أبرز ما جاء في ردّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على حادثة صفعه من قبل مواطن فرنسي “ملكي”، كان تأكيده أن التعبير عن الغضب في صلب الديموقراطية. وهذا الحق في التعبير عن الغضب لا يستثني أحداً في الديموقراطية الفرنسية، ولا حتى رئيس الجمهورية. فالقانون الفرنسي يكفل حق المواطنين بحرية التعبير عن سخطهم وغضبهم واستيائهم. ويكفل حتى أن يشتم المواطن الرئيس.
كثيرون في لبنان تمنّوا أن يتلقى رئيسنا (لا سمح الله!) صفعة شبيهة بالصفعة التي تلقّاها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. وكثيرون تجرّأوا وعبّروا عن هذا التمني عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بعضهم، وهم قلّة، فكّروا في الأمر وخافوا أن يعبّروا عنه، لأن للرئيس اللبناني ميشال عون سوابق في ملاحقة الذين يتعرضون له، استناداً إلى القانون الذي يمنع المسّ بمقام رئاسة الجمهورية، إذ يقوم عبر تطويع القضاء، بسجنهم احتياطياً من دون محاكمة ومعاقبتهم قبل صدور أحكام قضائية مبرمة.
وكثيرون، وبينهم ياسمين مصري، يرون في التعبير عن الغضب في وجه الطبقة السياسية، حقّاً مكفول. ولهذا، حينما رأت ياسمين جبران باسيل في أحد مطاعم البترون، عبّرت عن غضبها في وجهه. قالت له: “تفه عليك”. فما كان من مرافقيه إلا أن تعرضوا لها بالضرب والإهانات. وأبعد من ذلك، طلب باسيل من جميع مناصريه والمنتسبين إلى “التيار الوطني الحر”، “عدم السكوت إطلاقا والرد بما يناسب على أي اعتداء كلامي أو معنوي أو جسدي يتعرض له أي شخص منهم على يد بعض الناس الذين لا يقيمون للكرامة وزناً”. هكذا، يطلب رئيس التيار الوطني الحرب، والنائب في البرلمان اللبناني من مناصريه أن يأخذوا حقهم بأيديهم، من دون ان يقيموا وزناً للقانون.
على عكس ماكرون، الذي شدد خلال ردّه على الصفعة، على أحقية الناس في التعبير عن غضبهم، لم يشر باسيل نهائياً إلى اي حق لبناني بالغضب، كمعطى ديمقراطي، بل ذهب إلى تكريس منطق “عشائري” انتقامي، يبرر لمريديه ومناصريه “الردّ بما يتناسب” على اي غضب ديمقراطي يطال المسؤولين العونيين، وعلى رأسهم باسيل وعمّه رئيس الجمهورية ميشال عون، المحمي من الغضب بمادة قانونية تجرّم إهانة رئيس الجمهورية، وهي مادة مكتوبة بحبر فرنسي، كانت معتمدة في القانون الفرنسي حتى عام 2013، قبل أن تقوم فرنسا بإلغائها تماماً لمصلحة حرية التعبير.
جاء القرار الفرنسي بعدما قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن فرنسا انتهكت حق متظاهر في حرية التعبير، عندما قامت بتغريمه لحمله لافتة موجهة إلى الرئيس السابق نيكولا ساركوزي تقول، “أغرب عن وجهي أيها الأحمق”، وهي عبارة استخدمها ساركوزي نفسه لفظياً لاهانة رجل رفض مصافحته وسط حشد من الناس.
اللغة التي استخدمتها الصبية ياسمين مصري، لا تحيد عن لغة واظب رئيس الجمهورية قبل أن يصل إلى بعبدا، على استخدام مفرداتها في خطابه السياسي، حينما وصف صحافياً بـ”الخريان”، أو حينما قال لسياسي خصم “ما بتوصل لتحت زنّاري” وسوى ذلك. فلا بأس أن يسمع جبران باسيل كلاماً من طراز “تفه عليك” وهو في سدّة المسؤولية، وله ما له من نفوذ في السلطة، ومشاركة عميقة في ما آلت إليه أوضاع اللبنانيين بسبب سياساته مع بقية الطبقة السياسية.
لا يستطيع باسيل أن يستوعب مفهوم “حرية التعبير” خارج إطار حريته هو في التصرف كما يشاء من دون حسيب أو رقيب، وخارج إطار نفوذه الذي يمكّنه من تأديب الناس بأيدي مرافقيه، من دون أي اعتبار للقانون.
الصفعة التي تلقّاها ماكرون لا تدخل بالطبع ضمن حرية التعبير، وعرّضت الشاب الذي أقدم عليها، للملاحقة القانونية، وسيسجن لمدة أربعة أشهر مع دفع غرامة مالية. وهذه الملاحقة لا ترتبط بضرب الشاب رئيس جمهورية، إذ لا يميّز القانون الفرنسي رئيس الجمهورية عن غيره من المواطنين الفرنسيين، إلا أن الشاب المعتدي لوحق بتهم تعرضه لشخص يتمتع بـ”سلطة عمومية” بإيذاء جسدي، مثل أي موظف عمومي يتعرض لاعتداء جسدي أثناء تأدية مهماته.
كان الشاب الفرنسي لينجو من أي ملاحقة فيما لو قال لماكرون: “تفه عليك”، بدل صفعه. وما كان ليحدث شيء. كان ليمضي ماكرون بلا أي رد فعل يذكر من مرافقيه. وربما كان ماكرون ليجيبه بما يجده مناسباً، كلاماً في وجه كلام، في تكريس للحق في الغضب والتعبير عنه مشافهة، مع أخذ اعتبار لتوازن القوى ومواقع الشاتم والمشتوم. فالمواطن الذي يشتم رئيسه، يعبّر عن غضبه من أداء الرئيس، ولا يشتمه لأسباب شخصية. لم تقل ياسمين مصري لجبران باسيل “تفه عليك” لأسباب شخصية. غضب ياسمين ليس خاصاً أو شخصياً، بل هو غضب سياسي، في ظلّ نظام أوصل اللبنانيين إلى الحضيض وتسبب في تفجير مدينتهم وتفقير أبنائهم وتهجيرهم.
بهذا المعنى، “تفه عليك” ليست شتيمة، بل صفعة سياسية، يفترض أن تُشعر جبران باسيل ببعض الخزي والخجل. لكنه بدلاً من ذلك، أصدر بياناً، في عزّ حزيران/ يونيو، يؤكد فيه أن “الدنيا عم تشتّي”!
إقرأوا أيضاً: