fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

جرائم طنطاوي… لا تسقط بالموت ولا بشهادة نزاهة من السيسي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي شهادة نزاهة، غسل فيها يد رئيس المجلس العسكري الأسبق محمد حسين طنطاوي من دماء المصريين، هكذا يزيف التاريخ ونحن أحياء وشاهدون على كل كواليس المذابح.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“هذا الرجل العظيم كان سبباً حقيقياً في حماية مصر من السقوط، هذا الرجل بريء من أي دم حدث في أحداث محمد محمود، وستاد بور سعيد، وماسبيرو، والمجمع، والله العظيم المشير طنطاوي بريء من أي دماء شهدتها مصر خلال فترة المجلس العسكري… بريء منها”.

هكذا منح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي شهادة نزاهة، غسل فيها يد رئيس المجلس العسكري الأسبق محمد حسين طنطاوي من دماء المصريين، هكذا يزيف التاريخ ونحن أحياء وشاهدون على كل كواليس المذابح، لكن هل تنجح شهادة السيسي في منح طنطاوي “شهادة للتاريخ” بالنزاهة والحِكمة، بخاصة بعد رفع تمثال تذكاري في قلبِ مسقط رأسه في مدينة أسوان بعد وفاته بساعات، تخليداً لذكراه؟

جرائم لا تسقط بالتقادم

لا تنجح شهادة السيسي في تبرئة طنطاوي من الدماء التي سالت بين يديه في ميدان التحرير ومناطق أخرى، خلال فترة حكم المجلس العسكري، لا أحد يعرف إنْ كان أصدر الأوامر بإطلاق النار أم لا، لكن المسؤولية السياسية بحكم موقعه وقيادته لقوات الجيش والشرطة التي قتلت متظاهرين وسهلت قتل مشجعين. لم تكن أحداث محمد محمود وماسبيرو ومجلس الوزراء وبور سعيد سوى رؤوس جبال عامرة بالدماء والضحايا وجثامين الضحايا الذين كانوا يبحثون عن الحرية ويقاومون جبروت المجلس العسكري، الذي كان يدير البلاد عنوةً من دون سند قانوني أو دستوري أو شعبي، وعلى رغم ذلك حاولت قوى مختلفة، تابعة أو داعمة للجيش، إلصاق الاتهامات بالمؤامرات والأجندات الأجنبية وأصابع الإخوان المسلمين، وإيران و”حماس”، وغير ذلك من الدسائس التي لم تقنع أحداً، ولم تثبت قضائياً أو سياسياً.

رئيس المجلس العسكري الأسبق محمد حسين طنطاوي

في أحداث ماسبيرو، التي وقعت في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2011، وعرفت بـ”يوم الغضب القبطي”، وراح ضحيتها 28 مسيحياً مصرياً، حاول الإعلام إحالة الأمر إلى فتنة طائفية، مسيحيون يتظاهرون لأجل كنيسة، ورد الإخوان بسرقة مدرعات عسكرية وقيادتها ودهس المتظاهرين، إلا أن ما رآه الجميع هو تورط قوات عسكرية بقيادة اللواء المصري حمدي بدين، الذي يدين له الثوار بالكثير من الكراهية حتى الآن. 

كان المشير طنطاوي هو الرئيس الفعلي لمصر، بينما أثبتت اللقطات تورط قوات “بدين” في دهس المتظاهرين، وثبت ذلك قضائياً أيضاً، فتمَّت محاكمة 3 مجندين عسكريين بتهمة “القتل الخطأ”، ووجّهت لهم النيابة العسكرية رسمياً اتهامات بـ”التسبب بخطئهم في موت 14 شخصاً من المتجمهرين أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون لإهمالهم وعدم احترازهم وذلك لكونهم سائقي المركبات والمدرعات التابعة للقوات المسلحة بعدما قادوها بطريقة عشوائية لا تتناسب وحالة الطريق الزاخر بالمتجمهرين”. 

يليقُ هذا الاتهام بالمشير طنطاوي أكثر من الجنود الثلاثة، فقد قاد مدرعات مصر طوال فترة إدارته البلاد بطريقة عشوائية لا تتناسب مع الطريق الزاخر بالغاضبين والمتجمهرين، فدهس كثيراً، وحمَّل جنوداً “يتلقّون الأوامر” المسؤولية بالكامل، وربما يمضون حتى الآن فترة عقوبتهم، بينما ما حصل كان، كما هو واضح في الفيديوات التي صوّرت الحادث، مقصوداً ومتعمداً وتنفيذاً للأوامر، لكن الذين أصدروا الأوامر لم يُقدموا لمحاكمات، سواء لقربِهم من طنطاوي أو لكونهم جنرالات. أزال السيسي عن طنطاوي مسؤولية إصدار الأوامر، لكنه لم ينزع عنه المسؤولية الأكبر، وهي تقديم المتورطين للعدالة، والقدرة على كفّ الدماء، فالأحداث التي أدارها بعناية وبرغبة عارمة في سحق المتظاهرين أوحت لجميع من عملوا معه بأن تلك الدماء بلا ثمن، فأصبح خيارهم الأول هو الدهس والقتل، طالما أن آخرين سيحاسبون. 

كان معلوماً ما يحصل لإخفاء الحقيقة ومحاسبة “غير متورطين” منذ يوم الأحداث، فقالت منظمة “هيومان رايتس ووتش” إن “اعتزام المؤسسة العسكرية المصرية السيطرة على التحقيق في واقعة استخدام القوة ضد متظاهرين أقباط عُزل يثير المخاوف إزاء محاولة إخفاء حقيقة ما حدث”ـ

وأضافت: “لا يمكن الجيش أن يحقق مع نفسه بأدنى قدر من المصداقية. كانت هذه بالأساس مظاهرة سلمية إلى أن استخدم الجيش القوة المفرطة وإلى أن دهست عربات عسكرية المتظاهرين. الأمل الوحيد لتحقيق العدالة للضحايا هو إجراء تحقيق مستقل ومدني، يتعاون معه الجيش تماماً ولا يتسنى له السيطرة عليه ويؤدي إلى الملاحقة القضائية للجناة والمسؤولين عما حدث”.

لم يقترب الجيش، بقيادة المشير طنطاوي، من ذلك، وكان التجاهل متسقاً مع عشرات حالات التعذيب على يدِ الجيش، والتي وثقتها “هيومان رايتس ووتش” عام 2011 فقط، إلى جانب 7 قصص لسيدات خضعن لكشوف عذرية، وانحسرت إدارة طنطاوي للأزمات في جانبين، الأول هو السماح بارتكاب جرائم دموية، والثاني هو تجاهل الفاعلين الأساسيين، والأحكام المخففة لمتورطين هامشيين بعد تقديمهم “أضحيةً للعدالة”. لم يُعثر على ورقة أو وثيقة تؤكد أن حسني مبارك، الرئيس الذي قامت ثورة لخلعه، أصدر أوامر بقتل المتظاهرين، لكن من يتحمل المسؤولية السياسية عن حماية الشعب حين تتوه الحقائق في ركام الأكاذيب؟

لن تجد، طوال تلك الحقبة، سوى المشير طنطاوي، الذي كان بمثابة رئيس لمصر. كان الرجل يختفي طويلاً، ويترك رجاله يتعاملون ببيادقهم وبنادقهم ومدرعاتهم، ويخرج ليواسي، ويحيل الأمر للقضاء وفق خطة مُحكمة لامتصاص الغضب، وتبرئة الفاعلين تدريجياً، وأبرز هؤلاء “قناص العيون” محمود صبحي الشناوي، ضابط الشرطة الذي كان يحمل قناصة في أحداث محمد محمود ويضرب رصاصه في عيون المتظاهرين مباشرة، وعلى رغم ثبوت التهمة على قناص العيون، صدر بحقه حكم بالسجن 3 سنوات فقط، أمضى أغلبها حراً طليقاً ضابطاً بالشرطة

كان يمكن أن يمرّ ما فعله هكذا من دون حساب كما حصل مع قناصة متظاهري 25 يناير، لكن لسوء حظه أنه تم تصويره بالصوت والصورة وهو يقنص، وأحد أتباعه يشجعه ويحييه: “جدع يا باشا، جت في عينه”. لولا تلك اللقطة لما خضع للمحاكمة من الأساس، ونُسبت قضيته إلى مجهول، كما أراد المشير طنطاوي أن تُنسب مسؤوليته السياسية إلى “مجهول متورّط بالأحداث” أيضاً.

كان المشير طنطاوي هو الرئيس الفعلي لمصر، بينما أثبتت اللقطات تورط قوات “بدين” في دهس المتظاهرين.

عام 2011، كان جنرالات الجيش يديرون كل شيء، بخاصة وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة “الأمن الوطني” بعد نكستهما في 25 يناير، وحين شهد شارع محمد محمود أحداثاً دامية، اعتدت قوات الأمن المركزي التابعة للداخلية على العشرات من مصابي الثورة وأهالي بعض الضحايا المعتصمين لتبدأ شرارة جديدة. كان اعتداءً وحشياً من جانب قوات الأمن بالهراوات وقنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وكأن الشرطة تنتقم لشرفِها على مرأى ومسمع من قوات الجيش، التي انضمت إليها في ما بعد ليتحوّل شارع محمد محمود إلى الموجة الثانية من ثورة يناير. 

هل كان المشير طنطاوي متورطاً؟ لم يتدخل، على الأقل، لتهدئة الشرطة، أو إصدار أوامره بوقف اعتداءاتها، واستكمل خططه لوضع بنود تفضل المؤسسة العسكرية في الدستور، الذي كان يُعد في ذلك الوقت، على رغم رفض القوى المدنية، والأسوأ من ذلك أن سلطته تركت قوات الشرطة تصفي الثوار جسدياً وتطلق الرصاص في الوجه مباشرةً وتهاجم المستشفيات الميدانية بشكلٍ وصفه مركز النديم بـ”الإبادة الجماعية للمتظاهرين“. قُتل المئات وأصيب الآلاف وعلى خلفية أحداث محمد محمود، التي تحولت إلى “كربلاء الثورة”، طالبت منظمة العفو الدولية بوقف تصدير الأسلحة والقنابل المسيلة للدموع للداخلية المصرية حتى إعادة هيكلة الشرطة، من دون أن يحرك المشير طنطاوي إصبعاً واحدة ليمنع استمرار سقوط الضحايا والمصابين، على رغم أنه الوحيد الذي كان يملك قرار تهدئة الأوضاع بالأمر المباشر. لكن ما تسرّب من معلومات كان يشير إلى أن تلك كانت استراتيجيته في تطويع الأمور لما يريده بطرائق عنيفة، فوافق قبل ذلك، على استيراد 45.9 طن من قنابل الغاز والذخائر المطاطية، حتى لا يتكرر سيناريو انتصار المتظاهرين على الشرطة مجدداً، على رغم أن جنوداً مصريين كانوا يقتلون على الحدود في أحداث مختلفة كأحداث رفح الشهيرة، بينما الرجل وأجهزته والدولة التي بدأ يثبت مراكز قواها منشغلة في الداخل، بسحق المتظاهرين مهما كلفها ذلك من أثمان باهظة. 

تكرر ما حصل في محمد محمود ولكن بـ”صورة مصغرة” في ميدان التحرير، وراح ضحيتها 40 متظاهراً، لتندلع تظاهرات شديدة في ميدان التحرير وتصل إلى مقر مجلس الوزراء، احتجاجاً على تعيين كمال الجنزوري (أحد وجوه عصر مبارك البارزة) رئيساً للحكومة. وبدأت الأحداث تزداد اشتعالاً باختطاف القوات العسكرية المتمركزة داخل مقر المجلس لتأمينه، أحد المعتصمين والاعتداء عليه بالضرب.

وفي المواجهة، استخدمت قوات الجيش خراطيم المياه، والهراوات، والحجارة، وكانت حصيلة المصابين 235 متظاهراً في اليوم الأول. واستمرت المطاردات بين قوات الشرطة العسكرية والمتظاهرين. استمرت أحداث مجلس الوزراء أسبوعاً (ما بين 16 و23 كانون الأول/ ديسمبر)، تخللها ضرب متبادل، وتعرية للمتظاهرات وسحق للمتظاهرين، وارتفع عدد الضحايا إلى 17 قتيلاً و1917 مصاباً.

لم يكن لدى المشير ما يقوله، ترك الساحة فارغة، أصدر بيانات لإدانة المتظاهرين على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت تلك البيانات دفعاً إضافياً لقوات الجيش والشرطة لسحق المتظاهرين أكثر والاستمرار في إسالة الدماء والاستخدام المفرط للعنف، وسط محاولات من نواب للوصول إلى هدنة. في تلك اللحظة، اعتبر طنطاوي نفسه حكماً محايداً بين الطرفين، القوات من جانب والشعب من جانب آخر، وانتظر المنتصر ليحييه في النهاية، والجريح ليزوره في مستشفى القبة العسكري، فزار جرحى الجيش والشرطة والمدنيين، في تلك الاشتباكات، وكأنه يحييهم على عملِهم البطولي… وطالما أنه يحيي المعتدي صاحب القوة الأكبر، كانت سطوته تزداد واستخدامه العنف يتضاعف، وضحاياه يتزايدون يومياً بمباركة من القائد، وإن كان لم يعلنْ ذلك صراحة.

أدمن المشير دور الرجل الثاني، فلم يكن يستوعب أنه فعلياً رئيس مصر في تلك الفترة. مسؤول عن الجميع، ويحمي الجميع، ويفصل بين الجميع، وسيطرت عليه خلفيته العسكرية التي تمرّغ في ترابها طوال مسيرته، فكان يختار معسكراً ويقف فيه ليقصف الأعداء، فلم تكن بالنسبة إليه المعركة بين الجيش والشرطة والشعب الذي يجب أن يحميانه، إنما بين الحق والباطل، وبين أهل الخير وأهل الشر، وبين الأصدقاء والأعداء. وكان الشعبُ عدوه فبارك قتله وإبادته. إن لم يكن بالأمر المباشر وشراء الأسلحة اللازمة (التي ثبت شراء الكثير منها من ميزانية الدولة وموافقة أصحاب القرار بعد 25 يناير)، فبالصمت.

الجريمة الأخرى، التي يتحمّل مسؤوليتها المشير طنطاوي هي أحداث “ستاد بور سعيد”، حين سقط 72 مشجعاً من جمهور الأهلي في مباراة بين النادي الأحمر والمصري. لم يكن الأمر عداءً بين جمهوري الأهلي والمصري فقط، إنما عداء قديم وممتد بين الألتراس أهلاوي وقوات الداخلية. أكدت تقارير الطب الشرعي وجود وفيات ناتجة عن طلقات نارية وطعنات بالأسلحة البيض، وسببت قنابل الغاز حالات اختناق. وكشف تورط الشرطة، بخلاف تقرير الطب الشرعي، ما قاله النائب الممثل لبور سعيد، البدري فرغلي، حين اتهم قوات الأمن بالمشاركة في الحادث بسبب “سماحها بدخول أسلحة نارية وبيض إلى الملعب بخلاف العادة”، وكأن الشرطة تريد تأديب الألتراس (الذين كانت لهم بعض الأدوار السياسية والاحتجاجية) ولكن بأيدي مشجعي المصري. فُتح تحقيق فوري ولم يصل إلى شيء، فككل قضايا تلك المرحلة، كانت التحقيقات كبسولات مهدئة لا أكثر. وأكد فرغلي أن “اللافتة المسيئة لمحافظة بورسعيد والتي وضعت في مدرجات جماهير الأهلي مدسوسة على الأهلي لمحاولة إثارة الفتن وإحداث هذه الكارثة”، واتّهم الشرطة بأنّها لم تتوافد إلى الاستاد، على رغم أنّ الإسعاف أتى فور حدوث أعمال العنف.

كان المشير طنطاوي متأخراً أيضاً. كارثة تحدث في إحدى المحافظات، بينما جاء التحرك متأخراً، والتأمين متأخراً، وفض الاشتباك لم يحدث من الأساس، فالشرطة أغلقت الأبواب على جمهور الأهلي وتركته فريسة لجمهور بور سعيد “المسلّح”. 

وكي يحصل على اللقطة الختامية، ظهر أخيراً في انتظار الجثامين، في محطة القطارات، وقال: “الشعب سايب دول ليه، مش يتحرك؟!”. وفُهم من حديثه أنه لن يدخل عراكاً لأجل حماية الشعب، ويحرض على الحرب الأهلية، على رغم وجوده على رأس الدولة. وفُهم أيضاً، أن كل التحقيقات سيتم تجاهلها، وكل ما يدين الشرطة في الحادث سيتم تجاوزه، وإلصاق الاتهامات بأطياف سياسية أو جماعات أخرى. وكان يمارس الألعاب ليبقى في السلطة ممثلاً عن المجلس العسكري، يؤجل الانتخابات، يضرب بيد الشرطة ويعصف ببنادق الجيش، ويقتل بأسلحتهما معاً، ويحمي جميع “منفذي الأوامر” من المحاكمات، وفي مصر، في تلك الفترة تحديداً، لم يكن أحد يجرؤ على إطلاق الرصاص أو الوقوع في فخ الدماء من دون أن يحصل على وعد بالحماية من سلطة أعلى منه، وكان طنطاوي على رأس كل السلطات، فمنح جميع القوات وحملة البنادق وعوداً بالحماية، فسالت دماء كثيرة، ولم نجد من نحاسبه في النهاية، فكل الأدلة طُمست والتحقيقات أُلِّفت والتحريات دُسَّت، وكل الجرائم لُفِّقت إلى قوى خارجية، حتى إنه في أيار/ مايو 2012، رفع طنطاوي عصا الجيش بوجه شباب الإسلاميين (بعد زوال تحالفه مع قياداتهم)، وقتل عدداً من شباب حركة “حازمون” بعد تنظيمهم اعتصاماً سلمياً للمطالبة بتسليم السلطة بالقرب من وزارة الدفاع، وكانت تلك مواجهة مباشرة للجيش، لم يتم توريط الشرطة بها نيابة عنه، لتكتب نهاية فترة عاصفة من الدماء التي سالت بـ”الأمر”… لتؤكد أن كل الدماء التي سالت مسبقاً خرج القرار بسفكها من هنا، من هذا المبنى الذي يتمسَّك بالسلطة حتى النهاية، إلا أن زوال حاكمه الذي بقي لأطول فترة في تاريخه كان “مسألة وقت”.

طنطاوي… شاخ على مقعده

كان طنطاوي وزير دفاع لائقاً بمبارك، متقدماً في العمر ويبلغ 56 سنة- لحظة توليه – مرّت القوات المسلحة المصرية في عهده بالتدهور الكبير الذي جعل جهاز الشرطة يتقدّم عليها من حيث السلطة والأهمية والقدرة والتأثير في الشارع المصري، فكان مبارك يعتقدُ أن الداخلية هي التي تحرس له الملك، بينما تراجع دور الجيش وأهميته، وكان طنطاوي كمبارك، رجلاً عجوزاً شاخ على مقعده، لا يفضل المعارك، أو يبحث عن القوة، يكتفي بالحفاظ على بقائه حتى النهاية، ويخشى أن يقوم بأي محاولة لتحسين أوضاع الجيش، الذي وصل من ناحية الجاهزية العسكرية إلى أسوأ مستوياته، حتى لا يطيح به مبارك.

أكدت برقيات الخارجية، أنه “يحرص على استقرار النظام، والحفاظ على الوضع الراهن حتى نهاية أيامه، فهو بكل بساطة لا يملك الطاقة أو الرؤية ليتصرفَ بشكل مختلف”.

وسارت الأمور بهدوء طويلاً. لم يكن طنطاوي يبحث سوى عن التقدير المعنوي ولا يطمع في السلطة فتصوراته عن الحياة ورفاهياتها محدودة بحكمِ فترة خدمته الطويلة في الجيش بسلاح المشاة الأكثر قسوة وتقشفاً، على عكس مبارك الذي كان قائداً لسلاح الطيران الذي يسمّى في الأوساط العسكرية بـ”الكعب العالي”، وكان مبارك يعرف ذلك، فرقّاه مرتين بعد توليه منصب وزير الدفاع. في المرة الأولى، جعله فريقاً أول، وبعدها بعامين، منحه رتبة “مشير”.

“الرجل الثاني أو الثالث”!

لم يكن مؤهلاً لدور الرجل الأول، كان دور الرجل الثاني أو الثالث يليق به. فلم ينجح في إدارة الدولة التي تهتز بفعل العواصف الآتية من الثوار والدولة العميقة والخارج. وكان يعرف أن إهانة مبارك أو أسرته تنطوي على إهانة للجيش، وأنه إذا استجاب لكل ما يريدُه الثوار لن ينجح، لأن ذلك لن يناسبَ قادة الجيش، المرتبطين بعلاقات مصالح مع النظام القائم، بدأ في ترويض شباب الثورة واستضافتهم والتواصل معهم واحتوائهم، وحماية النظام بمفهومه الواسع، النظام الذي يتجاوز الأفراد إلى شبكات المصالح المؤسِّسة له، وبدأ نشر العسكريين في جميع مفاصل الدولة، ومنحهم الأولوية بدلاً من رجال الأعمال وأتباعهم، ذوي الولاء لجمال مبارك، ومن دون أن يدري، بدأ قيادة الثورة المضادة.

لن تجد، طوال تلك الحقبة، سوى المشير طنطاوي، الذي كان بمثابة رئيس لمصر.

فتح ملف التمويل الأجنبي لتخويف النشطاء، وأشعل الخلافات بين شباب الثورة، تودّد لبعضهم وأبعدَ البعض الآخر، فانقلبوا على بعضهم، وتقول أغلب الروايات إن لواءً مقرباً منه كان مهندس ذلك، حين كان طنطاوي، في ذلك الوقت، رجلاً عجوزاً يبلغ من العمر 76 سنة، لا يقوى على استيعاب تلك الأحداث: إدارة المناورات والألاعيب مع الثورة الفتية التي عصفت بنظام قائم منذ 30 عاماً. وكان السيسي مديراً للمخابرات الحربية، رشّحه طنطاوي، وكان يعتبره أقرب الضباط إليه، وكان أكثر قرباً من الأحداث والشباب ووعياً بما يدور في الميدان بحكم منصبه المعلوماتي، فكان مسؤولاً عن بعضِ ما حصل، والتقاه الكثير من نشطاء يناير، فكان يدير اللعبة من وراء الستار تحت عباءة طنطاوي، على رغم إشارة بعض الشائعات إلى عدمِ قبوله من جانب سامي عنان، وهو ما تُرجم في ما بعد خلافات سياسة، فكان يخطط للترشح للرئاسة ضده، وقابل السيسي ذلك بالقبض عليه وإيداعه السجن لعامين. ما يعني أن السيسي كان مدعوماً من طنطاوي طوال الوقت، فالصعود داخل العسكرية إلى درجة مدير المخابرات الحربية، وهو منصب رفيع المستوى، يستلزم الكثير من العلاقات والقُرب الشخصي، والثقة المتبادلة. 

بتتبع الأحداث، يمكن أن تلاحظ أن طنطاوي فكر في الترشح للرئاسة لتتحول رئاسته الرمزية إلى رئاسة فعلية للبلاد، لكنه لم يجد قبولاً، على رغم تقديمه الكثير لشباب الثورة، فقد سمح بتقديم مبارك للمحاكمة، هو ورموز نظامه.

وكانت القضايا تعج بالثغرات القانونية، التي سمحت لاحقاً بما عرف بمهرجان “البراءة للجميع“، لكن طنطاوي التقط الخيط مبكراً مع الحديث عن إجراء انتخابات رئاسية، وحاول اختبار شعبيته بالتجول في وسط القاهرة ببدلة مدنية للمرة الأولى، ليجد هجوماً عنيفاً من الجميع، ليفسحَ الطريق لآخرين، يمكنهم منحه الحماية، أكثر من دعمه في معركة رئاسية.

من هنا يمكن أن تفسر اعتزاز الرئيس الحالي بـ”طنطاوي”، فقد حقق صعوده العسكري في عهده حتى وصل إلى مقعد الرئاسة، تمكّن من حمايته خلال عهد مرسي من المحاكمة، حين تمّت تنحيته من منصب وزير الدفاع ومنحه قلادة النيل، فلم تُفتح قضايا سالت بها دماء كأحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومذبحة بور سعيد مجدداً.

قائد السيسي دائماً

لم تكن عقلية طنطاوي وعمره الكبير يسمحان له بالتقدم السياسي، أو إدارة الدولة.

وبعد فشله في طرح اسمه مرشحاً محتملاً للرئاسة، تقرب طنطاوي من الإخوان والسلفيين حتى هتفوا: يا مشير، أنت الأمير. ثم لجأ إلى تأجيل جميع الاستحقاقات الدستورية والتشريعية، لتبقى السلطة بيده عبر المجلس العسكري، فحل البرلمان المنتخب بحجة الأغلبية الإخوانية بقرار من المحكمة الدستورية، وأصدر الإعلان الدستوري في حزيران/ يونيو 2012 لينصّب المجلس العسكري رسمياً بحيازة السلطة التشريعية بديلاً عن البرلمان، ومسؤولاً عن وضع الدستور الجديد.

انتُخب مرسي رئيساً، ونال التحية العسكرية من طنطاوي، على رغم محاولاته التضييق عليه إلا أن الثعلب العجوز لم يصمدْ طويلاً. استرد مرسي سلطة التشريع، ودبّت الخلافات بينهما، وتقبل طنطاوي عزله وإصدار إعلان دستوري جديد في آب/ أغسطس 2012، من دون أي مقاومة.. عاد الرجل وحيداً و”قلقاً” من المحاكمة، لكن تعيينه مساعداً للرئيس وقلادة النيل التي حصل عليها كانا يحصّنانه ويحميانه، وتردّدت أنباء عن أن طنطاوي هو من رشح السيسي ليكون وزير الدفاع من بعده، حتى إن السيسي كان يقدم له التحية العسكرية بصفته “قائده ومعلمه” كلما رآه، واعتبره مرجعه في بعض الأمور السياسية والتاريخية، واستجاب له في طلبه الإفراج عن سامي عنان لاحتواء غضب بعض الأجنحة داخل الجيش، الذي يجب أن يبقى على قلب رجل واحد، عبر علاقات جمعها طوال 21 عاماً في وزارة الدفاع، فضلاً عن مطاردة رجال مبارك وعمر سليمان داخل الأجهزة بالقدر نفسه الذي تمّ به تنظيف الدولة من الإخوان، وكان من ضمن ما أقدم عليه هو الشهادة ضد ثورة يناير في “جلسة سرية” عام 2013، ليؤكد أنها “مخطط خارجي نبّهت له أجهزة المعلومات قبل وقوعه”. 

إقرأوا أيضاً:

04.10.2021
زمن القراءة: 13 minutes

منح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي شهادة نزاهة، غسل فيها يد رئيس المجلس العسكري الأسبق محمد حسين طنطاوي من دماء المصريين، هكذا يزيف التاريخ ونحن أحياء وشاهدون على كل كواليس المذابح.

“هذا الرجل العظيم كان سبباً حقيقياً في حماية مصر من السقوط، هذا الرجل بريء من أي دم حدث في أحداث محمد محمود، وستاد بور سعيد، وماسبيرو، والمجمع، والله العظيم المشير طنطاوي بريء من أي دماء شهدتها مصر خلال فترة المجلس العسكري… بريء منها”.

هكذا منح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي شهادة نزاهة، غسل فيها يد رئيس المجلس العسكري الأسبق محمد حسين طنطاوي من دماء المصريين، هكذا يزيف التاريخ ونحن أحياء وشاهدون على كل كواليس المذابح، لكن هل تنجح شهادة السيسي في منح طنطاوي “شهادة للتاريخ” بالنزاهة والحِكمة، بخاصة بعد رفع تمثال تذكاري في قلبِ مسقط رأسه في مدينة أسوان بعد وفاته بساعات، تخليداً لذكراه؟

جرائم لا تسقط بالتقادم

لا تنجح شهادة السيسي في تبرئة طنطاوي من الدماء التي سالت بين يديه في ميدان التحرير ومناطق أخرى، خلال فترة حكم المجلس العسكري، لا أحد يعرف إنْ كان أصدر الأوامر بإطلاق النار أم لا، لكن المسؤولية السياسية بحكم موقعه وقيادته لقوات الجيش والشرطة التي قتلت متظاهرين وسهلت قتل مشجعين. لم تكن أحداث محمد محمود وماسبيرو ومجلس الوزراء وبور سعيد سوى رؤوس جبال عامرة بالدماء والضحايا وجثامين الضحايا الذين كانوا يبحثون عن الحرية ويقاومون جبروت المجلس العسكري، الذي كان يدير البلاد عنوةً من دون سند قانوني أو دستوري أو شعبي، وعلى رغم ذلك حاولت قوى مختلفة، تابعة أو داعمة للجيش، إلصاق الاتهامات بالمؤامرات والأجندات الأجنبية وأصابع الإخوان المسلمين، وإيران و”حماس”، وغير ذلك من الدسائس التي لم تقنع أحداً، ولم تثبت قضائياً أو سياسياً.

رئيس المجلس العسكري الأسبق محمد حسين طنطاوي

في أحداث ماسبيرو، التي وقعت في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2011، وعرفت بـ”يوم الغضب القبطي”، وراح ضحيتها 28 مسيحياً مصرياً، حاول الإعلام إحالة الأمر إلى فتنة طائفية، مسيحيون يتظاهرون لأجل كنيسة، ورد الإخوان بسرقة مدرعات عسكرية وقيادتها ودهس المتظاهرين، إلا أن ما رآه الجميع هو تورط قوات عسكرية بقيادة اللواء المصري حمدي بدين، الذي يدين له الثوار بالكثير من الكراهية حتى الآن. 

كان المشير طنطاوي هو الرئيس الفعلي لمصر، بينما أثبتت اللقطات تورط قوات “بدين” في دهس المتظاهرين، وثبت ذلك قضائياً أيضاً، فتمَّت محاكمة 3 مجندين عسكريين بتهمة “القتل الخطأ”، ووجّهت لهم النيابة العسكرية رسمياً اتهامات بـ”التسبب بخطئهم في موت 14 شخصاً من المتجمهرين أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون لإهمالهم وعدم احترازهم وذلك لكونهم سائقي المركبات والمدرعات التابعة للقوات المسلحة بعدما قادوها بطريقة عشوائية لا تتناسب وحالة الطريق الزاخر بالمتجمهرين”. 

يليقُ هذا الاتهام بالمشير طنطاوي أكثر من الجنود الثلاثة، فقد قاد مدرعات مصر طوال فترة إدارته البلاد بطريقة عشوائية لا تتناسب مع الطريق الزاخر بالغاضبين والمتجمهرين، فدهس كثيراً، وحمَّل جنوداً “يتلقّون الأوامر” المسؤولية بالكامل، وربما يمضون حتى الآن فترة عقوبتهم، بينما ما حصل كان، كما هو واضح في الفيديوات التي صوّرت الحادث، مقصوداً ومتعمداً وتنفيذاً للأوامر، لكن الذين أصدروا الأوامر لم يُقدموا لمحاكمات، سواء لقربِهم من طنطاوي أو لكونهم جنرالات. أزال السيسي عن طنطاوي مسؤولية إصدار الأوامر، لكنه لم ينزع عنه المسؤولية الأكبر، وهي تقديم المتورطين للعدالة، والقدرة على كفّ الدماء، فالأحداث التي أدارها بعناية وبرغبة عارمة في سحق المتظاهرين أوحت لجميع من عملوا معه بأن تلك الدماء بلا ثمن، فأصبح خيارهم الأول هو الدهس والقتل، طالما أن آخرين سيحاسبون. 

كان معلوماً ما يحصل لإخفاء الحقيقة ومحاسبة “غير متورطين” منذ يوم الأحداث، فقالت منظمة “هيومان رايتس ووتش” إن “اعتزام المؤسسة العسكرية المصرية السيطرة على التحقيق في واقعة استخدام القوة ضد متظاهرين أقباط عُزل يثير المخاوف إزاء محاولة إخفاء حقيقة ما حدث”ـ

وأضافت: “لا يمكن الجيش أن يحقق مع نفسه بأدنى قدر من المصداقية. كانت هذه بالأساس مظاهرة سلمية إلى أن استخدم الجيش القوة المفرطة وإلى أن دهست عربات عسكرية المتظاهرين. الأمل الوحيد لتحقيق العدالة للضحايا هو إجراء تحقيق مستقل ومدني، يتعاون معه الجيش تماماً ولا يتسنى له السيطرة عليه ويؤدي إلى الملاحقة القضائية للجناة والمسؤولين عما حدث”.

لم يقترب الجيش، بقيادة المشير طنطاوي، من ذلك، وكان التجاهل متسقاً مع عشرات حالات التعذيب على يدِ الجيش، والتي وثقتها “هيومان رايتس ووتش” عام 2011 فقط، إلى جانب 7 قصص لسيدات خضعن لكشوف عذرية، وانحسرت إدارة طنطاوي للأزمات في جانبين، الأول هو السماح بارتكاب جرائم دموية، والثاني هو تجاهل الفاعلين الأساسيين، والأحكام المخففة لمتورطين هامشيين بعد تقديمهم “أضحيةً للعدالة”. لم يُعثر على ورقة أو وثيقة تؤكد أن حسني مبارك، الرئيس الذي قامت ثورة لخلعه، أصدر أوامر بقتل المتظاهرين، لكن من يتحمل المسؤولية السياسية عن حماية الشعب حين تتوه الحقائق في ركام الأكاذيب؟

لن تجد، طوال تلك الحقبة، سوى المشير طنطاوي، الذي كان بمثابة رئيس لمصر. كان الرجل يختفي طويلاً، ويترك رجاله يتعاملون ببيادقهم وبنادقهم ومدرعاتهم، ويخرج ليواسي، ويحيل الأمر للقضاء وفق خطة مُحكمة لامتصاص الغضب، وتبرئة الفاعلين تدريجياً، وأبرز هؤلاء “قناص العيون” محمود صبحي الشناوي، ضابط الشرطة الذي كان يحمل قناصة في أحداث محمد محمود ويضرب رصاصه في عيون المتظاهرين مباشرة، وعلى رغم ثبوت التهمة على قناص العيون، صدر بحقه حكم بالسجن 3 سنوات فقط، أمضى أغلبها حراً طليقاً ضابطاً بالشرطة

كان يمكن أن يمرّ ما فعله هكذا من دون حساب كما حصل مع قناصة متظاهري 25 يناير، لكن لسوء حظه أنه تم تصويره بالصوت والصورة وهو يقنص، وأحد أتباعه يشجعه ويحييه: “جدع يا باشا، جت في عينه”. لولا تلك اللقطة لما خضع للمحاكمة من الأساس، ونُسبت قضيته إلى مجهول، كما أراد المشير طنطاوي أن تُنسب مسؤوليته السياسية إلى “مجهول متورّط بالأحداث” أيضاً.

كان المشير طنطاوي هو الرئيس الفعلي لمصر، بينما أثبتت اللقطات تورط قوات “بدين” في دهس المتظاهرين.

عام 2011، كان جنرالات الجيش يديرون كل شيء، بخاصة وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة “الأمن الوطني” بعد نكستهما في 25 يناير، وحين شهد شارع محمد محمود أحداثاً دامية، اعتدت قوات الأمن المركزي التابعة للداخلية على العشرات من مصابي الثورة وأهالي بعض الضحايا المعتصمين لتبدأ شرارة جديدة. كان اعتداءً وحشياً من جانب قوات الأمن بالهراوات وقنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وكأن الشرطة تنتقم لشرفِها على مرأى ومسمع من قوات الجيش، التي انضمت إليها في ما بعد ليتحوّل شارع محمد محمود إلى الموجة الثانية من ثورة يناير. 

هل كان المشير طنطاوي متورطاً؟ لم يتدخل، على الأقل، لتهدئة الشرطة، أو إصدار أوامره بوقف اعتداءاتها، واستكمل خططه لوضع بنود تفضل المؤسسة العسكرية في الدستور، الذي كان يُعد في ذلك الوقت، على رغم رفض القوى المدنية، والأسوأ من ذلك أن سلطته تركت قوات الشرطة تصفي الثوار جسدياً وتطلق الرصاص في الوجه مباشرةً وتهاجم المستشفيات الميدانية بشكلٍ وصفه مركز النديم بـ”الإبادة الجماعية للمتظاهرين“. قُتل المئات وأصيب الآلاف وعلى خلفية أحداث محمد محمود، التي تحولت إلى “كربلاء الثورة”، طالبت منظمة العفو الدولية بوقف تصدير الأسلحة والقنابل المسيلة للدموع للداخلية المصرية حتى إعادة هيكلة الشرطة، من دون أن يحرك المشير طنطاوي إصبعاً واحدة ليمنع استمرار سقوط الضحايا والمصابين، على رغم أنه الوحيد الذي كان يملك قرار تهدئة الأوضاع بالأمر المباشر. لكن ما تسرّب من معلومات كان يشير إلى أن تلك كانت استراتيجيته في تطويع الأمور لما يريده بطرائق عنيفة، فوافق قبل ذلك، على استيراد 45.9 طن من قنابل الغاز والذخائر المطاطية، حتى لا يتكرر سيناريو انتصار المتظاهرين على الشرطة مجدداً، على رغم أن جنوداً مصريين كانوا يقتلون على الحدود في أحداث مختلفة كأحداث رفح الشهيرة، بينما الرجل وأجهزته والدولة التي بدأ يثبت مراكز قواها منشغلة في الداخل، بسحق المتظاهرين مهما كلفها ذلك من أثمان باهظة. 

تكرر ما حصل في محمد محمود ولكن بـ”صورة مصغرة” في ميدان التحرير، وراح ضحيتها 40 متظاهراً، لتندلع تظاهرات شديدة في ميدان التحرير وتصل إلى مقر مجلس الوزراء، احتجاجاً على تعيين كمال الجنزوري (أحد وجوه عصر مبارك البارزة) رئيساً للحكومة. وبدأت الأحداث تزداد اشتعالاً باختطاف القوات العسكرية المتمركزة داخل مقر المجلس لتأمينه، أحد المعتصمين والاعتداء عليه بالضرب.

وفي المواجهة، استخدمت قوات الجيش خراطيم المياه، والهراوات، والحجارة، وكانت حصيلة المصابين 235 متظاهراً في اليوم الأول. واستمرت المطاردات بين قوات الشرطة العسكرية والمتظاهرين. استمرت أحداث مجلس الوزراء أسبوعاً (ما بين 16 و23 كانون الأول/ ديسمبر)، تخللها ضرب متبادل، وتعرية للمتظاهرات وسحق للمتظاهرين، وارتفع عدد الضحايا إلى 17 قتيلاً و1917 مصاباً.

لم يكن لدى المشير ما يقوله، ترك الساحة فارغة، أصدر بيانات لإدانة المتظاهرين على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت تلك البيانات دفعاً إضافياً لقوات الجيش والشرطة لسحق المتظاهرين أكثر والاستمرار في إسالة الدماء والاستخدام المفرط للعنف، وسط محاولات من نواب للوصول إلى هدنة. في تلك اللحظة، اعتبر طنطاوي نفسه حكماً محايداً بين الطرفين، القوات من جانب والشعب من جانب آخر، وانتظر المنتصر ليحييه في النهاية، والجريح ليزوره في مستشفى القبة العسكري، فزار جرحى الجيش والشرطة والمدنيين، في تلك الاشتباكات، وكأنه يحييهم على عملِهم البطولي… وطالما أنه يحيي المعتدي صاحب القوة الأكبر، كانت سطوته تزداد واستخدامه العنف يتضاعف، وضحاياه يتزايدون يومياً بمباركة من القائد، وإن كان لم يعلنْ ذلك صراحة.

أدمن المشير دور الرجل الثاني، فلم يكن يستوعب أنه فعلياً رئيس مصر في تلك الفترة. مسؤول عن الجميع، ويحمي الجميع، ويفصل بين الجميع، وسيطرت عليه خلفيته العسكرية التي تمرّغ في ترابها طوال مسيرته، فكان يختار معسكراً ويقف فيه ليقصف الأعداء، فلم تكن بالنسبة إليه المعركة بين الجيش والشرطة والشعب الذي يجب أن يحميانه، إنما بين الحق والباطل، وبين أهل الخير وأهل الشر، وبين الأصدقاء والأعداء. وكان الشعبُ عدوه فبارك قتله وإبادته. إن لم يكن بالأمر المباشر وشراء الأسلحة اللازمة (التي ثبت شراء الكثير منها من ميزانية الدولة وموافقة أصحاب القرار بعد 25 يناير)، فبالصمت.

الجريمة الأخرى، التي يتحمّل مسؤوليتها المشير طنطاوي هي أحداث “ستاد بور سعيد”، حين سقط 72 مشجعاً من جمهور الأهلي في مباراة بين النادي الأحمر والمصري. لم يكن الأمر عداءً بين جمهوري الأهلي والمصري فقط، إنما عداء قديم وممتد بين الألتراس أهلاوي وقوات الداخلية. أكدت تقارير الطب الشرعي وجود وفيات ناتجة عن طلقات نارية وطعنات بالأسلحة البيض، وسببت قنابل الغاز حالات اختناق. وكشف تورط الشرطة، بخلاف تقرير الطب الشرعي، ما قاله النائب الممثل لبور سعيد، البدري فرغلي، حين اتهم قوات الأمن بالمشاركة في الحادث بسبب “سماحها بدخول أسلحة نارية وبيض إلى الملعب بخلاف العادة”، وكأن الشرطة تريد تأديب الألتراس (الذين كانت لهم بعض الأدوار السياسية والاحتجاجية) ولكن بأيدي مشجعي المصري. فُتح تحقيق فوري ولم يصل إلى شيء، فككل قضايا تلك المرحلة، كانت التحقيقات كبسولات مهدئة لا أكثر. وأكد فرغلي أن “اللافتة المسيئة لمحافظة بورسعيد والتي وضعت في مدرجات جماهير الأهلي مدسوسة على الأهلي لمحاولة إثارة الفتن وإحداث هذه الكارثة”، واتّهم الشرطة بأنّها لم تتوافد إلى الاستاد، على رغم أنّ الإسعاف أتى فور حدوث أعمال العنف.

كان المشير طنطاوي متأخراً أيضاً. كارثة تحدث في إحدى المحافظات، بينما جاء التحرك متأخراً، والتأمين متأخراً، وفض الاشتباك لم يحدث من الأساس، فالشرطة أغلقت الأبواب على جمهور الأهلي وتركته فريسة لجمهور بور سعيد “المسلّح”. 

وكي يحصل على اللقطة الختامية، ظهر أخيراً في انتظار الجثامين، في محطة القطارات، وقال: “الشعب سايب دول ليه، مش يتحرك؟!”. وفُهم من حديثه أنه لن يدخل عراكاً لأجل حماية الشعب، ويحرض على الحرب الأهلية، على رغم وجوده على رأس الدولة. وفُهم أيضاً، أن كل التحقيقات سيتم تجاهلها، وكل ما يدين الشرطة في الحادث سيتم تجاوزه، وإلصاق الاتهامات بأطياف سياسية أو جماعات أخرى. وكان يمارس الألعاب ليبقى في السلطة ممثلاً عن المجلس العسكري، يؤجل الانتخابات، يضرب بيد الشرطة ويعصف ببنادق الجيش، ويقتل بأسلحتهما معاً، ويحمي جميع “منفذي الأوامر” من المحاكمات، وفي مصر، في تلك الفترة تحديداً، لم يكن أحد يجرؤ على إطلاق الرصاص أو الوقوع في فخ الدماء من دون أن يحصل على وعد بالحماية من سلطة أعلى منه، وكان طنطاوي على رأس كل السلطات، فمنح جميع القوات وحملة البنادق وعوداً بالحماية، فسالت دماء كثيرة، ولم نجد من نحاسبه في النهاية، فكل الأدلة طُمست والتحقيقات أُلِّفت والتحريات دُسَّت، وكل الجرائم لُفِّقت إلى قوى خارجية، حتى إنه في أيار/ مايو 2012، رفع طنطاوي عصا الجيش بوجه شباب الإسلاميين (بعد زوال تحالفه مع قياداتهم)، وقتل عدداً من شباب حركة “حازمون” بعد تنظيمهم اعتصاماً سلمياً للمطالبة بتسليم السلطة بالقرب من وزارة الدفاع، وكانت تلك مواجهة مباشرة للجيش، لم يتم توريط الشرطة بها نيابة عنه، لتكتب نهاية فترة عاصفة من الدماء التي سالت بـ”الأمر”… لتؤكد أن كل الدماء التي سالت مسبقاً خرج القرار بسفكها من هنا، من هذا المبنى الذي يتمسَّك بالسلطة حتى النهاية، إلا أن زوال حاكمه الذي بقي لأطول فترة في تاريخه كان “مسألة وقت”.

طنطاوي… شاخ على مقعده

كان طنطاوي وزير دفاع لائقاً بمبارك، متقدماً في العمر ويبلغ 56 سنة- لحظة توليه – مرّت القوات المسلحة المصرية في عهده بالتدهور الكبير الذي جعل جهاز الشرطة يتقدّم عليها من حيث السلطة والأهمية والقدرة والتأثير في الشارع المصري، فكان مبارك يعتقدُ أن الداخلية هي التي تحرس له الملك، بينما تراجع دور الجيش وأهميته، وكان طنطاوي كمبارك، رجلاً عجوزاً شاخ على مقعده، لا يفضل المعارك، أو يبحث عن القوة، يكتفي بالحفاظ على بقائه حتى النهاية، ويخشى أن يقوم بأي محاولة لتحسين أوضاع الجيش، الذي وصل من ناحية الجاهزية العسكرية إلى أسوأ مستوياته، حتى لا يطيح به مبارك.

أكدت برقيات الخارجية، أنه “يحرص على استقرار النظام، والحفاظ على الوضع الراهن حتى نهاية أيامه، فهو بكل بساطة لا يملك الطاقة أو الرؤية ليتصرفَ بشكل مختلف”.

وسارت الأمور بهدوء طويلاً. لم يكن طنطاوي يبحث سوى عن التقدير المعنوي ولا يطمع في السلطة فتصوراته عن الحياة ورفاهياتها محدودة بحكمِ فترة خدمته الطويلة في الجيش بسلاح المشاة الأكثر قسوة وتقشفاً، على عكس مبارك الذي كان قائداً لسلاح الطيران الذي يسمّى في الأوساط العسكرية بـ”الكعب العالي”، وكان مبارك يعرف ذلك، فرقّاه مرتين بعد توليه منصب وزير الدفاع. في المرة الأولى، جعله فريقاً أول، وبعدها بعامين، منحه رتبة “مشير”.

“الرجل الثاني أو الثالث”!

لم يكن مؤهلاً لدور الرجل الأول، كان دور الرجل الثاني أو الثالث يليق به. فلم ينجح في إدارة الدولة التي تهتز بفعل العواصف الآتية من الثوار والدولة العميقة والخارج. وكان يعرف أن إهانة مبارك أو أسرته تنطوي على إهانة للجيش، وأنه إذا استجاب لكل ما يريدُه الثوار لن ينجح، لأن ذلك لن يناسبَ قادة الجيش، المرتبطين بعلاقات مصالح مع النظام القائم، بدأ في ترويض شباب الثورة واستضافتهم والتواصل معهم واحتوائهم، وحماية النظام بمفهومه الواسع، النظام الذي يتجاوز الأفراد إلى شبكات المصالح المؤسِّسة له، وبدأ نشر العسكريين في جميع مفاصل الدولة، ومنحهم الأولوية بدلاً من رجال الأعمال وأتباعهم، ذوي الولاء لجمال مبارك، ومن دون أن يدري، بدأ قيادة الثورة المضادة.

لن تجد، طوال تلك الحقبة، سوى المشير طنطاوي، الذي كان بمثابة رئيس لمصر.

فتح ملف التمويل الأجنبي لتخويف النشطاء، وأشعل الخلافات بين شباب الثورة، تودّد لبعضهم وأبعدَ البعض الآخر، فانقلبوا على بعضهم، وتقول أغلب الروايات إن لواءً مقرباً منه كان مهندس ذلك، حين كان طنطاوي، في ذلك الوقت، رجلاً عجوزاً يبلغ من العمر 76 سنة، لا يقوى على استيعاب تلك الأحداث: إدارة المناورات والألاعيب مع الثورة الفتية التي عصفت بنظام قائم منذ 30 عاماً. وكان السيسي مديراً للمخابرات الحربية، رشّحه طنطاوي، وكان يعتبره أقرب الضباط إليه، وكان أكثر قرباً من الأحداث والشباب ووعياً بما يدور في الميدان بحكم منصبه المعلوماتي، فكان مسؤولاً عن بعضِ ما حصل، والتقاه الكثير من نشطاء يناير، فكان يدير اللعبة من وراء الستار تحت عباءة طنطاوي، على رغم إشارة بعض الشائعات إلى عدمِ قبوله من جانب سامي عنان، وهو ما تُرجم في ما بعد خلافات سياسة، فكان يخطط للترشح للرئاسة ضده، وقابل السيسي ذلك بالقبض عليه وإيداعه السجن لعامين. ما يعني أن السيسي كان مدعوماً من طنطاوي طوال الوقت، فالصعود داخل العسكرية إلى درجة مدير المخابرات الحربية، وهو منصب رفيع المستوى، يستلزم الكثير من العلاقات والقُرب الشخصي، والثقة المتبادلة. 

بتتبع الأحداث، يمكن أن تلاحظ أن طنطاوي فكر في الترشح للرئاسة لتتحول رئاسته الرمزية إلى رئاسة فعلية للبلاد، لكنه لم يجد قبولاً، على رغم تقديمه الكثير لشباب الثورة، فقد سمح بتقديم مبارك للمحاكمة، هو ورموز نظامه.

وكانت القضايا تعج بالثغرات القانونية، التي سمحت لاحقاً بما عرف بمهرجان “البراءة للجميع“، لكن طنطاوي التقط الخيط مبكراً مع الحديث عن إجراء انتخابات رئاسية، وحاول اختبار شعبيته بالتجول في وسط القاهرة ببدلة مدنية للمرة الأولى، ليجد هجوماً عنيفاً من الجميع، ليفسحَ الطريق لآخرين، يمكنهم منحه الحماية، أكثر من دعمه في معركة رئاسية.

من هنا يمكن أن تفسر اعتزاز الرئيس الحالي بـ”طنطاوي”، فقد حقق صعوده العسكري في عهده حتى وصل إلى مقعد الرئاسة، تمكّن من حمايته خلال عهد مرسي من المحاكمة، حين تمّت تنحيته من منصب وزير الدفاع ومنحه قلادة النيل، فلم تُفتح قضايا سالت بها دماء كأحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومذبحة بور سعيد مجدداً.

قائد السيسي دائماً

لم تكن عقلية طنطاوي وعمره الكبير يسمحان له بالتقدم السياسي، أو إدارة الدولة.

وبعد فشله في طرح اسمه مرشحاً محتملاً للرئاسة، تقرب طنطاوي من الإخوان والسلفيين حتى هتفوا: يا مشير، أنت الأمير. ثم لجأ إلى تأجيل جميع الاستحقاقات الدستورية والتشريعية، لتبقى السلطة بيده عبر المجلس العسكري، فحل البرلمان المنتخب بحجة الأغلبية الإخوانية بقرار من المحكمة الدستورية، وأصدر الإعلان الدستوري في حزيران/ يونيو 2012 لينصّب المجلس العسكري رسمياً بحيازة السلطة التشريعية بديلاً عن البرلمان، ومسؤولاً عن وضع الدستور الجديد.

انتُخب مرسي رئيساً، ونال التحية العسكرية من طنطاوي، على رغم محاولاته التضييق عليه إلا أن الثعلب العجوز لم يصمدْ طويلاً. استرد مرسي سلطة التشريع، ودبّت الخلافات بينهما، وتقبل طنطاوي عزله وإصدار إعلان دستوري جديد في آب/ أغسطس 2012، من دون أي مقاومة.. عاد الرجل وحيداً و”قلقاً” من المحاكمة، لكن تعيينه مساعداً للرئيس وقلادة النيل التي حصل عليها كانا يحصّنانه ويحميانه، وتردّدت أنباء عن أن طنطاوي هو من رشح السيسي ليكون وزير الدفاع من بعده، حتى إن السيسي كان يقدم له التحية العسكرية بصفته “قائده ومعلمه” كلما رآه، واعتبره مرجعه في بعض الأمور السياسية والتاريخية، واستجاب له في طلبه الإفراج عن سامي عنان لاحتواء غضب بعض الأجنحة داخل الجيش، الذي يجب أن يبقى على قلب رجل واحد، عبر علاقات جمعها طوال 21 عاماً في وزارة الدفاع، فضلاً عن مطاردة رجال مبارك وعمر سليمان داخل الأجهزة بالقدر نفسه الذي تمّ به تنظيف الدولة من الإخوان، وكان من ضمن ما أقدم عليه هو الشهادة ضد ثورة يناير في “جلسة سرية” عام 2013، ليؤكد أنها “مخطط خارجي نبّهت له أجهزة المعلومات قبل وقوعه”. 

إقرأوا أيضاً: