“تريد أن ترسل أطفالك الى والدتي، لتنتقم مني؟ سوف يصبحون مثلي! سوف يأتون من هذا البخش الأسود المقيت الذي أتيت أنا منه”. تقول ليدا لزوجها أثناء تعاركهما. هو مشهد من فيلم The Lost Daughter، للمخرجة ماغي جيلينهال المقتبس عن رواية لإيلينا فيرّانتي. ليدا، وهي تمضي عطلتها الصيفيّة، تستعيد ذكرياتها مع بناتها حين كانت على حافة الانهيار، أي أم كانت؟ لم تكن أماً مثاليّة أبداً، إذ إنّها لم تستطع أن تحميهم من نفسها… كيف لنا أن نحمي أطفالنا من أنفسنا؟
بعد وقت يتكشّف لي جانب من الأمومة لا يقتصر على المسؤوليات الحياتيّة، ولا على الحب الذي علينا إظهاره، وإنما باعتبار الأمومة أمراً بدهياً مفروغاً منه… كليشيه الأم وتضحياتها لا يزال يحتلّ وعي المجتمع بأسره، إلى أن تصبحي أمّاً، لتستطيعي رؤية أمّك امرأة لها طباعها ورغباتها وحياتها التي تتأمّل أن تعيشها كما يحلو لها، قبل أن تهدر عمرها على مذبح رعاية الأسرة.
نتحدث نحن الأمهات في صالونات بيوتنا، بعد كأس نبيذ غالباً، كيف أننا نفضّل القيام بأي عمل كان على أن نمضي 24 ساعة متواصلة مع أطفالنا. نقول ذلك ونضحك…
الأطفال طاقة تولد ونحن طاقة آفلة قبل أن تعي ذاتها. البوح هائل، دائماً ما أحاول سؤال نساء يكبرنني عن تجاربهن، معظمهن اعترفن بأن الأولاد جاحدون، فحاولي ألا تضحّي كثيراً… يؤكدن أنه لو عاد بهن الزمن لن يخترن الأمومة، وأن من أفضل تجارب الأمومة أن تنجبي أطفالك باكراً حتى تتفرغي لنفسك وحياتك… كيف تفعلين ذلك من دون تدمير أطفالك؟ أفكّر هل فعلاً معظم الأمهات يعشن حالة إنكار للذات؟ وإلى أي حدّ تتعارض الأمومة مع الذات والأنا، والى أي حدّ تختفي المرأة حين تحضر الأم؟
كيف وصلنا إلى هنا من دون أن تخبرنا أمهاتنا عما حصل لهنّ بسببنا. ماذا حصل بعدما خرجنا من هذا الثقب الأسود وقبل أن يتحولّن إلى أمهات… وهل كان هذا أمراً جيّداً؟ نحتاج أن نعرف منهن شيئاً من الحقيقة…
لا شك في أن هناك أمرآً فطرياً في الالتزام بالدور المفروض عليك كأم، فمهما استقال الرجل من مسؤولياته نادراً ما تفعل الأم ذلك. وتفني حياتها بكاملها خدمة لأطفالها، ثم لزوجها ولأمّها، لوالدة زوجها، ولاحقاً لأحفادها.
إنه تفانٍ لا يفنى حتى تفنى هي…
السيناريو العام يسير على هذا النحو، تشارفين على بلوغ الأربعين، عليك أن ترضي بما هو متاح، فتتزوجين لكي تنجبي وإلا سوف تسببين التعاسة لأهلك، لأبيك وأمك، أتذكّر جملة غريبة “جيبي ولد لبيّك” القصد كان لكي يفرح به أبي.. ولكن الكلمة حملت المعنى كلّه. كما أنك لا تملكين ترف التفكير بالموضوع، كنساء في مجتمعات شرقية نصل متأخرات على كلّ شيء، على السفر واكتشاف العالم، على الحريّة، على الاستقلالية وعلى النضج وإن حدث وامتلكنا رفاهية التروي، فهي قد تنطبق على كلّ شيء إلا على الإنجاب.
شعور عميق ومتواصل بالذنب، واستحالة تحمّل الأعباء والمهمّات اليومية لادارة منزل فيه أطفال يحتلّون ذاتك بكاملها حتى أبسط تفاصيل حياتك، فتختلسين نصف ساعة في الحمام لتنعمي بالهدوء والسلام…
أجد على دفتر يومياتي، أفكاراً عن عملي، خواطر، لائحة طعام، لائحة مشتريات، نواقص للأطفال، مواعيد النوادي والطبيب، كلها تختلط ولا يمكنني أن أركّز على أمر واحد محدد من دون أن أدفع ثمن التقصير بشيء آخر لاحقاً.
متى أصبحت رعاية الأطفال مهمّة منوطة بالأم فقط؟ ما الذي حدث في البناء الاجتماعي حتى أصبح الموضوع بكليّته مرميّاً على كاهل المرأة؟ تخيّلي أنّ كلّ ما سيحدث لطفلك وكل ما سيواجهه في الحياة والمدرسة والشارع ومع الأصدقاء هو مسؤوليتك أنت، أنت وحدك. كيف تقبلين بهذا؟ وكيف يقبل المجتمع بهذا؟
أتذكر، حين خرجت من المستشفى ومعي طفلي حديث الولادة، جلست على السرير وبكيت، ما هذه المسؤولية الرهيبة؟ من أنا لأربي طفلاً؟
ربما نحن أمهات الجيل الجديد، قرأنا كثيراً عن التربية الحديثة ولكن هذا لا يلغي أننا أطفال عنف مستمر وبنات أمهات الحرب…
أي تربية حديثة نطالب أنفسنا بها قبل أن نتعالج وقبل أن يتعالج مجتمع مصاب بالعنف؟
تقول لي أمي، تعرفين أكثر مني وانت مطلعة أكثر، أجل نعرف كل ما علينا فعله ولكن من الأسهل ارتكاب الخطأ ألف مرة من القيام بالصواب. ما يفعله الأولاد بالأم تحديداً يذكّرني برواية لهاروكي موراكامي حين هجم الأطفال على مربيتهم والتهموها.
أعود إلى هذا الفيلم الشيّق “الابنة الضائعة”، وليدا الأم التي أثناء عطلتها على الشاطئ، استفزها فائض الحنان الذي تراه عند أمهات أخريات يغدقن الحنان على أطفالهن، فتغرق في حلقة من الذنب والامتعاض إلى أن نكتشف أن الأمهات “المثاليات”، يملكن أيضاً أحلاماً ورغبات مؤجلة أو مدفونة.
مشاهد الحنان تفتح جراحاً عميقة عاشتها مع طفلتيها، فهي بدورها لم تستطع أن تتحمل ابنتيها حين كانتا صغيرتين. كان لديها طموح أن تصبح كاتبة. فنراها في أحد المشاهد تجلس في البيت لتكتب، وصراخ ابنتيها وطلباتهما المتواصلة تقطع عليها الطريق إلى نفسها. كلّ الأمور التي يفعلها الأطفال في المنزل، حتى أبسطها تأخذ حيزّاً مختلفاً عندما تحصل. أحياناً أكون مثلك يا ليدا أنسى أن ابني عمره 10 سنوات فقط وانه لا يزال طفلاً، ويضيق العالم بي، وليتني أستطيع أن أتذكر نفسي عندما كنت في العاشرة وانتبه كيف كبرت بسرعة، وكيف سكت صوت طفولتي أمام قرارات الكبار، فهزيمتنا في طفولتنا تدفعنا إلى النضج المبكر. أعتقد أن الأمومة هي حنان خالص.
أحياناً كثيرة يبدو الأطفال مخلوقات ناضجة تستفزّ وتجرح ويمكنها أن تؤلم كثيراً إن أرادت.
يؤكد ابني أنه يحبني كثيراً، ثم يستدرك ليشير إلى أنه غير معجب بي لأنني لا أتقن الألعاب الالكترونية ولا أسمع الأغاني التي يحبها. دمّرتني كلماته، على رغم أنه لا يتوقف عن التعبير عن فائض حبه لي طوال اليوم إلا أنّه كان واضحاً في أنّّه غير معجب بشخصيتي، وها قد انتهى نهاري كامرأة تهدر حياتها على أطفالها غير المعجبين بها! أواسي نفسي بأنّ هذا الأمر قد يكون أفضل لاستقلاليته، وأنني نجحت في إرساء القليل من التفكير النقدي لديه، ولكنه مجرّد تخمين…
على رغم أن الأطفال يجلبون سعادة لا شيء يضاهيها في العالم، إلا أنّ الأمومة أحياناً تبعث على الكآبة. فحين أنجبت ابنتي، رأيت نفسي أبتسم كما لم ابتسم من قبل، كانت فرحتي تفوق الوصف، ولم ينشلني من كآبة ما بعد الولادة سوى وجهها، على رغم أنني كنت أنفصل عن عالمي وأشرد طويلاً قبل أن أعي أنها بين ذراعي. كأم أشعر بأن كلّ شيء يؤلمني، لقد أصبح لي ثقبان كبيران في القلب منهما يتسرّب كلّ حب العالم وهشاشته.
إقرأوا أيضاً: