“… العسكريون حسموا الأمر”. تحت هذا العنوان نشرت قناة “روسيا اليوم” الممولة من الكرملين على موقعها الإلكتروني مقالاً كتبه المحلل في موقع “اكسبيرت اونلاين” غينادي بيتروف عن انتصار الثورة المخملية في أرمينيا، وذلك بعد رضوخ رئيس الحكومة والرئيس السابق سيرج سركسيان لضغط الشارع وتقديمه الاستقالة التي برأي المراقبين “لم تكن متوقعة” ولكنها “القرار الصائب الوحيد في الحال التي وصلت إليها الاوضاع في البلاد”. وقال سركسيان في خطاب موجه إلى الشعب “أتوجه إليكم بالحديث للمرة الأخيرة كرئيس للدولة، وأقول أننيكول باشينيان، زعيم المعارضة، كان صائباً، وأنا أخطأت!”.
أياً تكن دوافع العسكر للوقوف وراء المعارضة والشارع المنتفض على حاكمه، فإن حقيقة الانشقاق في هياكل السلطة كما يقول بيتروف “بدأت معالمها بالظهور والاتضاح لدرجة تأكيدها أن الوضع اقترب من النقطة التي يبدأ منها تفكك الدولة”. حاول سركسيان المراوغة لأنه لم يدرك مستوى الاستياء الذي وصل إليه الشارع من ممارساته السياسية، وربما يكون خطأه القاتل اعتقاده بأنه يمكن أن يكون (بوتين) أرمينيا، متناسياً دروس التمرد الشعبي ضده قبل سنوات، والذي كاد يطيح به من الرئاسة لولا جرعات الدعم من موسكو، فلقد أشاح بوجهه عن هموم شباب بلاده وتطلعاتهم وصم أذنيه عن سماع مطالبهم برفض عودته إلى الحكم، ولم يقدر المدى الذي وصلت إليه حركة (ارفضوا سيرج) التي اكتسبت شعبية واسعة في البلاد في غضون أيام قليلة.
استنساخ النموذج البوتيني
حكم سركسيان أرمينيا طوال عشر سنين، وظل الشخصية المهيمنة على الساحة السياسية في البلاد. عام 2013 انتخب لفترة رئاسية ثانية في اقتراع شابته اتهامات بالتزوير، وعلى طريقة بوتين في تبادل السلطة بينه وبين مدفيديف أطلق سركسيان عام 2015 تعديلات مثيرة للجدل لتغيير نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني، يمنح بموجبه رئاسة الوزاء صلاحيات واسعة، بحيث تصبح الرئاسة منصباً فخرياً، وعلى رغم عده بعدم الترشح لمنصب رئيس الوزراء، إلا أنه نكث بوعوده، متذرعاً بأنه لو انتخب، فلن يكون انتخابه لولاية ثالثة، بل ولاية أولى لحزب جمهوري في حكومة برلمانية. في مواجهة محاولات سركسيان وضع قبضته على الحكم وان يصبح حاكما مدى الحياة، اطلقت المعارضة أكبر حركة احتجاجات عمت العاصمة وبقية مدن البلاد، واعلن حزب المعارضة إيلك (انطلاق- Yelk) بداية ما سماه “الثورة المخملية في أرمينيا”. ويعد هذا الحزب موالياً لأوروبا ومهادناً لروسيا. ويتفق المراقبون على “أن استقالة سركسيان تحت ضغط الشارع لا تشكل نهاية المعركة السياسية في هذه الدولة القوقازية، لأن التحالف السياسي الذي يتزعمه الحزب الجمهوري برئاسة رئيس الوزراء المستقيل، يسيطر على البرلمان، وعلى الأحزاب السياسية أن تجد بديلاً عنه، تعلن ترشيحه في غضون أيام معدودة”. برهنت احتجاجات الأيام العشرة أن شعب أرمينيا التي تخضع للهيمنة الروسية الكاملة، يرفض الاستبداد واحتكار السلطة ونموذج بوتين في الحكم وإدارة الدولة التي يتداعى كيانها بفعل الفساد المستشري في أوساط النخب السياسة والحكم والمجتمع بشكل عام. يقول المحلل السياسي ارفاند بوزويان: “إن الأوضاع الاقتصادية في أوج تفاقمها وتدهورها، فيما يزدهر الفساد وتتعقد الأوضاع المعيشية بوتائر عالية مع ارتفاع الأسعار وتفشي البطالة والتضخم النقدي”. وقال زعيم الحركة الاحتجاجية باشينيان “سركسيان الآن جثة سياسة، ومع الأموات لا تخاض مفاوضات”.
تكشف البيانات والمؤشرات الاقتصادية الواردة في تقرير للبنك الدولي “أن نسبة الفقر في أرمينيا بلغت 29.8 في المئة خلال عام 2016، مقابل 27.6 في المئة عام 2008”. أما الناتج الاجمالي للفرد الواحد من السكان فلم يتغير خلال السنوات العشر الاخيرة وبقي عند مبلغ 3770 دولاراً. وبحسب المحلل الاقتصادي هاكوب بادليانفأن “غالبية السكان يعانون من الفقروالبطالة”. وفي حديث مع وكالة “رويترز”، روى أحد المشاركين في الاحتجاج كاربات انانيان (26 سنة) كيف صدق بسذاجة وعود السلطة في العثور على العمل بسهوله بعد تخرجه من كلية الاقتصاد، قائلاً:”أنا عاطل من العمل منذ 3 سنوات، في وقت تردد السلطة منذ سنوات أنها بصدد توفير آلاف فرص العمل للشباب، ولكن لا شيء من هذا يحصل”. هذا فيما أشار موشاغ خاجاتريان (52 سنة) إلى أن “الفساد يخنق البلاد الآن، ولا احد بإمكانه أن يبدأ أي عمل أو مشروع، إلا بعد تقديم الرشوة لموظفي الإدارة الحكومية”، واضاف: “حتى المعلمين يشحذون الهدايا”. وسأل: “من المسؤول عن هذا التردي الحاصل في الدولة غير سركسيان؟”.
دمية موسكو ونزعات مهادنة
يعد سركسيان دمية بيد بوتين، وتسيطر روسيا على إدارة الدولة الأرمنية إلى حد كبير، وتهيمن شركة “غاز بروم” الروسية على قطاع الطاقة في البلاد، ويتمتع أحد كبار مسؤوليها كارين كارابيتيان بنفوذ كبير في الدولة والحياة السياسية في البلاد، في وقت تنتشر قطعات عسكرية روسية في معسكرات وثكنات متعددة في أنحاء البلاد. ومع أن المعارضة تميل إلى التحالف والشراكة مع الغرب، إلا أن الحركة الاحتجاجية لم تبدِ أي نزعات معادية لروسيا على خلاف الاحتجاجات التي انطلقت من (ميدان) العاصمة الأوكرانية كييف ضد الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانكوفيتش في فبراير/ شباط عام 2014، وأدت إلى إسقاطه وفراره إلى روسيا. وقال باشينيان: “إن العملية السياسية التي بدأت في أرمينيا لا تحمل في جوهرها وشكلها أي سياقات جيوبوليتيكية”، وأوضح أن “في حراكنا لا نسترشد بمصالح الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، بل مصالح أرمينيا وشعبها”. وتابع: “احتجاجنا ليس موجهاً ضد روسيا، فضلا عن أنه لا يحمل أياً من سمات الحدث الأوكراني”.
ثورات ملونة “بغيضة”
البداية كانت في جورجيا وبعدها في قيرغزستان ومن ثم في أوكرانيا. والآن في أرمينيا؟ الكرملين يمقت “الثورات الملونة” التي هزت بعض البلدان التي كانت تسير في الفلك السوفياتي، ولكن رد فعله على انتفاضة أرمينيا اتصف بالهدوء والمرونة، وهذا يعود إلى قناعته بأنها لا تشكل أي تهديد لنفوذه ومصالحه في هذه الدولة الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن 3 ثلاثة ملايين نسمة، ولم يتبقَّ منهم الآن سوى أقل من مليونين بسبب الهجرات الجماعية لانسداد الآفاق الاقتصادية والسياسية.
بعد أسبوعين من عدم المبالاة بالتظاهرات، على الأقل بشكل علني، تسربت معلومات عن اجتماعات مكثفة في أروقة الكرملين وحركة اتصالات بين كبار المسؤولين الروس في الحكومة وفي الاستخبارات العسكرية، تكللت بدخول موسكو على خط الأحداث الساخن في العاصمة يريفان والشروع بوساطة بين الأفرقاء السياسيين لحل الأزمة السياسية الناشئة، حيث تحادث الرئيس بوتين هاتفياً مع رئيس الحكومة الأرمينية بالوكالة كارن كارابتيان، كما زار نائب رئيس الوزراء الأرميني أرمين غيفوركيان ووزير الخارجية ادوارد نالبانديان، موسكو لإجراء مشاورات، فيما استقبلت السفارة الروسية في يريفان زعيم المعارضة باشينيان للاطلاع على التطورات والمواقف.
يقول المحلل السياسي كوستنطين كالاجوف: “ليست هذه المرة الأولى التي يكون رد فعل روسيا هادئاً على اندلاع ثورة شعبية في فناء نفوذها الجيوسياسي”، مشيراً إلى “عدم تدخل موسكو في مواجهة الثورة التي هزت قيرغستان الحليفة الأخرى لروسيا”. إذ كرر الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوب تأكيده “أن روسيا ليست لديها أي نية أو رغبة في التدخل بشؤون أرمينيا الداخلية”، مع أنه أوصى بمتابعة ما سماه “تطورات الأوضاع هناك”، وأكد أن “أرمينيا ذات أهمية كبيرة وهي حليف قريب لروسيا”. وبرأي الباحث في مركز “كارنيغي” في موسكو سيرغي ماركيدونوف “إن موقف روسيا الباهت والغريب في الوقت ذاته، لعب دوراً إيجابياً في السيطرة على مسار الاحتجاجات”، محذراً من” أن روسيا سترتكب خطأ جسيماً، إذا لجأت إلى استخدام التناقضات والخلافات الداخلية، أدواتٍ ووسائل للتدخل لمصلحة حليفها الرئيس سركسيان”.
النزاع الدائم مع آذربيجان
حرص سركسيان خلال ولايتين في الرئاسة على تعزيز علاقات بلاده مع روسيا وتمرير سياساتها ليس في بلاده وحسب، بل في المنطقة ككل، فلقد انضم إلى الاتحاد الأورواسي الذي يقوده الكرملين. وتمتلك روسيا قاعدة عسكرية تضم 4 آلاف عسكري في (غيومري) التي تعد ثاني أكبر مدينة في أرمينيا وتقع على الحدود مع تركيا والبالغ طولها 300 كيلومتر. شدد كالاجوف على “أن روسيا تعي وتدرك جيداً أن القضية المحورية بالنسبة إلى أرمينيا هي خطر اندلاع الحرب مع آذربيجان”، وقال “يريفان تعتمد بالكامل على روسيا في تجهيز قواتها المسلحة بالسلاح والمعدات العسكرية”.
روسيا تدعم أرمينيا في صراعها الدائم مع آذربيجان حول إقليم ناغورني كاراباخ الذي نشب عندما سيطر انفصاليون عليه وضموه إلى أرمينيا، بل تكاد السلطات الأرمينية تكون “ذراعاً” لقيصر موسكو الذي من دونه لن تتمكن أرمينيا من مواجهة آذربيجان الغنية بالنفط، لا سيما أن حرب الأيام الأربعة التي اندلعت بين البلدين في نيسان/ أبريل عام 2016، أظهرت القدرات العسكرية المتنامية وعزمها الواضح على استعادة الإقليم الذي تعتبره محتلاً من أرمينيا. وتعود جذور أزمة “ناغورني كاراباخ” إلى عام 1992 إبان سقوط الاتحاد السوفياتي، عندما سيطر الانفصاليون المدعومون من أرمينيا على الإقليم الآذري في حرب دامية راح ضحيتها نحو 30 ألف قتيل إضافةً إلى نزوح مئات الآلاف، وعلى رغم استمرار التفاوض بين البلدين منذ وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عام 1994، إلا أن المناوشات، والتهديدات باندلاع الحرب ما تزال مستمرة، في ظل عدم توقيع أي من الطرفين على معاهدة سلام دائم. ويلفت كالاجوف إلى “أن الشركات الروسية الكبرى تسيطر على كل قطاع الطاقة في أرمينيا”. ورجح المحلل افغيني مينتشينكو “أن تواصل موسكو انتهاج سياسة براغماتية في التعامل مع الأزمة السياسة الناشئة في أرمينيا”.
الفرح الذي ساد بريفان مع تنحي سركسيان هو تعبير عن انتصار، ولو مرحلياً، لفكرة الديموقراطية في بلد عانى طويلاً من الاستبداد، وكانت “الثورة المخملية” كما سماها باشينيان، احتجاجاً على سياسات وممارسات داخلية، ولم تكن ذات أبعاد سياسية خارجية. ويرى كالاجوف أن “أرمينيا لا تستطيع الصمود أمام التحديات الخارجية من دون دعم روسيا، على خلفية أن ميزانية الدولة السنوية هي أقل بكثير من حجم النفقات الدفاعية وحدها في الموازنة الآذربيجانية”. وقال مينتيشينكو: “اشتهر سركسيان بكونه دمية لروسيا، إلا أن المحتجين والمتظاهرين في شوارع أرمينيا لم يرفعوا أي شعارات معادية لروسيا، بل اقتصرت على الرئيس المتهم بتعميم الفساد وتزوير الانتخابات وتفاقم الأوضاع الاقتصادية وتسليم موارد البلاد لمجموعة صغيرة من الأوليغارشيين الفاسدين، والهزيمة العسكرية أمام آذربيجان”.