الهائلة دماً وتدميراً وأنها انتهت بتحميل الحزب مسئوليةَ الحرب وبفرضِ حصارٍ دوليٍ عليه، وكلُ صراعٍ عسكري بين حماس وإسرائيل انتهى نصراً مؤزراً للأولى وإن سقط مئات الفلسطينيين مقابل إسرائيلي واحد أو سُويت نصف غزةَ بالأرض. أي تسلسل منطقي أوصل اللونَ الغالب في ثقافتنا السياسية إلى هذا القدر من الإنفصام عن الواقع؟
المفتاحُ في الجوهَرة، في اختزال جانبك مقابل جانب غيرك إلى جوهرٍ لا يتجزأ. طالبان خيرٌ مطلق إن رأيت أنها جزءٌ لا يتجزأ من “إسلامٍ ومسلمين” نعرفهما كـ”كلٍ” واحد لا ينقسم ولا يتغير، في صراعٍ لا ينتهي مع الـ”الغرب” (الصليبي ربما؟)، الكافر (طبعاً؟)، الذي يُعرّف هو أيضاً كجوهرٍ واحد. الجوهَرة تُغَيّبُ التفاصيل، تمنع الاختلاف والتعدد والتنوع كمفاهيم قبل أن تجرّمهم.
ليس هناك من يسأل هل “إسلام” طالبان هو نفسه ما يفهمه كل مسلمٍ آخر على أنه “الإسلام”؟ أم أن فهم الإسلام، كما يؤشرُ ألفُ دليلٍ ودليل، يختلف ويتباين عبر الزمان والمكان؟ ولأنها لا تفهم التعدد أو الاختلاف أو التغير، ناهيك أن تقبله، تسحقُ الجوهرة الفرد و تذهب إلى حدِ إلغاء التاريخ وتحولاته وتفاصيله (ما التاريخ لجوهرٍ لا يتغير؟ من ثم الغرب “صليبي”، وإيران مجوسية أو صفوية، ويُطَالب إردوغان “العثماني” بإعادة الخلافة في مظاهراتٍ لجماعة الإخوان المسلمين استقبلته في مصر بُعيد ثورة يناير 2011).
في الجوهر الواحد لا مكان لفردٍ ولا لفردية. ينسحقُ أي حقٍ بدءاً بالحق في الحياة: ما وزن الأفراد إن كنا نحققُ نصراً للـ”إسلام”؟ ليس من أهميةٍ إذاً لقتل هذا أو ذاك، أو التضييق على المرأة الأفغانية عملاً وتجولاً وزياً وتعليماً، أو اعتبار حلق اللحية من الكبائر. بمنطقٍ مشابه، مثلاً لا حصراً، صوّر صدام حسين حربه مع إيران على أنها دفاعُ “حارس البوابة الشرقية” (للعرب طبعاً) ضد الفرس “الأغيار” أحفاد المجوس (من ثم فيلم القادسية الذي أنتجه العراق عام 1981)، من ثم (زعماً) تهون الكلفة المرعبة لحربه العبثية تلك دماً وخراباً. كون صدام هو من بدأ الحرب وأن إيران كانت تحت حكم رجال دين وجل أهلها مسلمون شيعة كأكثر أهل العراق، “تفاصيل” يُسقطها منطقُ الجوهرة.
وإن كان جانبك هو الجوهر الذي يتطابق مع الحق والصواب، فلا أنت ولا جماعتك معرضان للخطأ: الزللُ قَصرٌ على من يعرضُ له النقص، لكن جوهرك هو الكمالُ نفسه. لذلك يصعب تقبل النقد و بدلاً من الاعتراف بالخطأ، تتوافر الأعذار دوماً لكل هزيمةٍ أو تراجع. و إن فشل الجدال في الدفاع عن سلوك كارثي لمن نعده “منا” هربنا إلى المبررات. من ثَم الغرامٌ بنظريات المؤامرة، فجانبنا سقط في هذا الفخ أو ذاك لا لقصر نظرٍ أو عجزٍ عن استيعاب دروس الماضي، لا سمح الله، بل لأن المؤامرةَ هي الشيطانية مجسدة، من ثَم السقوطُ ليس فقط معذوراً، بل دليلٌ على التفوق الأخلاقي الناصع.
أنت فشلت لا لسذاجتك الطافحة، بل لأن عدوَك المخادع هو الشرُ الخالص، أما أنت وجانبك فالخيرُ نفسه أياً كانت أفعالكم.
فقط في سياقٍ كهذا يُقبلُ أن سفيرةً أمريكية “خدعت” صدام حسين قبل غزو الكويت، فيصبحُ جزار بغداد “ضحيةً بريئة”، أو أن نرد كل ما يجري في العالم إلى خرافة بروتكولات حكماء صهيون فيكون في عجزنا وهزائمنا ضمناً؛ راحة إذ تؤكد شر العدو مقابل نقاء سريرتنا. تغيبُ هنا أي محاولاتٍ لمسائلة الذات أو محاسبتها، و تختفي القدرةُ على التعلم، أنى لك بهذا وأنت عاجزٌ عن الاعتراف بخطأ؟
وإن لم تفِ المؤامرةُ بالرد لجأنا”للماذاعنية”. مثلاً لا حصراً؛ كان الردُ الأوسع انتشاراً على من انتقد مذابح نظام البشير المتحالف مع الإسلاميين في دارفور و جرؤ على تأييد مطالب العدالة الدولية على محاسبته: “ماذا عن” ما تفعله إسرائيل، أو ما فعلته وتفعله الولايات المتحدة؟ أو ما ارتكبته هذه القوة الاستعمارية أو تلك قبل عقودٍ أو حتى قرون؟ الردُ نفسه كان حاضراً حين الحديث عن بشاعات جزار بغداد البعثي، ويبقى مستخدماً في صورٍ وسياقاتٍ كثيرة (مثلاً لا حصراً: إن انتقدت ذاك الزعيم أو التنظيم المُنضويين تحت لواء الإسلام السياسي كانت الإجابة: وماذا عما يفعله ذاك النظام الذي يقمع الإسلاميين، وإن انتقدت من يقمع المنتسبين للإسلام السياسي، كان الرد هو نفسه وبنفس المنطق لكن في الاتجاه العكسي، وإن انتقدت أفعالاً للحشد الشعبي قيل لك وماذا عما فعلته داعش ، وهكذا دواليك).
بالانزلاق للـ”ماذاعنية” تُذبح الأخلاق. من جهة، “الماذاعنية”، وعلى عكس المبدأ الأخلاقي الأصيل، تعني حكماً أن الخطأين يصنعان صواباً، أن أي جرمٍ مُبرَر طالما ارتكبه غيري ولم يعُاقَب عليه، هكذا، مثلاً لا حصراً، يصبح القتل والاغتصاب الممنهجين كما شهدت دارفور “حلالاً” طالما أتى الفعل نفسه آخرون ونجوا بفعلتهم، ومن جهة أخرى تعني أن الأزمة ليست مع جريمة القتل أو النهب أو التعذيب أو سفك الدماء، بل مع هوية المجرم؟ أهو من جماعتي، ابن جوهري المزعوم نقاؤه، فأدافع ُعنه، أم من “الأغيار” (كما في تعبيرات قوميين عرب) أو “الكفار” فأدينه؟ و بنزول الحكم الأخلاقي من الفعل إلى هوية الفاعل تنتفي شرعية التقييم الأخلاقي.
مثلاً لا حصراً، جُل المسلمين، إن لم يكن كلهم، اعتبروا محاكمة مجرمي حروب يوغوسلافيا السابقة تحقيقاً للعدالة، لكن كيف لا يساوي ذلك تطبيق المنطق نفسه على دارفور ؟ كيف لك أن تطالب بحساب محرمي الحرب الصرب إن رفضت حساب مجرم حربٍ عربيٍ أو مسلم؟ لكن الافتراض الضمني هنا أن لطرفك ما ليس لغيرك، أو أن لا-أخلاقيةَ غيرك تبرر لا أخلاقيتك، وفي الحالتين لا ترى داعٍ لمحاسبتك على أفعالك. عدا العجز عن الوصول لأرضيةٍ إنسانيةٍ مشتركةٍ مع غيرك ، إن لم تكن هذه نرجسيةً فجة، فما النرجسية إذاً؟
الجوهرة للذات الجماعية المتضخمة (التي تميز المشاريع القومية عادةً، كـ “القطرية” أو العروبية أو المنتسبة للإسلام عندنا) لا يتوقف أثرها عند النرجسية بل تؤدي ل”ضدية” تفضي بدورها لسذاجةٍ سياسية وإعلامية. بتعبيرٍ آخر، إن كنت تعرّف ذاتك جوهراً متفوقاً يصبح مجرد الوقوف ضد الآخر بطولة بغض النظر عن النتائج، هكذا تصبح “المقاومة” قيمةً مقدسةً في حد ذاتها دون اعتبارٍ للفعالية والمردود، أيضاً يصبح اتخاذ “الموقف” (الضدي حكماً) أهم من أي تبعات.
صحيح: الرفض أحياناً هو الفعل الأخلاقي السليم (كما مثلاً ضد الاحتلال الإسرائيلي) لكن سياسياً، لابد أن يقترن ذلك بحساباتٍ للربح والخسارة ، وبالتبعية، للممكن على أرض الواقع و لطبيعة الطرف المقابل كفاعلٍ سياسي تتباين مواقفه من واقعٍ ووقتٍ لآخر وتتفاعل عناصر داخل نظامه لتتمايز هي أيضاً. لكن الجوهرةَ تغلقُ هذا الباب، ومن ثم فعلياً تلغي احتمال السياسة لتُحِل مكانها الصدام الدائم.
هكذا تُمَجد عبارةٌ شهيرة لعبد الناصر مقتضاها أنه طالما أمريكا غير راضية عنه فهو على حق، أو وصف البلد نفسه، في إيران، أنه “الشيطان الأكبر” أو وصف الاتحاد السوفيتي السابق أنه بلد الشر الذي لا يمكن إلا الصدامُ معه، ناهيك طبعاً عن “اليهود” و”الصليبيين” و”الغرب”، إلى آخر القائمة (إن كان لها آخر).
الضدية هنا تعني تعريف النفس بكونك نقيضاً للآخر، لكنها تعني أيضاً بقائك أسير َهذا التناقض، فتستحيل السياسة، نظرياً على الأقل، بما تقتضيه من تفاهماتٍ وحلولٍ وسط، حتى إن فرضها الواقع. النتيجة؟ درجات من انفصام الشخصية كتبني لغة وثقافة العداء الوجودي لهذه القوة أو تلك بينما التواصل أو حتى التعاون على قدمٍ وساق، أو المراهقة السياسية المزمنة التي تعتبر العناد فعلاً سياسياً كما جملة عبد الناصر التي أشرنا إليها أو وصف “الشيطان الأكبر” (ترى هل هو أقل شيطانية تحت حكم الديمقراطيين في عهد أوباما واليوم، وما الذي يعنيه ذلك؟).
وتحت سطوة الجوهرة تنُتج المراهقة السياسية المزمنة فيضاً من اللامنطقية. قلائل سيتذكرون اليوم كيف لقي الكاتب الفرنسي روجيه جارودي استقبال الفاتحين الأبطال في مصر تسعينيات القرن الماضي لأنه سائل الأعداد المعلنة لضحايا المحرقة النازية من اليهود . بداهةً لا أحد يتهم عرباً أنهم أدخلوا اليهود المحرقة، ولا كانت أوشفيتز، حيث أكبر معسكرات اعتقال اليهود النازية، في يافا، فلِمَ الدخول في صراعٍ لم يكن العرب أو المسلمين طرفاً فيه؟ لِمَ السعي حثيثاً لتحمل لوم ما نحن منه براء و يستخدم مُبرراً لاغتصاب فلسطين وتشريد شعبها؟ لكن ان اعتبرت أن كلَ اليهود جوهرٌ واحد هو الشر المطلق فلابد أن تدخل كل صراعٍ ضدهم. لا مكان هنا للصحيح المنطقي: أن تتحالف مع اليهود المعادين للصهيونية الذين يدينون تحديداً توظيف المحرقة لخدمتها (أي الصهيونية)، فهذا فعل سياسي ومنطقي يُكسبك الأرضيةَ الأخلاقية الأعلى، لكن مالنا نحن والسياسة والمنطق؟
ولأن الجوهرةَ تُفصي إلى العجز عن السياسة، وتقودُ إلى اللامنطقية، فهي أيضاً تُحْجمُ قدرتَنا على المبادرة وتحشرنا في خانة رد الفعل. إن كان غريمك جوهرٌ واحد، شرٌ مطلق لا تعدد فيه ولا تفاهم معه فكل ما يبقى لك هو رد الفعل على الشر الآتي حتماً. لكن إن كان السعي الحثيث نحو المصلحة بما في ذلك الهيمنة وضمان النفوذ من طبيعة السياسة على أي حال، فما فيها إذاً سوى الشر؟ وهل يستثني ذلك أحداً؟ لكن العجز عن رؤية تحولات الطرف الآخر ، وفهمه لمصالح قد تتغير، أو قد يراها أطراف أو قوى منه أو فيه بصورٍ مختلفة، يسلبك القدرة على اجتراح وسائل اللعب على هذه التحولات والتناقضات. المشهدُ السياسيُ عادةً درجات متباينة من الرمادية، إن رأيته فقط باللونين الأسود والأبيض فأنت أعمى.
لكن ربما للبعضِ في العجز عن الرؤية راحة، إذ تغيبُ معه القدرةُ على تخيلِ البديل. أن تعرّف نفسك جوهراً، متفوقٌ أخلاقياً دوماً، مضادُ لغيرك قدَرك هو الصراع ، عاجزٌ عن نقد نفسك أو التفاهم مع غيرك، يعني أن ما عندك كله سلبي، ضدي، مناقض، معرّف بكونه عكس غيرك، و من ثم فعلياً ما لديك سياسياً هو اللامشروع بامتياز، أفي الإمكان أبدع مما كان؟ أليس العالم كله متآمرٌ ومتكالبٌ عليك؟ فتكون أقصى أمانيك دفعه بعيداً بغض النظر عن حالك؟ ألا يكون غرض السلطة القائمة الأول هنا وفائدتها الكبرى إن لم تكن الوحيدة هي ردُ “الأغيار” أو “الكفار” أو المتآمرين” أو “القوى الخارجية”؟ كم هو ملائمٌ هذا المنطق لمن يرفض التغيير؟ مثلاً لا حصراً: كم هو مثالي للآتين من للسلطة على ظهر دبابة، أو من تنظيم عقائدي جامد شديد-التراتبية ، الذين لا يعرفون إلا إصدار الأوامر أو تلقيها ولا يفهمون معنى النقاش او الاختلاف، ناهيك عن السياسة؟ أو لمرتدي العمامات أصحاب السلطان مدعي تمثيل المعصومين (عقيدةً) الرسول وخلفاءه من الأئمة؟ الجوهرة تمسح الفردية لتنتهي بحكم فردٍ أوحد يختزل الجميع في نفسه، وهو كالجوهر المزعوم لا يأتيه الباطل ولا تزل له قدم. من الجوهرة للماذاعنية والضدية والردفعلية؛ أي وصفةٍ فعالةٍ للطغيان والفشل المقيم والجمود تلك التي نعيش؟
إقرأوا أيضاً: