طرح مواطن فلسطيني غزّيّ، سؤالاً وفير المعاني والمجازات، ترافق مع نصيحة إلى مصور صحافي، مفادها أن يتوقف عما يقوم به، ويعود إلى أحضان عائلته: “الدول والناس اللي بتصوروا لهم في حد بشوفنا يا خال؟”، “ولا بتصوروا لحالكم؟ ولا إيش قصتكم؟”، “خطيتكم في رقبتي روحوا عند ولادكم”.
السؤال السابق ما زال صالحاً بعد أكثر من 200 يوم على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة، أكثر من 6 أشهر، وما زال الغزيون من صحافيين ومواطنين وصناع محتوى، يعملون على مناجاة العالم وبث حزنهم وفقدهم أحبابهم وبيوتهم وتجويعهم وإبادتهم وتهجيرهم، على حساباتهم في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.
عدسات هواتف الغزيين أضحت أداة توثق كيف انتهكت الصواريخ الإسرئيليّة الفضاء الأشد حميمية (الجسد) وحزينه الخاص (المنزل) فاتحةً إياه نحو الأشد عمومية (الشارع)، القصف الإسرائيلي نفى مكان الاستكانة وأطلقه علناً على العموميّ، حيث لا حدّ فاصل بينهما إلا الجثث والذكريات.
كل ما سبق يبثّ مباشرة ويوثق أمام “العالم”، ليصبح موت الغزيين وحدادهم محتوى رقمياً، أما الناجون الأحياء، فيطلقون نداءات باحثين عن ضمير حي وإنساني يخرجهم من المقبرة ويوقف سفك الدماء، فلم تعد للموت حُرمة، والحداد معلّق إلى حين انتشال الجثث من تحت الأنقاض.
غير آبهين بما يسمى “أخلاقيات ومحددات النشر” وما ينتجه منظرو الإعلام من ضرورة الحفاظ على الخصوصية، وصل الغزيون في بث موتهم إلى “ما بعد الرعب”، كرامة الجسد الإنسانيّ، على شدة انتهاكها بالصور، لابد من بثها، لا لأجل الإنسانيّة، بل لأجل أولئك الباحثين عمن فقدوه، ففي صورة الجسد المُدمّى إنهاء للحداد، ويقين بأن الميت ميت، لا مختف بانتظار انتشاله.
النجدة الرقميّة
حلت مواقع التواصل الاجتماعي بدل الفضاء العام كسلطة أمر واقع منذ بداية الربيع العربي، وعلى رغم الاختلاف الكبير بين الاثنين، الأول تحكمه شركة ذات سياسة خصوصيّة، والآخر تضمن الدولة فيه حرية التعبير، ناهيك بأن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت قوّة اقتصادية لا يمكن إنكارها، قوّة أوكلت “للعاطفة” مركزية اتخاذ قرار النشر أو التفاعل، وبات المحتوى مجبولاً بما هو مستفز، وما يغذّي اقتصاد الانتباه وزخم “التريند”.
ضمن السياق السابق، تأخذ المناجاة والنجدة الرقمية المتواصلة التي يبعث بها الفلسطينيون الى “العالم العربي والإسلامي وأحرار العالم”، شكلاً من المحتوى الاستفهامي – الاستنكاري، عبر تكرار الأسئلة الوجودية “وين الناس؟ وين العالم؟ في حد شايفنا؟”.
النداء السابق الموجه الى “العالم” بوصفه كياناً واعياً، يستجيب إن ناداه أحد، نداء يبحث عن عقول صاغية لا عيون دامعة، لكن، ربما “العالم” نفسه في عصر التواصل الاجتماعي يمتلك “عالميّة” وهمية، مصطنعة إن صح التعبير، وربما مواصلة مشاهدة إراقة دماء الفلسطينيين في غزة، قد تكون دافعاً للخروج من العاطفية والاشتباك مع واقعية العالم لترميم إنسانيته (وهذا ما حصل)، لكن ألم يحدث الأمر ذاته في سوريا ولم يتغير شيء؟
“الأثر” و”الحراك” على الأرض، يتحققان بعدم الانصياع إلى الاستفزازات الرقمية، ومواصلة التفاعل داخل النطاق الافتراضي، وتحويله إلى حراك واقعي يعيد الى الفاعلية السياسيّة جدواها، وهذا ما شاهدناه في الجامعات الأميركيّة، إذ تحول حرم جامعة كولومبيا إلى مساحة للتخييم والاعتصام، الزخم الرقمي تحوّل إلى فعل على أرض الواقع، لكن المقتلة مستمرّة. لنبقَ أمام سؤال سياسي بعيد من المقتلة، مفاده، ما هو شكل الاشتباك مع السلطة/ الوضع القائم اللازم القيام به كي تتحول الرغبة الشعبية إلى فعل سياسي، سواء كنا في ديمقراطية كأميركا أو ديكتاتورية كمصر؟
نافل القول، إنه من المهم عدم تداول “محتوى الاشتباك” لتعزيز الديمقراطية كحالة جامعة كولومبيا، أو لنهش ديكتاتورية الأنظمة العربية كحالة مصر، بوصفه مقابلاً للثمن يوازي “محتوى الموت”، ولم يكن للغزيين أن يبادروا ويبثوا ذلك، لتتعزز ديمقراطية أميركا أو ليخفّ بريق الديكتاتورية في مصر!
“الدول والناس اللي بتصوروا لهم في حد بشوفنا يا خال؟”، “ولا بتصوروا لحالكم؟ ولا إيش قصتكم؟”، “خطيتكم في رقبتي روحوا عند ولادكم”.
جدوى تغطية المقتلة
مخاطرة وكلفة التغطية الإعلامية لجرائم إسرائيل في غزة، والتي يتكبدها صحافيو غزة ومواطنوها باستخدام التكنولوجيا الرقمية، تنبع من جوهر وجودهم، المتمثل برفض الموت من دون ضجيج، عبر مواصلة “طرق جدران الخزان” و “إقامة الحجة”، أو كما يقول مُريد البرغوثي، “تشاغل دافينك هنيهةً لتصيح: حرية”.
لكن هذه الجدوى غير آنيّة، بصورة ما، سرعة نقل المقتلة بالبث الحي والمباشر لم تحرك القرار السياسيّ، وهذا ما دفع الكثير من صحافيي غزة الى مغادرتها أو التوقف عن العمل، ولم يتحرك “العالم” إلا بعد المقتلة، كما حصل مع “مجزرة الطحين”، لكنه تحرك ليدين، لا ليحدّ ماكينة القتل.
السيل الجارف من “محتوى الموت” المنتج في غزة، يقابل باستمالة المشاعر ويضيع حياناً بين المحتوى المنثور في محيط العالم الافتراضي، يصل إليه المتلقون عبر الانتقال الخطي من تدوينة مفيدة إلى تدوينة طريفة إلى فيديو محزن إلى تدوينة تجارية من دون أي منطق واضح، ناهيك بسياسات هذه المنصات نفسها، التي تكبح المحتوى المرتبط بغزّة وتقننه، سواء لقسوته أو لأسباب سياسيّة، ما يعني أن “العالميّة” التي تعد بها هذه المنصات، تكتسب بعداً “محلياً”، وإذ يقنن انتشار “حكاية” على حساب أخرى، لا حرصاً على كرامة الجسد الميت، بل محاولة لمصادرة الفاعلية السياسيّة.
هذه بالضبط أزمة وسائل التواصل الاجتماعي، هي “تُشظّي” التجربة الإنسانيّة إلى فئات و”قطع” شديدة الصغر أحياناً حد ضياع المعنى، وهنا بالضبط يظهر أثر الجدوى، ما هو الحدّ أو الشكل الكافي لخلق مادة بصرية قادرة على ترك أثر، هل تكفي الصور والريلات لاتخاذ قرار سياسي؟
الأسئلة السابقة تكشف إشكالية الإنفلونسر الصحافي، وعلى رغم كل الجهود التي قدمها الصحافيون- الإنفلونسرز في غزّة، يبقى السؤال، هل التهديد التام بالموت ومعايشته بشكل شخصي وبثّه بشكل مباشر قادر على التغيير؟ أو على الأقل، الحدّ من الموت؟
سؤال جدوى التغطية يُضمر دعوةً ورسالة عتاب، خصوصاً أن الغزيّ، في وضعية “الإنسان العاري” حسب تعبير جورجيو أغمبين، يوثق لحظات الجوع واللجوء والموت التي مر ويمر بها، ويبثها مباشرةً عبر اتصاله بالعالم الرقمي. ومع ذلك، لم يُبادله “العالم” بمقابلٍ يعادل ثمن المعاناة وتحويلها إلى محتوى يجوب عالم الاتصال الرقمي. صحيح أن هذه الصور حركت الفاعلين الآخرين حول “العالم” خصوصاً طلاب الجامعات، لكن الطائرات لم تتوقف عن قصف الغزيين.
إقرأوا أيضاً: