fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

ثورات ضد الأنبياء المزيفين… جيل آخر من الانتفاضات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إلى أين يمكن أن يصل غضب المحتجين في العراق ولبنان؟ هذا السؤال جاهدت صحف ومراكز بحث غربية في البحث عن إجابات له بعد صمود شباب البلدين وثباتهم في الساحات والشوارع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إلى أين يمكن أن يصل غضب المحتجين في العراق ولبنان؟ هذا السؤال جاهدت صحف ومراكز بحث غربية مهمة في البحث عن إجابات له بعد صمود شباب البلدين وثباتهم في الساحات والشوارع، مرددين شعارات تغيير النظام السياسي الذي ترعاه وتحميه إيران، عبر أدواتها الميليشياوية والسياسية؟

قد يكون ثمة تشابه بين هذه الموجة من الثورات وتلك التي اجتاحت دولاً عربية عدة، وعرفت قبل نحو عقد من الزمن باسم الربيع العربي، إلا أنها هذه المرة تبدو أكثر وعياً وإصراراً وتحدياً للنخب الحاكمة، وفي سعي لا ينضب نحو تغييرها، من دون أن تكترث لفائض القوة والترهيب من جانب حاملي الرايات والسلاح، والذين سماهم وزير الدفاع العراقي “الطرف الثالث”!

الشعار المرفوع الذي يوحد البلدين باعتراف الميديا الغربية واضح وهو نبذ كل الطغمة السياسية وشطبها من العملية السياسية، ودفع شخصيات جديدة نظيفة ومؤهلة وقادرة، لديها رؤى وأفكار لبناء دولة حديثة وقوية ترسم مستقبلاً واعداً، لجيل جديد يريد قطع صلاته بالإسلام السياسي والتفرقة المذهبية والعرقية، ففي لبنان لم يتوقف المحتجون من جيل الهاتف الذكي و”الأيباد” وشبكات التواصل الاجتماعي عن ترداد “كلن يعني كلن، ما بدنا حد منكن”، فيما يصرخ العراقيون “شلع… قلع… كلهم حرامية”.

في مجلة “نيو ستيتسمان” البريطانية، قال المحلل جون جيكنيز أن الموجة الحالية من الثورات في العالم العربي تبدو عصية على الانكسار، وربما تشكل نهاية للأنبياء المزيفين الذين سئمهم الجميع. وأضاف: “بواعث هذه الثورات هي بواعث تلك الثورات ذاتها التي اندلعت في 2011”.

يكاد يتفق المحللون والمعلقون السياسيون الغربيون على أن الفاعلين في هذه الثورات في غالبيتهم هم أناس عاديون ليست لديهم خلفية سياسية بالمعنى المباشر، خرجوا للتعبير عن مطالبهم، بعدما فقدوا الثقة بالنخب السياسية سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة، أي أنهم جاءوا من الهامش السياسي إلى المركز الذي تجاهلهم وأذلهم وهمشهم حتى ثاروا ضده وعليه”.

احتجاجات ضد الدولة العميقة

تشير الدراسات الاستقصائية التي أجراها موقع “البارومتر العربي” إلى أن العوامل التي ساهمت في تنامي السخط الشعبي الحالي هي نفسها التي فجرت ثورات 2011، وتتمثل في تفشي الفساد في أوساط الأحزاب الحاكمة والمعارضة، وممارسة الحكومات القمع المفرط، وانعدام فرص العمل للشباب وتردي الأوضاع البيئية”. يقول جيكنيز: “إن الشباب الذين باتوا يمثلون الأغلبية الساحقة من الجيل الثاني من المتظاهرين يحتجون ضد دولة عميقة تلبس قناعاً ديموقراطياً، ففي العراق ولبنان نجح الشباب في تخطي حواجز الطائفية وتوحدوا وطنياً، ما يعكس تجنبهم مصيدة الانقسامات الطائفية التي نصبتها طيلة سنوات طويلة السلطات الحاكمة”.

الاختلافات بين ثورات 2019 وثورات 2011 رصدها كثر من المحللين، في تقارير مكرسة للثورات الجديدة التي وصفها بعضهم بموجة ربيع عربي جديدة، إلا أن تقريراً صادراً عن مركز “كارنيغي” الأميركي، وجد أن أبرز هذه الاختلافات يكمن في أنه في الأولى كانت أسعار النفط في ذروتها، وكانت الاقتصادات تشهد وتيرة أسرع في النمو منذ عقود، فيما الأوضاع الاقتصادية باتت الآن أصعب بكثير. وذلك بسبب انهيار أسعار النفط وتراجعها عالمياً في 2014، وفي ظل ارتفاع معدل الدين العام والبطالة، إذ لم يعد في متناول الأنظمة الحاكمة سوى موارد قليلة لتمويل شبكاتها الزبائنية”. وأوضح كاتب التقرير إسحاق ديوان الأستاذ في جامعة باريس للعلوم، والأستاذ في المدرسة العليا للأساتذة (Ecole Normale Superieure) أن “الموجة الثانية من الاحتجاجات استقت الدروس والعبر من الموجة الأولى، فالمتظاهرون لم يعودوا قانعين بإطاحة الحكام السلطويين الطاعنين في السن، بل باتوا يستهدفون هياكل الدولة العميقة، لكنهم يحرصون في الوقت نفسه على تفادي الانقسامات على أسس الهوية الدينية أو الطائفية، ويطالبون بانتخابات جديدة، وفق أصول وقواعد جديدة”.

الدول الأربع التي بقيت خارج نطاق الربيع العربي الأول وهي الجزائر والسودان والعراق ولبنان تنتفض الآن، في ما يبدو موسماً جديداً من السخط انطلق بوسائل سلمية. ورأى تقرير ثان لمعهد “كارنيغي” أن هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات مصدرها الاستياء الاجتماعي الذي يتنامى منذ سنوات من تفشي الفساد والبطالة والنظام السياسي المتعفن. وذكرت مراسلة صحيفة “نيويورك تايمز” في طهران في مقال كتبته عن العراق وإيران أنها “خلال 25 سنة من تغطيتها الأحداث لم تشهد مثل هذه الجرأة والاتساع والسخط والغضب، وأفادت بأن نظام طهران يبدو خائفاً مما يحصل في العراق ولبنان من ثورات ضد إيران ودورها في تقويض سيادة واستقلال البلدين، ودعمها ميليشيات تصادر وظيفة الدولة والحكم وتقويضها للمؤسسات والتنمية الحقيقية”.

“الموجة الثانية من الاحتجاجات استقت الدروس والعبر من الموجة الأولى، فالمتظاهرون لم يعودوا قانعين بإطاحة الحكام السلطويين الطاعنين في السن، بل باتوا يستهدفون هياكل الدولة العميقة

ظلت المؤسسة الحاكمة في إيران بحسب “نيويورك تايمز”، تعبر عن سخطها من الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية باعتبارها التهديد الأعظم، مستدركة الإشارة الى أن قادتها (آيات الله) أخذوا لا يخفون قلقهم عن مصدرين جديدين للتهديد والخطر هما لبنان والعراق”. وأشارات إلى أن “ما يميز الاحتجاجات في لبنان والعراق هو أنها تنطوي على شكل من أشكال العداء لإيران ما يعرض مصالحها لخطر جدي”. وبحسب الباحث جوزيف ياهود فإن إيران تنظر إلى هذه الاحتجاجات باعتبارها تهديداً وجودياً، منبهاً إلى أن “إيران تمتلك أوراقاً كثيرة ستلقيها قبل أن تلجأ إلى العنف المفرط لسحق احتجاجات لبنان والعراق”.

ما العقبات التي تعترض تطلعات ثورتي لبنان والعراق؟ وماذا يقول التاريخ عن مآلاتهما؟

هذه المسألة طرحها وناقشها الخبيران الفرنسيان في شؤون الشرق الاوسط آلان غريش وجان بيير سيرني في مقال مشترك لهما في موقع (اوريان 21) قالا فيه إن “أوهام الدول الغربية باستقرار الشرق الأوسط بعد هزات الربيع العربي قبل عقد من الزمن، بددتها الآن نيران الثورات التي اشتعلت أولاً في السودان وأطاحت بنظام دموي دام 30 سنة، وموجة الاحتجاجات العارمة في الجزائر التي تتواصل منذ 40 أسبوعاً وما زالت. والآن ينتفض الشعب العراقي ضد النظام الذي صنعته واشنطن عام 2003، وأصبح يتهم بالخضوع لإيران التي أغرقته بالطائفية والفساد. كما خرج اللبنانيون إلى الشوارع بالدوافع نفسها، مطالبين بأن يرحل أقطاب الطبقة السياسية (كلن يعني كلن). وأشار إلى أن “دوافع الشباب المنتفض تتلخص في خضوع هذه المجتمعات لحكومات استبدادية تتستر بالديموقراطية، إضافة إلى معاناة اجتماعية وظلم لا يطاق”.

نخب الفوضى العارمة

يحذر التقرير من مخاطر الإبقاء على النخب السياسية الحالية، وينبه إلى أن هذا ليس إلا وصفة جاهزة لانتشار فوضى عارمة، ستستفيد منها التنظيمات المتطرفة أو أي حركة لم تظهر بعد للوجود. ووفقاً للباحثين إن “الطريق الذي سيتحتم المرور فيه لتحقيق التغيير، وهو تغيير سيكون أكثر وعورة وازدحاماً بالعقبات، لأن طريق يستند إلى ثقافة سياسية تعددية وتنمية اقتصادية وطنية، إضافة إلى قطيعة مع الماضي والتأريخ”.

في تحليل نشرته وكالة “بلومبرغ”، قال المحلل تيلر كوين “يبدو العالم اليوم الآن محاصراً بالاحتجاجات بشكل متزايد، فمع دخول الربع الأخير من عام 2019 اندلعت ثورات السودان والجزائر ولبنان والعراق ودول كثيرة اخرى في العالم”. ورأى أن “الإنترنت ومجموعة من الشبكات الاجتماعية جعلت من الممكن تعبئة الأشخاص لتنظيم الاحتجاجات”. وأشار إلى أن “المنخرطين في الاحتجاجات يتميزون من خلال الانترنت بانعدام الايديولوجية بالمعنى التقليدي للايديولوجيات”، مؤكداً أن “الإنترنت يشجع على تنظيم أكبر الاحتجاجات الممكنة، ولهذا أول ما تقوم به الأنظمة هو قطع صلة الشعب بالانترنت كما حصل في العراق ولبنان”.

“ما يميز الاحتجاجات في لبنان والعراق هو أنها تنطوي على شكل من أشكال العداء لإيران ما يعرض مصالحها لخطر جدي”.

وصل مؤشر الفساد في العراق إلى مستوى مخجل فهو يضع العراق في المركز 168 من أصل 180 على لائحة أكثر الدول فساداً، بحسب “منظمة الشفافية الدولية”، فيما وصلت نسبة البطالة إلى 25 في المئة، فيما يعيش أكثر من 40 في المئة من السكان على خط الفقر، بحسب تقارير البنك الدولي. أما في لبنان فمؤشر الفساد وصل إلى المرتبة 138 من أصل من 180 بحسب الفرع الوطني لـ”منظمة الشفافية الدولية”. ورأت مجلة “أتلانتي الأميركية”، أن ثمة قاسماً مشتركاً يوحد الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان وهو أنها بلا قيادة”. واستشهدت المجلة بحكمة اشتهر بها الفيلسوف الصيني القديم لاو تزو مفادها أن “القائد الأفضل هو الذي بالكاد يعرف الناس أنه موجود، وعند القيام بعمله يكون هدفه الوفاء، فيقول الجميع فعلنا ذلك بأنفسنا”. تقول المجلة إن “المحتجين لجأوا الى وسائل التواصل الاجتماعي لاستثارة تظاهرات شعبية عفوية وسلمية الطابع ضد حكومات بلدانهم، وتعاهدوا على مواصلتها حتى تلبي مطالبهم”. وتساءلت: “هل افتقار الاحتجاجات لقيادة مركزية نقطة ضعف أم قوة؟”. ونقلت عن عالم الاجتماع باولوالا غيرباودو، أن “تظاهرات اليوم التي تنعدم فيها القيادة تعيد الأذهان إلى الاحتجاجات الشعبية التي اشتعلت قبل زهاء 10 سنوات مثل “احتلوا وول ستريت”، وهي حركة شعبية فجرت سلسلة من الغضب ضد النخبة السياسية والمالية عام 2011 في واشنطن”. وقال إن “تلك الحركات لا تجتذب فئات بعينها، بل تروق لشرائح المجتمع كافة التي تشعر بأنها خدعت من قبل الطبقة السياسية”. ونقلت المجلة عن المدير التنفيذي لمجموعة “اندبندنت ديبلومات” الاستشارية كارني روس، أن “تحديد قيادات للاحتجاجات ربما يكون قراراً سلبياً، لأنه يجعل من السهل على الحكومات التركيز عليهم والتقاطهم واعتقالهم وقتلهم، وتشويه سمعتهم”، منبهاً في الوقت نفسه إلى أن “الحركات التي لا قيادة لها عرضة لخطر احتمال أن تستخدم قلة من المحتجين أساليب لا تقرها الغالبية. كما أن الافتقار لقيادات ربما يفاقم التوترات ويؤجج العنف لعدم وجود من يوجه المتظاهرين إلى كيفية مواجهة السلطات العميقة”.

أما صحيفة “واشنطن بوست” فاستنتجت في عددها الصادر في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر أن “احتجاجات العراق ولبنان قد تحقق ما لم يستطع أقصى ضغط للرئيس دونالد ترامب انجازه للحد من نفوذ إيران خارج حدودها”. ورأت أن “أجندة سليماني تواجه تهديداً خطيراً، ليس من خلال المواجهة الأميركية، إنما من خلال الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق ضد أنظمة يرونها فاسدة”. واعتبر موقع “دويتشة فيلله” الإلكتروني” أن هناك ارتباطاً بين حراكي لبنان والعراق سواء على مستوى الشعارات أو المطالبة بإنهاء الفساد ورفض نظام الحكم الذي ترعاه إيران”. ولفتت إلى أن “رفض النظام هو أمر أكبر من مجرد مسألة الطائفية” موضحاً أن “مستوى الفساد في العراق ولبنان يلعب دوراً محورياً في إثارة غضب الشارعين”. وقال إن “المشكلة الآن تتمثل في تصاعد العنف، ما يشير إلى أن ما حدث في 2011 لا تزال جذوره موجودة الى اليوم، ولذلك فالغضب والاحتجاج سيستمران لأن شعوب المنطقة تريد الديموقراطية والحرية واحترام حقوق الانسان”، محذراً من “أن استمرار الأنظمة في معادلة القوة والعنف، أضحى أمراً مستحيلاً”.

كيف يمكن فهم هذه الانتفاضات؟ هل هي حركات ثورية أم مجرد فورات عارمة من الغضب؟

هذا السؤال أثاره المؤرخ الأسترالي المختص في الثورة الفرنسية بيتر مكفي، في موقع “ذا كونفرسيشون” الإلكتروني، قائلاً إن “الاحتجاجات التي تعصف بالدول يتم تصويرها في أجهزة الإعلام كمجرد تعبيرعن الغضب على الأنظمة”. وأكد أن “السؤال المهم، هو ما إذا كانت تلك الاحتجاجات التي نشهدها ثورية الطابع”. وأشار إلى أن “المحتجين يسعون إلى إرساء تحالف مناهض للنخب التي تتنافس على السلطة، وأخيراً يعاد تأسيس نظام جديد في حال نجاح قائد ثوري في توطيد اركان ثورته”. مبيناً أن “الحركة التي يمكن أن تصبح ثورية هي تلك التي تعصف بالعراق حيث أظهر النظام الحاكم استعداداً لقتل مواطنيه”. وشدد على ضرورة أن نفهم مشاعر الغضب في نفوس الجماهير حالياً الناجمة عن عجز المؤسسات الديموقراطية عن القيام بوظائفها وتحقيق مبادئ الديموقراطية البرلمانية.

أكثر ما تخشاه روسيا فلاديمير بوتين هو أن شرر ثورات الربيع العربي الثانية قد تصيب نظامها وتنتقل إلى بلادها التي تشهد بين الحين والاخر تظاهرات احتجاجية، وقودها الشباب الروسي الذي يكافح ضد الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ومن أجل الحرية والديموقراطية. وكان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أدخل عام 2011 الثورات العربية في دائرة الثورات الملونة التي شهدتها دول سوفياتية سابقة مثل أوكرانيا وجورجيا. شويغو وأمام المنتدى الشبابي الروسي الثاني كان صرح بأن تدخل بلاده في سوريا ساعد في إنجاز مهمة جيوسياسية تتمثل في قطع ما دعاها سلسلة الثورات الملونة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الآن مع تجدد الحركات الاحتجاجية في 4 دول عربية يصطدم بوتين ونظامه بحقيقة أن سوريا مهددة هي الأخرى بانتقال عدوى احتجاجات البلدين المجاورين ضد دميتها الديكتاتور بشار الاسد.

كيف يمكن فهم هذه الانتفاضات؟ هل هي حركات ثورية أم مجرد فورات عارمة من الغضب؟

“رهاب الثورات الملونة”، إنه المرض الروسي المزمن، أو سلسلة رآها الروس سبباً في إحداث تغيرات دولية كبيرة عرفتها السياسة الدولية وتوازن القوى في الدول والأقاليم، والآن تُفاخر روسيا بأنها قطعت هذه السلسلة. وهي مهمة جيوسياسية في مفهوم وزير الدفاع الروسي ساهم فيها التدخل الروسي في سوريا. وهو ما كانت أشارت إليه نينا سابونينا المستشارة في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بقولها إن “بلادها خبرت جيداً ما تفعله الثورات والحروب الأهلية، وأن ثورة 1905 وثورة 1917 ما زالتا ماثلتين”. موقف موسكو اليوم من احتجاجات العراق ولبنان كما تكشفه الميديا الروسية وتصريحات كبار المسؤولين الروس عدواني ويعيد مقولات عام 2011 نفسها، عندما اجتاحت الثورات البلدان العربية. فلقد رأت صحيفة الكرملين vz، في الانتفاضة اللبنانية “صراعاً جديداً في الشرق الأوسط يهدد مصالح روسيا”، واتهمت الولايات المتحدة وإسرائيل بالوقوف وراء هذه الاحتجاجات، وذلك لرغبتهما في إضعاف النفوذ الإيراني على الحكومة اللبنانية، خصوصاً أن كثراً من المشاركين في “ثورة الأراجيل” اللبنانية مرتبطون بإرادة رعاتهم الأجانب”. وذكر موقع rosbalt الإخباري الروسي القريب من الشيوعيين “أن المتظاهرين اللبنانيين والعراقيين ليسوا استثناء، بل هم جزء من مئات الألوف، الذين خرجوا ويخرجون في مدن العالم المختلفة، ضد الأنظمة الهجينة، التي تتسبب بآلامهم وشقائهم”. وتساءل: “لماذا يبقى الروس صامتين على آلامهم وشقائهم، في ظل نظامهم الهجين أيضاً، ولا يخرجون إلا في احتجاجات متواضعة الأعداد، ويكتفون بما ورثوه من وسائل الزمن السوفياتي من سكر وانزواء وجنون. لماذا يكتفي المعترضون الروس بتدمير أجسادهم، التي يعتبرونها جزءاً من جسد السلطة، التي لا بد أن ينتهي رأسها بالجنون”. واعتبرت صحيفة الحزب الشيوعي “البرافدا” أن “احتجاجات العراق ولبنان ترتبط بخطط وبرغبة الولايات المتحدة وحلفائها للمحافظة على هيمنتها في الشرق الأوسط”. في المقابل، قالت ماريانا بيلينكايا، الكاتبة المتخصصة بشؤون الشرق الأوسط في صحيفة kommersant، في تحليل كتبته حول سلوك الكرملين حيال الأحداث في الشرق الأوسط، إن “موسكو تنظر إلى هذه الأحداث عبر الوقائع الداخلية في روسيا، وبخاصة احتجاجات آب/ أغسطس المنصرم، التي اندلعت في المدن الروسية”. ورجحت أن يكون هذا السبب بالذات جعل الكرملين يحتاج إلى بعض الوقت لكي يعلن موقفه من الأحداث العاصفة في لبنان العراق. أما وزير الخارجية سيرغي لافروف فوصف في كلمته أمام المؤتمر السنوي الأخير لمنتدى “فالداي” الدولي للحوار الشرق الأوسط بأنه “ساحة للتجارب المتهورة”، التي تمخضت عن “عواقب مأساوية”، معتبراً أن إيران هي الضحية، وأن الولايات المتحدة تعمل بمختلف الوسائل على “شيطنتها وعزلها وإجبارها على الاستسلام”.

هذه الموجة اللبنانية والعراقية برأي وسائل إعلام أوروبية وغربية كثيرة، هي استمرار لموجات الانتفاضات العربية، ولكنها أخذت موقعها التاريخي بعدما فرض عليها أن تتعلم درساً راديكالياً واضحاً غاب عما سبقها من الموجات العربية حتى في نسختيها السودانية والجزائرية الأقرب عهداً: واجه عدوك الحقيقي. وعلى الاحتجاجات أن تعي واقع أنه من دون أن تتعلم هذه الدروس، ستواجه أخطر ما يمكن لثورة أن تواجهه في هذه الحرب المفتوحة مع السلطة وأزلامها، وهو أن تتحول إلى حركات مطلبية تقف موقفاً وسطاً بين التطمينات الإصلاحية وبين تقهقرها بسبب ثقلها الذاتي الذي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.

مصطفى حايد - كاتب وحقوقي سوري | 18.04.2025

السيكولوجية الجمعية للإبادة: سوريا نموذجاً

فهم الآليات النفسية التي تقود إلى العنف الجماعي ليس ترفاً فكرياً، بل هو خطوة أساسية نحو تفكيكها ومقاومتها، وبدلاً من أن نكون ضحايا سلبيين لهذه العمليات، يمكننا أن نختار أن نكون فاعلين في كسرها.
11.12.2019
زمن القراءة: 10 minutes

إلى أين يمكن أن يصل غضب المحتجين في العراق ولبنان؟ هذا السؤال جاهدت صحف ومراكز بحث غربية في البحث عن إجابات له بعد صمود شباب البلدين وثباتهم في الساحات والشوارع.

إلى أين يمكن أن يصل غضب المحتجين في العراق ولبنان؟ هذا السؤال جاهدت صحف ومراكز بحث غربية مهمة في البحث عن إجابات له بعد صمود شباب البلدين وثباتهم في الساحات والشوارع، مرددين شعارات تغيير النظام السياسي الذي ترعاه وتحميه إيران، عبر أدواتها الميليشياوية والسياسية؟

قد يكون ثمة تشابه بين هذه الموجة من الثورات وتلك التي اجتاحت دولاً عربية عدة، وعرفت قبل نحو عقد من الزمن باسم الربيع العربي، إلا أنها هذه المرة تبدو أكثر وعياً وإصراراً وتحدياً للنخب الحاكمة، وفي سعي لا ينضب نحو تغييرها، من دون أن تكترث لفائض القوة والترهيب من جانب حاملي الرايات والسلاح، والذين سماهم وزير الدفاع العراقي “الطرف الثالث”!

الشعار المرفوع الذي يوحد البلدين باعتراف الميديا الغربية واضح وهو نبذ كل الطغمة السياسية وشطبها من العملية السياسية، ودفع شخصيات جديدة نظيفة ومؤهلة وقادرة، لديها رؤى وأفكار لبناء دولة حديثة وقوية ترسم مستقبلاً واعداً، لجيل جديد يريد قطع صلاته بالإسلام السياسي والتفرقة المذهبية والعرقية، ففي لبنان لم يتوقف المحتجون من جيل الهاتف الذكي و”الأيباد” وشبكات التواصل الاجتماعي عن ترداد “كلن يعني كلن، ما بدنا حد منكن”، فيما يصرخ العراقيون “شلع… قلع… كلهم حرامية”.

في مجلة “نيو ستيتسمان” البريطانية، قال المحلل جون جيكنيز أن الموجة الحالية من الثورات في العالم العربي تبدو عصية على الانكسار، وربما تشكل نهاية للأنبياء المزيفين الذين سئمهم الجميع. وأضاف: “بواعث هذه الثورات هي بواعث تلك الثورات ذاتها التي اندلعت في 2011”.

يكاد يتفق المحللون والمعلقون السياسيون الغربيون على أن الفاعلين في هذه الثورات في غالبيتهم هم أناس عاديون ليست لديهم خلفية سياسية بالمعنى المباشر، خرجوا للتعبير عن مطالبهم، بعدما فقدوا الثقة بالنخب السياسية سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة، أي أنهم جاءوا من الهامش السياسي إلى المركز الذي تجاهلهم وأذلهم وهمشهم حتى ثاروا ضده وعليه”.

احتجاجات ضد الدولة العميقة

تشير الدراسات الاستقصائية التي أجراها موقع “البارومتر العربي” إلى أن العوامل التي ساهمت في تنامي السخط الشعبي الحالي هي نفسها التي فجرت ثورات 2011، وتتمثل في تفشي الفساد في أوساط الأحزاب الحاكمة والمعارضة، وممارسة الحكومات القمع المفرط، وانعدام فرص العمل للشباب وتردي الأوضاع البيئية”. يقول جيكنيز: “إن الشباب الذين باتوا يمثلون الأغلبية الساحقة من الجيل الثاني من المتظاهرين يحتجون ضد دولة عميقة تلبس قناعاً ديموقراطياً، ففي العراق ولبنان نجح الشباب في تخطي حواجز الطائفية وتوحدوا وطنياً، ما يعكس تجنبهم مصيدة الانقسامات الطائفية التي نصبتها طيلة سنوات طويلة السلطات الحاكمة”.

الاختلافات بين ثورات 2019 وثورات 2011 رصدها كثر من المحللين، في تقارير مكرسة للثورات الجديدة التي وصفها بعضهم بموجة ربيع عربي جديدة، إلا أن تقريراً صادراً عن مركز “كارنيغي” الأميركي، وجد أن أبرز هذه الاختلافات يكمن في أنه في الأولى كانت أسعار النفط في ذروتها، وكانت الاقتصادات تشهد وتيرة أسرع في النمو منذ عقود، فيما الأوضاع الاقتصادية باتت الآن أصعب بكثير. وذلك بسبب انهيار أسعار النفط وتراجعها عالمياً في 2014، وفي ظل ارتفاع معدل الدين العام والبطالة، إذ لم يعد في متناول الأنظمة الحاكمة سوى موارد قليلة لتمويل شبكاتها الزبائنية”. وأوضح كاتب التقرير إسحاق ديوان الأستاذ في جامعة باريس للعلوم، والأستاذ في المدرسة العليا للأساتذة (Ecole Normale Superieure) أن “الموجة الثانية من الاحتجاجات استقت الدروس والعبر من الموجة الأولى، فالمتظاهرون لم يعودوا قانعين بإطاحة الحكام السلطويين الطاعنين في السن، بل باتوا يستهدفون هياكل الدولة العميقة، لكنهم يحرصون في الوقت نفسه على تفادي الانقسامات على أسس الهوية الدينية أو الطائفية، ويطالبون بانتخابات جديدة، وفق أصول وقواعد جديدة”.

الدول الأربع التي بقيت خارج نطاق الربيع العربي الأول وهي الجزائر والسودان والعراق ولبنان تنتفض الآن، في ما يبدو موسماً جديداً من السخط انطلق بوسائل سلمية. ورأى تقرير ثان لمعهد “كارنيغي” أن هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات مصدرها الاستياء الاجتماعي الذي يتنامى منذ سنوات من تفشي الفساد والبطالة والنظام السياسي المتعفن. وذكرت مراسلة صحيفة “نيويورك تايمز” في طهران في مقال كتبته عن العراق وإيران أنها “خلال 25 سنة من تغطيتها الأحداث لم تشهد مثل هذه الجرأة والاتساع والسخط والغضب، وأفادت بأن نظام طهران يبدو خائفاً مما يحصل في العراق ولبنان من ثورات ضد إيران ودورها في تقويض سيادة واستقلال البلدين، ودعمها ميليشيات تصادر وظيفة الدولة والحكم وتقويضها للمؤسسات والتنمية الحقيقية”.

“الموجة الثانية من الاحتجاجات استقت الدروس والعبر من الموجة الأولى، فالمتظاهرون لم يعودوا قانعين بإطاحة الحكام السلطويين الطاعنين في السن، بل باتوا يستهدفون هياكل الدولة العميقة

ظلت المؤسسة الحاكمة في إيران بحسب “نيويورك تايمز”، تعبر عن سخطها من الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية باعتبارها التهديد الأعظم، مستدركة الإشارة الى أن قادتها (آيات الله) أخذوا لا يخفون قلقهم عن مصدرين جديدين للتهديد والخطر هما لبنان والعراق”. وأشارات إلى أن “ما يميز الاحتجاجات في لبنان والعراق هو أنها تنطوي على شكل من أشكال العداء لإيران ما يعرض مصالحها لخطر جدي”. وبحسب الباحث جوزيف ياهود فإن إيران تنظر إلى هذه الاحتجاجات باعتبارها تهديداً وجودياً، منبهاً إلى أن “إيران تمتلك أوراقاً كثيرة ستلقيها قبل أن تلجأ إلى العنف المفرط لسحق احتجاجات لبنان والعراق”.

ما العقبات التي تعترض تطلعات ثورتي لبنان والعراق؟ وماذا يقول التاريخ عن مآلاتهما؟

هذه المسألة طرحها وناقشها الخبيران الفرنسيان في شؤون الشرق الاوسط آلان غريش وجان بيير سيرني في مقال مشترك لهما في موقع (اوريان 21) قالا فيه إن “أوهام الدول الغربية باستقرار الشرق الأوسط بعد هزات الربيع العربي قبل عقد من الزمن، بددتها الآن نيران الثورات التي اشتعلت أولاً في السودان وأطاحت بنظام دموي دام 30 سنة، وموجة الاحتجاجات العارمة في الجزائر التي تتواصل منذ 40 أسبوعاً وما زالت. والآن ينتفض الشعب العراقي ضد النظام الذي صنعته واشنطن عام 2003، وأصبح يتهم بالخضوع لإيران التي أغرقته بالطائفية والفساد. كما خرج اللبنانيون إلى الشوارع بالدوافع نفسها، مطالبين بأن يرحل أقطاب الطبقة السياسية (كلن يعني كلن). وأشار إلى أن “دوافع الشباب المنتفض تتلخص في خضوع هذه المجتمعات لحكومات استبدادية تتستر بالديموقراطية، إضافة إلى معاناة اجتماعية وظلم لا يطاق”.

نخب الفوضى العارمة

يحذر التقرير من مخاطر الإبقاء على النخب السياسية الحالية، وينبه إلى أن هذا ليس إلا وصفة جاهزة لانتشار فوضى عارمة، ستستفيد منها التنظيمات المتطرفة أو أي حركة لم تظهر بعد للوجود. ووفقاً للباحثين إن “الطريق الذي سيتحتم المرور فيه لتحقيق التغيير، وهو تغيير سيكون أكثر وعورة وازدحاماً بالعقبات، لأن طريق يستند إلى ثقافة سياسية تعددية وتنمية اقتصادية وطنية، إضافة إلى قطيعة مع الماضي والتأريخ”.

في تحليل نشرته وكالة “بلومبرغ”، قال المحلل تيلر كوين “يبدو العالم اليوم الآن محاصراً بالاحتجاجات بشكل متزايد، فمع دخول الربع الأخير من عام 2019 اندلعت ثورات السودان والجزائر ولبنان والعراق ودول كثيرة اخرى في العالم”. ورأى أن “الإنترنت ومجموعة من الشبكات الاجتماعية جعلت من الممكن تعبئة الأشخاص لتنظيم الاحتجاجات”. وأشار إلى أن “المنخرطين في الاحتجاجات يتميزون من خلال الانترنت بانعدام الايديولوجية بالمعنى التقليدي للايديولوجيات”، مؤكداً أن “الإنترنت يشجع على تنظيم أكبر الاحتجاجات الممكنة، ولهذا أول ما تقوم به الأنظمة هو قطع صلة الشعب بالانترنت كما حصل في العراق ولبنان”.

“ما يميز الاحتجاجات في لبنان والعراق هو أنها تنطوي على شكل من أشكال العداء لإيران ما يعرض مصالحها لخطر جدي”.

وصل مؤشر الفساد في العراق إلى مستوى مخجل فهو يضع العراق في المركز 168 من أصل 180 على لائحة أكثر الدول فساداً، بحسب “منظمة الشفافية الدولية”، فيما وصلت نسبة البطالة إلى 25 في المئة، فيما يعيش أكثر من 40 في المئة من السكان على خط الفقر، بحسب تقارير البنك الدولي. أما في لبنان فمؤشر الفساد وصل إلى المرتبة 138 من أصل من 180 بحسب الفرع الوطني لـ”منظمة الشفافية الدولية”. ورأت مجلة “أتلانتي الأميركية”، أن ثمة قاسماً مشتركاً يوحد الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان وهو أنها بلا قيادة”. واستشهدت المجلة بحكمة اشتهر بها الفيلسوف الصيني القديم لاو تزو مفادها أن “القائد الأفضل هو الذي بالكاد يعرف الناس أنه موجود، وعند القيام بعمله يكون هدفه الوفاء، فيقول الجميع فعلنا ذلك بأنفسنا”. تقول المجلة إن “المحتجين لجأوا الى وسائل التواصل الاجتماعي لاستثارة تظاهرات شعبية عفوية وسلمية الطابع ضد حكومات بلدانهم، وتعاهدوا على مواصلتها حتى تلبي مطالبهم”. وتساءلت: “هل افتقار الاحتجاجات لقيادة مركزية نقطة ضعف أم قوة؟”. ونقلت عن عالم الاجتماع باولوالا غيرباودو، أن “تظاهرات اليوم التي تنعدم فيها القيادة تعيد الأذهان إلى الاحتجاجات الشعبية التي اشتعلت قبل زهاء 10 سنوات مثل “احتلوا وول ستريت”، وهي حركة شعبية فجرت سلسلة من الغضب ضد النخبة السياسية والمالية عام 2011 في واشنطن”. وقال إن “تلك الحركات لا تجتذب فئات بعينها، بل تروق لشرائح المجتمع كافة التي تشعر بأنها خدعت من قبل الطبقة السياسية”. ونقلت المجلة عن المدير التنفيذي لمجموعة “اندبندنت ديبلومات” الاستشارية كارني روس، أن “تحديد قيادات للاحتجاجات ربما يكون قراراً سلبياً، لأنه يجعل من السهل على الحكومات التركيز عليهم والتقاطهم واعتقالهم وقتلهم، وتشويه سمعتهم”، منبهاً في الوقت نفسه إلى أن “الحركات التي لا قيادة لها عرضة لخطر احتمال أن تستخدم قلة من المحتجين أساليب لا تقرها الغالبية. كما أن الافتقار لقيادات ربما يفاقم التوترات ويؤجج العنف لعدم وجود من يوجه المتظاهرين إلى كيفية مواجهة السلطات العميقة”.

أما صحيفة “واشنطن بوست” فاستنتجت في عددها الصادر في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر أن “احتجاجات العراق ولبنان قد تحقق ما لم يستطع أقصى ضغط للرئيس دونالد ترامب انجازه للحد من نفوذ إيران خارج حدودها”. ورأت أن “أجندة سليماني تواجه تهديداً خطيراً، ليس من خلال المواجهة الأميركية، إنما من خلال الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق ضد أنظمة يرونها فاسدة”. واعتبر موقع “دويتشة فيلله” الإلكتروني” أن هناك ارتباطاً بين حراكي لبنان والعراق سواء على مستوى الشعارات أو المطالبة بإنهاء الفساد ورفض نظام الحكم الذي ترعاه إيران”. ولفتت إلى أن “رفض النظام هو أمر أكبر من مجرد مسألة الطائفية” موضحاً أن “مستوى الفساد في العراق ولبنان يلعب دوراً محورياً في إثارة غضب الشارعين”. وقال إن “المشكلة الآن تتمثل في تصاعد العنف، ما يشير إلى أن ما حدث في 2011 لا تزال جذوره موجودة الى اليوم، ولذلك فالغضب والاحتجاج سيستمران لأن شعوب المنطقة تريد الديموقراطية والحرية واحترام حقوق الانسان”، محذراً من “أن استمرار الأنظمة في معادلة القوة والعنف، أضحى أمراً مستحيلاً”.

كيف يمكن فهم هذه الانتفاضات؟ هل هي حركات ثورية أم مجرد فورات عارمة من الغضب؟

هذا السؤال أثاره المؤرخ الأسترالي المختص في الثورة الفرنسية بيتر مكفي، في موقع “ذا كونفرسيشون” الإلكتروني، قائلاً إن “الاحتجاجات التي تعصف بالدول يتم تصويرها في أجهزة الإعلام كمجرد تعبيرعن الغضب على الأنظمة”. وأكد أن “السؤال المهم، هو ما إذا كانت تلك الاحتجاجات التي نشهدها ثورية الطابع”. وأشار إلى أن “المحتجين يسعون إلى إرساء تحالف مناهض للنخب التي تتنافس على السلطة، وأخيراً يعاد تأسيس نظام جديد في حال نجاح قائد ثوري في توطيد اركان ثورته”. مبيناً أن “الحركة التي يمكن أن تصبح ثورية هي تلك التي تعصف بالعراق حيث أظهر النظام الحاكم استعداداً لقتل مواطنيه”. وشدد على ضرورة أن نفهم مشاعر الغضب في نفوس الجماهير حالياً الناجمة عن عجز المؤسسات الديموقراطية عن القيام بوظائفها وتحقيق مبادئ الديموقراطية البرلمانية.

أكثر ما تخشاه روسيا فلاديمير بوتين هو أن شرر ثورات الربيع العربي الثانية قد تصيب نظامها وتنتقل إلى بلادها التي تشهد بين الحين والاخر تظاهرات احتجاجية، وقودها الشباب الروسي الذي يكافح ضد الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ومن أجل الحرية والديموقراطية. وكان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أدخل عام 2011 الثورات العربية في دائرة الثورات الملونة التي شهدتها دول سوفياتية سابقة مثل أوكرانيا وجورجيا. شويغو وأمام المنتدى الشبابي الروسي الثاني كان صرح بأن تدخل بلاده في سوريا ساعد في إنجاز مهمة جيوسياسية تتمثل في قطع ما دعاها سلسلة الثورات الملونة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الآن مع تجدد الحركات الاحتجاجية في 4 دول عربية يصطدم بوتين ونظامه بحقيقة أن سوريا مهددة هي الأخرى بانتقال عدوى احتجاجات البلدين المجاورين ضد دميتها الديكتاتور بشار الاسد.

كيف يمكن فهم هذه الانتفاضات؟ هل هي حركات ثورية أم مجرد فورات عارمة من الغضب؟

“رهاب الثورات الملونة”، إنه المرض الروسي المزمن، أو سلسلة رآها الروس سبباً في إحداث تغيرات دولية كبيرة عرفتها السياسة الدولية وتوازن القوى في الدول والأقاليم، والآن تُفاخر روسيا بأنها قطعت هذه السلسلة. وهي مهمة جيوسياسية في مفهوم وزير الدفاع الروسي ساهم فيها التدخل الروسي في سوريا. وهو ما كانت أشارت إليه نينا سابونينا المستشارة في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بقولها إن “بلادها خبرت جيداً ما تفعله الثورات والحروب الأهلية، وأن ثورة 1905 وثورة 1917 ما زالتا ماثلتين”. موقف موسكو اليوم من احتجاجات العراق ولبنان كما تكشفه الميديا الروسية وتصريحات كبار المسؤولين الروس عدواني ويعيد مقولات عام 2011 نفسها، عندما اجتاحت الثورات البلدان العربية. فلقد رأت صحيفة الكرملين vz، في الانتفاضة اللبنانية “صراعاً جديداً في الشرق الأوسط يهدد مصالح روسيا”، واتهمت الولايات المتحدة وإسرائيل بالوقوف وراء هذه الاحتجاجات، وذلك لرغبتهما في إضعاف النفوذ الإيراني على الحكومة اللبنانية، خصوصاً أن كثراً من المشاركين في “ثورة الأراجيل” اللبنانية مرتبطون بإرادة رعاتهم الأجانب”. وذكر موقع rosbalt الإخباري الروسي القريب من الشيوعيين “أن المتظاهرين اللبنانيين والعراقيين ليسوا استثناء، بل هم جزء من مئات الألوف، الذين خرجوا ويخرجون في مدن العالم المختلفة، ضد الأنظمة الهجينة، التي تتسبب بآلامهم وشقائهم”. وتساءل: “لماذا يبقى الروس صامتين على آلامهم وشقائهم، في ظل نظامهم الهجين أيضاً، ولا يخرجون إلا في احتجاجات متواضعة الأعداد، ويكتفون بما ورثوه من وسائل الزمن السوفياتي من سكر وانزواء وجنون. لماذا يكتفي المعترضون الروس بتدمير أجسادهم، التي يعتبرونها جزءاً من جسد السلطة، التي لا بد أن ينتهي رأسها بالجنون”. واعتبرت صحيفة الحزب الشيوعي “البرافدا” أن “احتجاجات العراق ولبنان ترتبط بخطط وبرغبة الولايات المتحدة وحلفائها للمحافظة على هيمنتها في الشرق الأوسط”. في المقابل، قالت ماريانا بيلينكايا، الكاتبة المتخصصة بشؤون الشرق الأوسط في صحيفة kommersant، في تحليل كتبته حول سلوك الكرملين حيال الأحداث في الشرق الأوسط، إن “موسكو تنظر إلى هذه الأحداث عبر الوقائع الداخلية في روسيا، وبخاصة احتجاجات آب/ أغسطس المنصرم، التي اندلعت في المدن الروسية”. ورجحت أن يكون هذا السبب بالذات جعل الكرملين يحتاج إلى بعض الوقت لكي يعلن موقفه من الأحداث العاصفة في لبنان العراق. أما وزير الخارجية سيرغي لافروف فوصف في كلمته أمام المؤتمر السنوي الأخير لمنتدى “فالداي” الدولي للحوار الشرق الأوسط بأنه “ساحة للتجارب المتهورة”، التي تمخضت عن “عواقب مأساوية”، معتبراً أن إيران هي الضحية، وأن الولايات المتحدة تعمل بمختلف الوسائل على “شيطنتها وعزلها وإجبارها على الاستسلام”.

هذه الموجة اللبنانية والعراقية برأي وسائل إعلام أوروبية وغربية كثيرة، هي استمرار لموجات الانتفاضات العربية، ولكنها أخذت موقعها التاريخي بعدما فرض عليها أن تتعلم درساً راديكالياً واضحاً غاب عما سبقها من الموجات العربية حتى في نسختيها السودانية والجزائرية الأقرب عهداً: واجه عدوك الحقيقي. وعلى الاحتجاجات أن تعي واقع أنه من دون أن تتعلم هذه الدروس، ستواجه أخطر ما يمكن لثورة أن تواجهه في هذه الحرب المفتوحة مع السلطة وأزلامها، وهو أن تتحول إلى حركات مطلبية تقف موقفاً وسطاً بين التطمينات الإصلاحية وبين تقهقرها بسبب ثقلها الذاتي الذي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.