يناقش ملف “ثمن” الصورة في غزة، جدوى التصوير تحت القصف، في حرب امتدت أكثر من 200 يوم أمام أعين “العالم”، الذي يشاهد الجسد والعمران الغزيّين يُقتلان من دون أن يحرك ساكناً.
الـ”ثمن” الذي نشير إليه لا يقتصر على البعد المادي/ المالي لإنتاج الصورة، بل يشمل أيضاً المخاطر التي يتعرض لها الصحافيون، وموقفهم من الضحايا والمكان الذي تحوّل إلى “محتوى” يُتبادل في أنحاء العالم، يحرك طلاب الجامعات ويُستخدم كدليل في المحاكم الدولية. مع ذلك، القصف على غزّة لم يتوقف!
لا أحد ينكر أن الصورة الصحافية الفوتوغرافية من غزة، على رغم أنها الأكثر دموية، نجحت تدريجياً خلال 7 شهور من الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع، في كسب رأي عالمي مؤيد للقضية الفلسطينية، عبر النقل الحي والمباشر للصورة في الإعلام الكلاسيكي والجديد من خلال مصوّرين صحافيين يعملون تحت خط النار.
لولا التصوير (فوتو، فيديو) لما وجدنا تسونامي الحراك الجامعي بين طلاب الجامعات الأميركية، للمطالبة بوقف حرب الإبادة على غزة، لكن يواجه أصحاب العمل الصحافي الفوتوغرافي في أرض الميدان مجموعة من المحاذير والانتقادات وسط الحرب والدماء، فهم يعملون بين نارين، أولاً على صعيد إظهار المشهد كما هو واحترام خصوصيته، تحديداً وسط مجتمع محافظ نوعاً ما، وثانياً الالتزام بمعايير العمل الصحافي.
التصوير في حضرة الفقد
منذ بداية الحرب على غزة، لم تنقطع المصورة الصحافية دعاء الباز عن تصوير الأحداث ونقلها أولاً بأول، تقول: “أشعر أني أمام مسؤولية مجتمعية كبيرة، لا أسعى فقط الى تغطية الأحداث والمجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة منذ بداية حربة، ضد الأطفال والنساء والمباني السكنية، بل ومحاربة الرواية الإسرائيلية أيضاً، التي تدعي أنها تقتل غزيين بهدف ما يسمى بمحاربة الإرهاب، فيجب على العالم الخارجي أن يرى الحقيقة بعيون أصحابها، لذلك أرى أن عدسة الكاميرا والصورة أهم الأدوات”.
تشير دعاء إلى أن المصور/ة الصحافي/ة يقع بين نارين تتمثل في نقل صورة المعاناة بوجهها الحقيقي كما هي للعالم الخارجي، وفي الوقت ذاته يجب عليه مراعاة خصوصية المجتمع الغزي المحافظ، عند تغطية أحداث تتعلق بصور الأشلاء والمصابين وانتشال أجساد النساء من تحت الركام، فالكثير من الغزيين يرفضون تصوير نسائهم، بذلك تتوقف العدسة عن الالتقاط احتراماً للخصوصية.
تضيف دعاء: “أحياناً، أذهب لتصوير أفراد ناجين من القصف بأعجوبة لم يتبقّ سوى فرد واحد من العائلة، وعندما أقف أمام المشهد أعجز عن التصوير وأتردد ألف مرة. أقف عاجزة في حضرة الفقد والألم، وهذا تكرر معي كثيراً، كذلك صراخ النساء عند وداع أحبتهن وخروج عائلات من تحت الركام”.
تذكر دعاء أنها في بعض المرات ذهبت لتصوير مشهد منزل دمره القصف الإسرائيليّ، فوجدت سيدة تبكي هاربة من دون حجاب، توقفت عن العمل وانشغلت في منحها حجاباً لتغطي شعرها، وهذا ما يجعلها تتساءل دائماً، ما الأهم: تغطية الحدث أو القيام بدور إنساني؟
“إنتو جايين تشحدوا علينا”… كثيراً ما تُصدم دعاء بهذه العبارة الصادرة من الناس بغزة في الميدان، وتوضح: “الحرب شكّلت صورة ذهنية عن موضوع التصوير، وهذا اللغط ربما كوّنته وسائل التواصل الاجتماعي، فالجميع يمتلك هواتف نقالة وكاميرات، يتسابقون لنقل الحدث وتداوله بسرعة كبيرة، من دون أي معايير وأخلاقيات، لخلق ترند وكأنه ماراثون لتصوير معاناة النزوح والظروف الإنسانية الصعبة للنازحين”، منتقدة بذلك التصوير والنشر عبر منصات التواصل الاجتماعي من دون مهنية.
الحرب تغيّر قواعد التقاط الصورة
لعلّ المتابع للمشهد الإعلامي الغزي يرى أن المصورين غيروا قواعد الصورة، وتجاوزا الالتزام بالقيود، مجبرين غير مخيرين. المصور الصحافي ياسر (رفض الكشف عن اسمه كاملاً)، لا يفكّر أثناء تغطية الحروب كثيراً في ضوابط التقاط الصورة المسموح والغير مسموح بها، تحديداً بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فهذه الحرب تختلف عن سابقاتها، وليس بإمكان عدسة المصور الصحافي الامتناع عن تصوير مشاهد المجازر المرتكبة ضد أبناء شعبه.
يوضح ياسر بقوله: “في الحروب السابقة، كانت تتزاحم معنا عدسات المصورين الأجانب، لكن في الحرب الحالية نحن أمام مسؤولية تغطية الأحداث ونقل رسالتنا الى العالم الخارجي بأسلوب مهني وأخلاقي من منظورنا كأبناء شعب نعيش تحت الإبادة، لنصرة روايتنا الفلسطينية”.
يصور ياسر أشلاء الأطفال، والجثث، الضحايا من تحت الركام، النساء المكلومة، وداع الشهداء، وأحلام الناس التي دمرتها الطائرات، والعروس التي فقدت عريسها وكانت تحلم أن تُزف له بفرح كبير، مبيناً أنه يرى نفسه ملتزماً بنسبة 70 في المئة بالمعايير العامة للصورة الصحافية.
يعترف ياسر بمواجهة انتقادات، فبعض العائلات يرفضون تصويرهم حفاظاً على خصوصيتهم وعدم ثقتهم بالإعلام لربما، فهم يرون أن العالم يشاهدهم في حالة صمت مريبة ولا يحرك ساكناً، وبالنسبة إليهم لا فائدة من تصوير معاناتهم وموتهم. لكن أحياناً، يرى ياسر نفسه مجبراً على توثيق الحدث بالصورة، ما يدفعه الى إقناع أصحاب القصة بضرورة تصوير بشاعة الحرب لنصرة قضيتهم الإنسانية وليس فقط تصوير مشاهد الدمار والقصف والتفجيرات.
إقرأوا أيضاً:
انتقادات للصورة الصحافية.. من يحسم الجدل؟
المصوّر الصحافي عبد زقوت، يؤكد أن “الصورة” أو “اللغة البصرية” في الحرب على غزة، بمثابة البطل بالميدان، بغض النظر عن الجدل المصاحب للصورة، فضلاً عن لعبها دوراً محورياً في رسم وتشكيل نظرة شعوب المنطقة والعالم الى الحرب الدائرة، بالإضافة الى كشف “الصورة” عن إشكالات وتناقضات عدة تطغى على تعامل بعض الأطراف الغربية مع الأزمة الراهنة والقضية الفلسطينية ككل.
يقول زقوت: “لولا أهمية عملنا كمصورين وتشكيل رأي عالمي مغاير لإسرائيل، لما وجدنا الاحتلال يفصل الإنترنت لعدم إيصال الصورة الى العالم، بخاصة الغربي. نحن نصور واقعاً ولا نجمّل، فالواقع عبارة عن تدمير ومجازر، وإبادة حقيقية لشعب مدني. همّ المصور الأول والأخير أثناء تغطية الحروب هو نقل الحدث، وحتى إن لم يلتزم بالمعايير بشكل غير مقصود، فالأولية بالنسبة إليه للتصوير”.
حول الانتقادات التي تواجه عملهم كمصورين صحافيين تجاه الصورة، يشير زقوت إلى أن الحرب شكلت حالة من اليأس لدى الناس بمدى تأثير الصورة التي تخرج من غزة في ظل الصمت الدولي الرهيب وما يتم تصديره من مشاهد تدمي لها القلوب، لذا كانت الفكرة السائدة لدى العامة أن الصحافي هو المستفيد فقط من هذه الصور جراء تلقّيه الأجر المادي.
يختم زقوت حديثه قائلاً: “ما لا شك فيه أن اليأس الذي أصاب العامة أصابنا نحن من نلتقط الصورة من غزة ونصدرها”.
وضعت شبكة الصحافيين الدوليين مجموعة من الإرشادات المحددة لضبط العمل الصحافي للمصورين والإعلاميين أثناء التغطية الصحافية في الحروب، ونصحت بضرورة التركيز على تصوير الحدث الذي يتعلق بضحايا الحروب من دون المساس بكرامتهم.
وفي ما يتعلق بأهم الإرشادات التي وضعتها، تصوير جزء من جسد شخص متوفى، مثل يد أو قدم، أو تصوير ملابس ملطخة بالدماء، وحتى ألعاب أو أحذية أطفال، بالإضافة إلى التركيز على المكان الذي وقعت فيه الحادثة بشكل عام، على سبيل المثال تصوير صور لحائط يحمل طبعة ليد ملطخة بالدم، وغيرها من الرموز التي تساعد في نقل المشهد بفظاعته.
التغطية الصحافيّة في عصر السوشيال ميديا
في عصر التطور الرقمي، أصبح من السهل والأسرع نقل الصور ومقاطع الفيديو التي تصور المجازر الإسرائيلية بغزة، ونقلها عبر العالم، عبر مصورين صحافيين وناشطي مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنهم في ماراثون، ما يتطلب مزيداً من الالتزام والضوابط الأخلاقية.
يعلق د. فريد أبو ضهير، محاضر في قسم الصحافة المكتوبة والإلكترونية بجامعة النجاح بفلسطين، حول السياق ذاته، بأن المعايير الأخلاقية التي وُضعت ودرّسناها للطلاب في الجامعات كمساقات، هي معايير وضعت للغرب الذي يعيش حالة استقرار ورخاء اقتصادي واحترام لحقوق الإنسان، ولا توجد دراسات نقدية لهذه المعايير. وبالتالي، بالنسبة إليهم، بإمكان مشاهد الجثث والأشلاء والمجازر أن تخدش مشاعر الانسان، هذا الكلام منطقي جداً.
يقول أبو ضهير في معرض حديثه: ” لو نظرنا إلى هذا الأمر بجدية، نلاحظ أنه لا يطبق على كل المجتمعات، فلكل مجتمع خصوصية تبعاً للأحداث، لا سيما قطاع غزة، الذي يمر بإبادة بمعناها الحقيقي وليس المجازي، حيث للعمل الصحافي والتصوير خصوصاً معايير خاصة.
يتابع أبو ضهير: “في بداية الحرب على غزة، كان هناك تشكيك في الرواية الفلسطينية من الإعلام الغربي المؤيد لإسرائيل، والذي ينفي وجود شعب يُقتل ويدمر، ولا يثق بالإعلام الذي يخرج من غزة تحت حكم حركة حماس”.
ويرى أن المصوّر الصحافي والإعلامي مضطر لنقل المشاهد كما هي سواء كان بشكل مقصود أو غير مقصود، لكنه في النهاية يريد توثيق المشهد كما هو من دون “رمسنة” وإثبات صدق روايته ونفي الرواية الإسرائيلية المزيّفة.
ويؤكد أن الصورة الصحافية التي تخرج من غزة أحدثت تأثيراً حول العالم، وقلبت الموازين في تأييد المجتمع الغزي ومناهضة الحرب الإسرائيلية على القطاع.
يشير أبو ضهير أنه في بداية الحرب على غزة، ظنت وسائل إعلام أميركية وغربية متحالفة مع إسرائيل، أنها تستطيع أن تتحكم بما يبث لجمهورها، لكنهم ربما أدركوا بعد ذلك أن هنالك وسائل تواصل اجتماعي، وصور توثق الحدث وتنقل الصورة بأسرع ما يكون، وتشكيل رأي عام عالمي مع القضية الفلسطينية تحت وطأة الصورة.
وذكر في مثال، أن قناة “سي إن إن” الأميركية بعد 6 شهور من الحرب على غزة، غيرت خلفية استوديو الأخبار لديها بصورة سوداء لضحايا قطاع غزة، فيما لم تبثّ كلمة جنوب أفريقيا في اليوم الأول من محكمة العدل الدولية، وبثّت كلمة المحامي الإسرائيلي في اليوم الثاني.
لا ينكر أبو ضهير بكل الأحوال، الدور الكبير الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في نقل الصور ونشرها للعالم ككل، وإحداث ثورات وحراكات شعبية، مثلما حدث ويحدث في ثورات الجامعات الأميركية، وثورات الربيع العربي قبل سنوات.