fbpx

ثلاثي “فهمي وشيكو وماجد”… كوميديون مصريون أسرى التدجين و”أخلاق العائلة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سبب الاستياء مما يقدمه الثلاثي الآن، يمكن فهمه حين نعود إلى الأفلام الأربعة التي قدموها معاً، ومسلسل “الرجل العناب “في 2013، الذي استغل الفترة الانتقالية بين كانون الثاني/ يناير و30 حزيران/ يونيو، ليقدم كوميديا شديدة الجرأة متحررة من سقف الرقابة نفسه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حقق الجزء الرابع من مسلسل “اللعبة” من بطولة هشام ماجد وشيكو، نجاحاً كبيراً على مستوى المشاهدات، بينما واصل أحمد فهمي، شريكهم الثالث الذي انفصل عنهما نهائياً، ترنحه في شباك التذاكر بفيلمه الأخير “مستر إكس”، بعد سلسلة من التراجعات المستحقة في أفلام سابقة وفي مسلسلاته الكوميدية.

حفاظ هشام وشيكو على النجاح، لا يعني عدم تراجعهما، ففي النهاية تم تدجين الثلاثة، لصالح السوق وغياب الفكرة الجيدة، نجاح  هشام وشيكو يستفيد من قوة الدفع التي شهدت انطلاقهما كفريق غيرّ من مسار الكوميديا المصرية إلى مستوى غير مسبوق من الجرأة،  مع حفاظهما على الحد الأدنى من الابتكار في الفكرة.

يدور مسلسل “اللعبة” في أجزائه الأربعة حول فكرة ذكية، تتحمل أن تطول إلى أجزاء عدة، إذ ترسل لهما لعبة غامضة تحديات، على بطلي المسلسل أن يخوضاها ضد بعضهما البعض مقابل مكافآت مالية هائلة. يستمد المسلسل قدرته على إثارة الفضول من صعوبة التحديات وعبثيتها أحياناً، هذا كله جيد، أين يكمن “الانحدار” إذاً؟.

إذا ما أخذنا المسلسل نفسه كمعيار،  يمكن القول إن الموسمين الأول والثاني رسما شخصيات متماسكة، ينقذها من الاعتماد في الكوميديا على موضوعة الغباء، لكن الأمر اختلف تماماً في الجزأين الأخيرين، لتتحول كل الشخصيات باستثناء البطلين، هشام وشيكو، إلى شخصيات “غبية” تماماً في تصرفاتها، وتحال الكوميديا بكاملها إلى السذاجة ورد الفعل العصبي من البطل الذكي.

أعلن أبطال العمل عن جزء خامس، وفي حال استمرت المقاربة على حالها، فسنصل إلى نقطة لا عودة في بناء كوميديا مبتكرة، إذ تحولوا من مشروع قادر على المنافسة عبر الاختلاف والذكاء  إلى مُنتج مدجن، يجاري السوق، والمفارقة أن نجاحهم في اختراق هذا السوق من البداية، كان بسبب اختلافهم لا فقط عن كوميديا من سبقوهم، بل من جايلوهم أيضاً.

“رجال لا تعرف المستحيل” في ضيافة أمن الدولة

سبب الاستياء مما يقدمه الثلاثي الآن، يمكن فهمه حين نعود إلى الأفلام الأربعة التي قدموها معاً، ومسلسل “الرجل العناب “في 2013، الذي استغل الفترة الانتقالية بين كانون الثاني/ يناير و30 حزيران/ يونيو، ليقدم كوميديا شديدة الجرأة متحررة من سقف الرقابة نفسه.

لكن لنعد أبعد، قبل نحو 10 سنوات من عرض “الرجل العناب”، كان الثلاثي فهمي وهشام وشيكو ضيوفاً على أمن الدولة، للتحقيق معهم في فيلمهم القصير “رجال لا تعرف المستحيل”، فيلم أنتجوه بجهود ذاتية، وموارد ضعيفة، وبكاميرا فيديو عادية، وبحالة كاملة من الارتجال واللهو الذي لا يهدف إلى أقوال عميقة، بقدر ما يهدف إلى “اللعب البريء”.

الفيلم القصير الذي عرض بداية على جمهور محدود في بعض الكافيهات، بطريقة جنونية وقتها، إذ قدم سخرية مبكرة من فيلم “الطريق إلى إيلات” و”كليشيهاته” عن حب مصر، وتصوير الدولة لبطولات مخابراتها، إضافة إلى سخرية الفيلم من صفوت الشريف، الرجل النافذ في نظام مبارك في حينه.

أفرج أمن الدولة عن صناع فيلم “رجال لا تعرف المستحيل”، بعد تأكده من عدم انتماء أي منهم الى أي تيارات سياسية. وفي الواقع، حمل الفيلم رسائل أبعد من السياسة، إذ كان تعبيراً عن مزاج جيل العالم الافتراضي، الذي يملك رغبة حادة في الانتقام من صناع خياله القديم. 

ساعد هذا الجيل ظهور فضاءات جديدة للتعبير، خارج الإرادة المفروضة بقوة النظام، ولفتت فكرة الفيلم أنظار المنتجين، ليلعب بعدها الثلاثي بطولة أربعة أفلام، عرضت داخل إطار “الفن الرسمي”، ولاقت نجاحاً لافتاً، لكن أيضا بقيت ضمن “السقف المنتقم” من الماضي.

في أفلامهم الأربعة “ورقة شفرة” و”سمير وشهير وبهير” و”بنات العم” و” الحرب العالمية الثالثة”، لم يتخل الثلاثي عن اللهو والارتجال، وعن “الخيال الطازج” في إنتاج الكوميديا التي لا تعترف بخطوط حمراء، بل وتحتفظ بجو “الرخص” الممتع، من دون إغفال جانبي “السبوبة” و”النحت”. والأخيران مصطلحان يعنيان فى مصر تأمين التمويل من طريق أعمال فنية تجارية بغض النظر عن القيم المرجوة من خلال اللعبة الفنية. لكن نجح في حالة الثلاثي أن يتحول إلى نقطة تميز، تتيح لهم الحفاظ على حالة اللعب.

حفاظ هشام وشيكو على النجاح، لا يعني عدم تراجعهما، ففي النهاية تم تدجين الثلاثة، لصالح السوق وغياب الفكرة الجيدة.

الضحك بوجه الأيقونات

كان الثلاثي أكثر تمرداً على الخطوط الحمراء الخاصة بالكوميديا المصرية، وللمرة الأولى تتم السخرية من أيقونات تكرست على مدى  عشرات السنين، كعبد الحليم حافظ الذي غنى في فيلم “سمير وشهير وبهير” الأغنية الشعبية لسعد الصغير “العنب”، كما تجرأوا على السخرية من المطربة فيروز، مستغلين التشابه بين اسمها وبين منتج شراب شعير يحمل الاسم نفسه.

ظهرت أيضاً صورة الأم أيضاً بوصفها ذات ماض منحرف، على عكس تصويرها بمثالية في الأفلام المصرية، بينما قدموا في فيلم “بنات العم”، الأكثر نضجاً، نظرة لا تنحاز  إلى الذكورة أو الأنوثة، بل تقف لتسخر من الاثنين معاً، في موقف تتحول فيه ثلاث بنات إلى ثلاثة رجال، وفي فيلم “الحرب العالمية الثالثة” الذي يعتمد على فكرة مقتبسة من فيلم “ليلة في المتحف”، سخروا من أيقونات تاريخية كمحمد علي الذي رفضت الرقابة أن يظهر باسمه كاملاً، فسمي عم محمد، بل وأم كلثوم ” اللي تمثالها مش بيبيع بجنيه”.

“الرجل العناب”… بطل في هذا الزمان الرديء

جاء مسلسل “الرجل العناب”، البطل الخارق المصري،  ليثبت أنه ما زال لدى الأصدقاء الثلاثة، المتخرجين في كلية الهندسة في جامعة القاهرة، والذين أسسوا أثناء فترة الجامعة فرقة “تمر هندي للإنتاج”، ما يمكن قوله.

بدت لغة الثلاثي وقتها شفرة لا يفهمها سوى الأجيال الجديدة، بينما لا تزال الأجيال الأقدم تفضل كوميديا مألوفة ومتوقعة كتلك التي يقدمها عادل إمام، وممثلو الكوميديا المتفرعون من مدرسته كمحمد هنيدي، ومحمد سعد، بينما يبدو ممثل كأحمد مكي، وهو الأقرب الى ما يقدمه شيكو وماجد وفهمي في “نقطة الانتقام من الماضي”، كمفلس قال كل ما عنده فى هذا الصدد، بل وبدا أن فترة نجاحه أساساً قادمة من إلهام الثلاثي في فترة إنتاجهما المستقل.

في “الرجل العناب”، تخطى الثلاثي فكرة السخرية من الماضي، لتصبح سخرية قوية من الحاضر وما مررنا به خلال المرحلة الانتقالية من خواء لكل التيارات التي تصدت لملء الفراغ السياسي.

 “الرجل العناب” نسخة ساخرة من “كابتن أمريكا” ربما، تم حقنه بمحلول العناب من قبل مخترع سادي ومجنون،  الرمز الذي يعكس تعطش الجماهير ، وعبادتها القوة، وانتظارها مخلصاً قوياً ينقذها من فوضى الحرية التي لا تطيق تحمل عبئها، يتم التلاعب بالرجل العناب (والتلاعب بالجماهير معه)، من قبل الأحزاب والشرطة المصرية ليصبح أداة بيدهم.. 

ظهرت الأحزاب والشرطة  في المسلسل بشكل دوني، ووصف دورها “بالفشل” من خلال شخصية النقيب تيسير فهمي، وهو أقسى نقد وُجه الى الشرطة التي تهربت من مسؤوليتها بعد هزيمتها يوم 28 كانون الثاني/ يناير، بفتحها السجون وتقاعسها عن توفير الأمن عقاباً للمصريين على ثورتهم.

لم ينحز المسلسل إلى أحد، لا الهامش ولا المتن، لا الصواب ولا الخطأ، لم يتخذ مواقف، سوى السخرية من كل المواقف، بما فيها أقدسها عند الثوار والفلول والتيارات المحافظة والإسلاميين، ومن دون أدنى محاولة للتعالي على “الرخص الممتع” فنياً أو محاولة لتجنّبه. فالعمل لم يسع إلى اكتشاف حكمة أو حقيقة ما، بل الإضاءة أكثر على “رخص الواقع”.

 تخطى العمل المقدسات والمكتسبات بعد الثورة، سخر من فكرة المتاجرة بالشهداء من قبل الجميع، ومن المليونيات في مشهد يعيد استنساخ مليونية في “التحرير” انتظاراً لـ”صريح الفيل” (وهو مزيج من الإعلامي توفيق عكاشة ومرتضى منصور) وهو يطير فوق الرجل العناب. 

سخر أيضاً من المتاجرة بالقضية الفلسطينية “ككليشيه” دائم في أحاديث السياسيين وموضوعات الإنشاء، بشكل غير مسبوق في الكوميديا المصرية، بل إن كوميديا ممثلين كهنيدي استغلت القضية بشكل رخيص، للتغطية على ضعف العمل الفني. بينما عصفور أو الرجل العناب يذهب إلى فلسطين ليغني من دون أن يعرف ما الذي يفعله ” الانتفاضة مستمرة حتى تعود إثيوبيا حرة”، لنكتشف في النهاية أن من يرقصون معه هم الإسرائيليون أنفسهم.

بدت الكوميديا في “الرجل العناب” كاسحة ألغام، لا ترتكز إلى موضوع بعينه، إنما تنتهز الفرص عبر ارتجال المشاهد والفوضى للسخرية من كل شيء، بما في ذلك المقدس الديني. فعندما تطلب نتاشا، ابنة الحارة التي تحب عصفور أو “الرجل العناب”، أن يكمل نصف دينه (أي يتزوج) يجيبها: أنه أكمله فقد بدأ بتأدية صلاة الجمعة، أو حتى عندما يسأل أحد الشباب المنتمين للعمل السياسي ما إذا كانت إحدى بطلات العمل تحب “الشيخ إمام” فتجيب” – متحسسنيش بالذنب بقى أنا من رمضان ال فات ماسمعتش قرآن”.

الرجل العناب استطاع أن يستلهم ركاكة المجتمع، ويحولها إلى عمل فني قوي، تستعاد إيفيهاته الآن، ربما بحسرة، ليس على مستوى الثلاثي الذي انحدر، لكن على عودة الكوميديا إلى مربع “أخلاق العائلة”.

من ملعب الحريّة إلى حضن السوق و”أخلاق العائلة”

بعد “الرجل العناب”، العمل الذي بلغ به الثلاثي ذروة مشروعهم، انفصل عنهم أحمد فهمي، رغم النجاحات المستمرة لشيكو وماجد، وتراجع فهمي، إلا أن هذا الانفصال أدى إلى تصدع الرؤية، واتضح أن أحمد فهمي، هو المسؤول عن حالة الكوميديا الجريئة والقاسية التي قدمها الثلاثي، بينما ساهم هشام ماجد وشيكو في إيجاد سياق مبتكر وذكي للقصة السينمائية، الآن يقدم فهمي كوميديا بلا موضوع، بينما يقدم ماجد وشيكو موضوعاً بلا كوميديا ذكية وجريئة، بل كوميديا مدجنة وخائفة.

لا يمكن بالطبع إهمال السياق السياسي لما حصل، فبعد الثورة، كان الفنانون المصريون في لحظة مدهشة، إذ اكتشفوا الحرية للمرة الأولى بعيداً من رقابة “أخلاق العائلة”، فمساحات الحرية التي تتمثل بالسخرية من الإعلام و والشرطة والمخابرات، تلاشت بعد 2014، حين عادت الدولة المصرية  إلى حكمِ رئيس عَسكري مجدداً،  وقررت أنْ تتحكم في مناحي الحياة كلّها، منعاً لتكرار ما حدث في “يناير”. 

استهدفت أشكال التحكم بالإعلام والتلفزيون المسلسلات، وقرّرت الدولة، بالوسائل المختلفة لسيطرتها (مخابرات وأمن وطني ورقابة على المواد المرئية، وشركات إنتاج)، أنْ تتحكم بالسردية المُقدّمة إلى الجمهور بشكل مطلق. مثلاً، لا يُمكن تقديم شخصية ضابط إلا بشكل ملائكي. لا يمكن التعرّض للوضع السياسي الحالي. والأكثر مأساويّة، لا يُمكن ذكر كلمة “ثورة”. 

18.07.2023
زمن القراءة: 7 minutes

سبب الاستياء مما يقدمه الثلاثي الآن، يمكن فهمه حين نعود إلى الأفلام الأربعة التي قدموها معاً، ومسلسل “الرجل العناب “في 2013، الذي استغل الفترة الانتقالية بين كانون الثاني/ يناير و30 حزيران/ يونيو، ليقدم كوميديا شديدة الجرأة متحررة من سقف الرقابة نفسه.

حقق الجزء الرابع من مسلسل “اللعبة” من بطولة هشام ماجد وشيكو، نجاحاً كبيراً على مستوى المشاهدات، بينما واصل أحمد فهمي، شريكهم الثالث الذي انفصل عنهما نهائياً، ترنحه في شباك التذاكر بفيلمه الأخير “مستر إكس”، بعد سلسلة من التراجعات المستحقة في أفلام سابقة وفي مسلسلاته الكوميدية.

حفاظ هشام وشيكو على النجاح، لا يعني عدم تراجعهما، ففي النهاية تم تدجين الثلاثة، لصالح السوق وغياب الفكرة الجيدة، نجاح  هشام وشيكو يستفيد من قوة الدفع التي شهدت انطلاقهما كفريق غيرّ من مسار الكوميديا المصرية إلى مستوى غير مسبوق من الجرأة،  مع حفاظهما على الحد الأدنى من الابتكار في الفكرة.

يدور مسلسل “اللعبة” في أجزائه الأربعة حول فكرة ذكية، تتحمل أن تطول إلى أجزاء عدة، إذ ترسل لهما لعبة غامضة تحديات، على بطلي المسلسل أن يخوضاها ضد بعضهما البعض مقابل مكافآت مالية هائلة. يستمد المسلسل قدرته على إثارة الفضول من صعوبة التحديات وعبثيتها أحياناً، هذا كله جيد، أين يكمن “الانحدار” إذاً؟.

إذا ما أخذنا المسلسل نفسه كمعيار،  يمكن القول إن الموسمين الأول والثاني رسما شخصيات متماسكة، ينقذها من الاعتماد في الكوميديا على موضوعة الغباء، لكن الأمر اختلف تماماً في الجزأين الأخيرين، لتتحول كل الشخصيات باستثناء البطلين، هشام وشيكو، إلى شخصيات “غبية” تماماً في تصرفاتها، وتحال الكوميديا بكاملها إلى السذاجة ورد الفعل العصبي من البطل الذكي.

أعلن أبطال العمل عن جزء خامس، وفي حال استمرت المقاربة على حالها، فسنصل إلى نقطة لا عودة في بناء كوميديا مبتكرة، إذ تحولوا من مشروع قادر على المنافسة عبر الاختلاف والذكاء  إلى مُنتج مدجن، يجاري السوق، والمفارقة أن نجاحهم في اختراق هذا السوق من البداية، كان بسبب اختلافهم لا فقط عن كوميديا من سبقوهم، بل من جايلوهم أيضاً.

“رجال لا تعرف المستحيل” في ضيافة أمن الدولة

سبب الاستياء مما يقدمه الثلاثي الآن، يمكن فهمه حين نعود إلى الأفلام الأربعة التي قدموها معاً، ومسلسل “الرجل العناب “في 2013، الذي استغل الفترة الانتقالية بين كانون الثاني/ يناير و30 حزيران/ يونيو، ليقدم كوميديا شديدة الجرأة متحررة من سقف الرقابة نفسه.

لكن لنعد أبعد، قبل نحو 10 سنوات من عرض “الرجل العناب”، كان الثلاثي فهمي وهشام وشيكو ضيوفاً على أمن الدولة، للتحقيق معهم في فيلمهم القصير “رجال لا تعرف المستحيل”، فيلم أنتجوه بجهود ذاتية، وموارد ضعيفة، وبكاميرا فيديو عادية، وبحالة كاملة من الارتجال واللهو الذي لا يهدف إلى أقوال عميقة، بقدر ما يهدف إلى “اللعب البريء”.

الفيلم القصير الذي عرض بداية على جمهور محدود في بعض الكافيهات، بطريقة جنونية وقتها، إذ قدم سخرية مبكرة من فيلم “الطريق إلى إيلات” و”كليشيهاته” عن حب مصر، وتصوير الدولة لبطولات مخابراتها، إضافة إلى سخرية الفيلم من صفوت الشريف، الرجل النافذ في نظام مبارك في حينه.

أفرج أمن الدولة عن صناع فيلم “رجال لا تعرف المستحيل”، بعد تأكده من عدم انتماء أي منهم الى أي تيارات سياسية. وفي الواقع، حمل الفيلم رسائل أبعد من السياسة، إذ كان تعبيراً عن مزاج جيل العالم الافتراضي، الذي يملك رغبة حادة في الانتقام من صناع خياله القديم. 

ساعد هذا الجيل ظهور فضاءات جديدة للتعبير، خارج الإرادة المفروضة بقوة النظام، ولفتت فكرة الفيلم أنظار المنتجين، ليلعب بعدها الثلاثي بطولة أربعة أفلام، عرضت داخل إطار “الفن الرسمي”، ولاقت نجاحاً لافتاً، لكن أيضا بقيت ضمن “السقف المنتقم” من الماضي.

في أفلامهم الأربعة “ورقة شفرة” و”سمير وشهير وبهير” و”بنات العم” و” الحرب العالمية الثالثة”، لم يتخل الثلاثي عن اللهو والارتجال، وعن “الخيال الطازج” في إنتاج الكوميديا التي لا تعترف بخطوط حمراء، بل وتحتفظ بجو “الرخص” الممتع، من دون إغفال جانبي “السبوبة” و”النحت”. والأخيران مصطلحان يعنيان فى مصر تأمين التمويل من طريق أعمال فنية تجارية بغض النظر عن القيم المرجوة من خلال اللعبة الفنية. لكن نجح في حالة الثلاثي أن يتحول إلى نقطة تميز، تتيح لهم الحفاظ على حالة اللعب.

حفاظ هشام وشيكو على النجاح، لا يعني عدم تراجعهما، ففي النهاية تم تدجين الثلاثة، لصالح السوق وغياب الفكرة الجيدة.

الضحك بوجه الأيقونات

كان الثلاثي أكثر تمرداً على الخطوط الحمراء الخاصة بالكوميديا المصرية، وللمرة الأولى تتم السخرية من أيقونات تكرست على مدى  عشرات السنين، كعبد الحليم حافظ الذي غنى في فيلم “سمير وشهير وبهير” الأغنية الشعبية لسعد الصغير “العنب”، كما تجرأوا على السخرية من المطربة فيروز، مستغلين التشابه بين اسمها وبين منتج شراب شعير يحمل الاسم نفسه.

ظهرت أيضاً صورة الأم أيضاً بوصفها ذات ماض منحرف، على عكس تصويرها بمثالية في الأفلام المصرية، بينما قدموا في فيلم “بنات العم”، الأكثر نضجاً، نظرة لا تنحاز  إلى الذكورة أو الأنوثة، بل تقف لتسخر من الاثنين معاً، في موقف تتحول فيه ثلاث بنات إلى ثلاثة رجال، وفي فيلم “الحرب العالمية الثالثة” الذي يعتمد على فكرة مقتبسة من فيلم “ليلة في المتحف”، سخروا من أيقونات تاريخية كمحمد علي الذي رفضت الرقابة أن يظهر باسمه كاملاً، فسمي عم محمد، بل وأم كلثوم ” اللي تمثالها مش بيبيع بجنيه”.

“الرجل العناب”… بطل في هذا الزمان الرديء

جاء مسلسل “الرجل العناب”، البطل الخارق المصري،  ليثبت أنه ما زال لدى الأصدقاء الثلاثة، المتخرجين في كلية الهندسة في جامعة القاهرة، والذين أسسوا أثناء فترة الجامعة فرقة “تمر هندي للإنتاج”، ما يمكن قوله.

بدت لغة الثلاثي وقتها شفرة لا يفهمها سوى الأجيال الجديدة، بينما لا تزال الأجيال الأقدم تفضل كوميديا مألوفة ومتوقعة كتلك التي يقدمها عادل إمام، وممثلو الكوميديا المتفرعون من مدرسته كمحمد هنيدي، ومحمد سعد، بينما يبدو ممثل كأحمد مكي، وهو الأقرب الى ما يقدمه شيكو وماجد وفهمي في “نقطة الانتقام من الماضي”، كمفلس قال كل ما عنده فى هذا الصدد، بل وبدا أن فترة نجاحه أساساً قادمة من إلهام الثلاثي في فترة إنتاجهما المستقل.

في “الرجل العناب”، تخطى الثلاثي فكرة السخرية من الماضي، لتصبح سخرية قوية من الحاضر وما مررنا به خلال المرحلة الانتقالية من خواء لكل التيارات التي تصدت لملء الفراغ السياسي.

 “الرجل العناب” نسخة ساخرة من “كابتن أمريكا” ربما، تم حقنه بمحلول العناب من قبل مخترع سادي ومجنون،  الرمز الذي يعكس تعطش الجماهير ، وعبادتها القوة، وانتظارها مخلصاً قوياً ينقذها من فوضى الحرية التي لا تطيق تحمل عبئها، يتم التلاعب بالرجل العناب (والتلاعب بالجماهير معه)، من قبل الأحزاب والشرطة المصرية ليصبح أداة بيدهم.. 

ظهرت الأحزاب والشرطة  في المسلسل بشكل دوني، ووصف دورها “بالفشل” من خلال شخصية النقيب تيسير فهمي، وهو أقسى نقد وُجه الى الشرطة التي تهربت من مسؤوليتها بعد هزيمتها يوم 28 كانون الثاني/ يناير، بفتحها السجون وتقاعسها عن توفير الأمن عقاباً للمصريين على ثورتهم.

لم ينحز المسلسل إلى أحد، لا الهامش ولا المتن، لا الصواب ولا الخطأ، لم يتخذ مواقف، سوى السخرية من كل المواقف، بما فيها أقدسها عند الثوار والفلول والتيارات المحافظة والإسلاميين، ومن دون أدنى محاولة للتعالي على “الرخص الممتع” فنياً أو محاولة لتجنّبه. فالعمل لم يسع إلى اكتشاف حكمة أو حقيقة ما، بل الإضاءة أكثر على “رخص الواقع”.

 تخطى العمل المقدسات والمكتسبات بعد الثورة، سخر من فكرة المتاجرة بالشهداء من قبل الجميع، ومن المليونيات في مشهد يعيد استنساخ مليونية في “التحرير” انتظاراً لـ”صريح الفيل” (وهو مزيج من الإعلامي توفيق عكاشة ومرتضى منصور) وهو يطير فوق الرجل العناب. 

سخر أيضاً من المتاجرة بالقضية الفلسطينية “ككليشيه” دائم في أحاديث السياسيين وموضوعات الإنشاء، بشكل غير مسبوق في الكوميديا المصرية، بل إن كوميديا ممثلين كهنيدي استغلت القضية بشكل رخيص، للتغطية على ضعف العمل الفني. بينما عصفور أو الرجل العناب يذهب إلى فلسطين ليغني من دون أن يعرف ما الذي يفعله ” الانتفاضة مستمرة حتى تعود إثيوبيا حرة”، لنكتشف في النهاية أن من يرقصون معه هم الإسرائيليون أنفسهم.

بدت الكوميديا في “الرجل العناب” كاسحة ألغام، لا ترتكز إلى موضوع بعينه، إنما تنتهز الفرص عبر ارتجال المشاهد والفوضى للسخرية من كل شيء، بما في ذلك المقدس الديني. فعندما تطلب نتاشا، ابنة الحارة التي تحب عصفور أو “الرجل العناب”، أن يكمل نصف دينه (أي يتزوج) يجيبها: أنه أكمله فقد بدأ بتأدية صلاة الجمعة، أو حتى عندما يسأل أحد الشباب المنتمين للعمل السياسي ما إذا كانت إحدى بطلات العمل تحب “الشيخ إمام” فتجيب” – متحسسنيش بالذنب بقى أنا من رمضان ال فات ماسمعتش قرآن”.

الرجل العناب استطاع أن يستلهم ركاكة المجتمع، ويحولها إلى عمل فني قوي، تستعاد إيفيهاته الآن، ربما بحسرة، ليس على مستوى الثلاثي الذي انحدر، لكن على عودة الكوميديا إلى مربع “أخلاق العائلة”.

من ملعب الحريّة إلى حضن السوق و”أخلاق العائلة”

بعد “الرجل العناب”، العمل الذي بلغ به الثلاثي ذروة مشروعهم، انفصل عنهم أحمد فهمي، رغم النجاحات المستمرة لشيكو وماجد، وتراجع فهمي، إلا أن هذا الانفصال أدى إلى تصدع الرؤية، واتضح أن أحمد فهمي، هو المسؤول عن حالة الكوميديا الجريئة والقاسية التي قدمها الثلاثي، بينما ساهم هشام ماجد وشيكو في إيجاد سياق مبتكر وذكي للقصة السينمائية، الآن يقدم فهمي كوميديا بلا موضوع، بينما يقدم ماجد وشيكو موضوعاً بلا كوميديا ذكية وجريئة، بل كوميديا مدجنة وخائفة.

لا يمكن بالطبع إهمال السياق السياسي لما حصل، فبعد الثورة، كان الفنانون المصريون في لحظة مدهشة، إذ اكتشفوا الحرية للمرة الأولى بعيداً من رقابة “أخلاق العائلة”، فمساحات الحرية التي تتمثل بالسخرية من الإعلام و والشرطة والمخابرات، تلاشت بعد 2014، حين عادت الدولة المصرية  إلى حكمِ رئيس عَسكري مجدداً،  وقررت أنْ تتحكم في مناحي الحياة كلّها، منعاً لتكرار ما حدث في “يناير”. 

استهدفت أشكال التحكم بالإعلام والتلفزيون المسلسلات، وقرّرت الدولة، بالوسائل المختلفة لسيطرتها (مخابرات وأمن وطني ورقابة على المواد المرئية، وشركات إنتاج)، أنْ تتحكم بالسردية المُقدّمة إلى الجمهور بشكل مطلق. مثلاً، لا يُمكن تقديم شخصية ضابط إلا بشكل ملائكي. لا يمكن التعرّض للوضع السياسي الحالي. والأكثر مأساويّة، لا يُمكن ذكر كلمة “ثورة”. 

18.07.2023
زمن القراءة: 7 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية