في أحد صباحات تموز/ يوليو قُبيل الفجر، وُجد الأسقف إبيفانيوس مستلقياً في بركة دمه، ودماغه ينساب خارج جمجمته المحطمة.
عُثر على كبير الأساقفة القبطي البالغ من العمر 64 سنة، بالقرب من محرابه في دير الأنبا مقار، الواقع في صحراء وادي النطرون شمال غربي القاهرة. وهو كان متوجهاً إلى الصلاة، لكنه اغتيل قبل أن يتمكن من أداء صلاة خَلاصه للمرة الأخيرة، من قبل أحد تلامذته على ما يبدو. ضُرب الأسقف على رأسه ثلاث مرات بجسم معدني – ربما أنبوب- وفقاً لملفات تحقيق المدعي العام التي حصلتُ عليها.
استحوذ التحقيق الجاري على اهتمام عموم المصريين، الذين يطالبون بمعرفة من يقف وراء جريمة القتل الغامضة هذه. استحوذت هذه القضية على اهتمامهم الشديد؛ ليس لأنها وقعت داخل دير وحسب، بل أيضاً لأن موت إبيفانيوس -الرجل المثقف ذات اللحية البيضاء والابتسامة الهادئة- يمثل تحدياً جديداً للمجتمع المسيحي المُثقل بالفعل.
يشكل الأقباط -وهم أقلية دينية في مصر يبلغ عددهم 10 ملايين على الأقل- ما يقرب من عُشر سكان البلاد، على رغم صعوبة العثور على أرقام موثوقة. لقرونٍ عانى الأقباط –الذين يتبعون شكلاً من أشكال المسيحية -الكنيسة القبطية الأرثوذكسية- أسّسه القديس مرقس في القرن الأول- من الاضطهاد الديني، بما في ذلك اضطهاد الجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية. أخيراً، تفيد تقارير بمقتل ما لا يقل عن سبعة أقباط، عندما قام عدد من المسلحين بفتح النار على حافلة يستقلونها يوم الجمعة. لكن في حالة الدير، يبدو أن العنف كان من الداخل.
سرعان ما تعرّف المحققون إلى اثنين من المشتبه بهم، هما وائل سعد تواضروس، البالغ من العمر 34 سنة، وفلتاؤس المقاري، البالغ من العمر 33 سنة. يقبع وائل الآن -والذي كان يُعرف باسم أشعياء المقاري إلى أن طردته الكنيسة في آب/ أغسطس الماضي- في السجن. واعترف بارتكابه الجريمة أثناء الاستجواب، لكنه تراجع عن اعترافه لاحقاً، قائلاً إنه كان تحت الإكراه. حاول فلتاؤس الانتحار بعد أيام من مقتل الأسقف، وهو حالياً في أحد مستشفيات القاهرة، تملأ جسده كدمات وآثار ضرب.
تقول العائلة إن وائل تعرّض للضرب على أيدي أفراد الأمن وإنه استُجوب لما يزيد على 22 ساعة متواصلة
عُثر على راهب ثالث يدعى زينون المقاري، ويبلغ من العمر 43 سنة، وكان يُفترض أن يُدلي بشهادته بشأن تورطه المزعوم في الجريمة، عثر عليه ميتاً أيضاً. وقد كشف تقرير الطب الشرعي وجود علامات تسمّم بالمبيدات الحشرية؛ وتم اعتبار وفاته انتحاراً.
في ملفات القضية، يقول المدعون العامون -بناءً على اعتراف وائل الذي تراجع عنه- إن المتهمين خططوا ليكون فلتاؤس مكلفاً بمراقبة الأجواء لِوائل. التقيا يوم الجريمة صباحاً، وانتظرا أن يذهب الأسقف إلى قدّاس الفجر، وانقضا عليه، ثم هربا من مسرح الجريمة إلى غرفتيهما.
عندما حاولتُ البحث عن عائلة وائل في ورشة حياكة ضيقة في أبو تيج -مركز تجاري صغير يقع على بعد بضع ساعات بالسيارة جنوب القاهرة-، وجدتُ شقيقه، هاني تواضروس، وهو يعمل على الإيقاع الرتيب لآلة خياطة مزخرفة من نوع Singer. في أول لقاء له مع وسائل الإعلام، أصر هاني على براءة أخيه الصغير، وقال إن المشكلات التي حدثت في التحقيقات أقنعت العائلة أن التهمة قد لُفقت إلى وائل.
قال لي هاني، “وكأنهم رتبوا جميع الأدلة وصمموا منها -جلابية- رداء يناسبه تماماً ليبدو مذنباً”. وانتقد رجال الكهنوت لتعاونهم مع السلطات وتجريدهم وائل من رهبنته، الأمر الذي عزز ذلك التصور بأن وائل هو القاتل، على حد قوله. وأضاف، “يمكنك أن ترى أن الكنيسة عملت مع السلطات لتلفيق التهمة له. قال حارس الدير العجوز: لنركز طاقتنا على الراهب الذي كانت لديه مشكلات كثيرة مع القيادة. فصار هو كبش الفداء”.
كان وائل ورئيس الدير يخوضان نزاعاً لاهوتياً شرساً، وفقاً لعائلة وائل ومحاميه، وكذلك مسؤولي الكنيسة الذين أدلوا بتعليقاتٍ في وسائل الإعلام المحلية. تمحور الخلاف حول رجلين تبعا مدرستين متباينتين في التفكير حدّدتا معالم الكنيسة.

المدرسة الأولى كان يدعو إليها الراهب متى المسكين، وهو شخصية ذات كاريزما في الكنيسة، دعا -حتى وفاته عام 2006- إلى نمط أكثر انغلاقاً من الرهبانية والعودة إلى حقبة العبادة المتحررة من ملهيات الحداثة. أما المدرسة الأخرى فكانت بقيادة البابا شنودة الثالث، الزعيم الروحي الراحل الذي كان له تأثير كبير في المسيحيين في مصر. وكان واحداً من تلاميذ متى المسكين، لكنه بادر بجعل الكنيسة أكثر ظهوراً في الحياة العامة حتى مات عام 2012.
كان كلاهما في الدير نفسه خلال الخمسينات. وكان كلاهما نشيطاً فكرياً، وقد عُرفا بمؤلفاتهما الآبائية الهائلة بقدر ما عُرفا بخطبهما اللاذعة، التي كان يكتبها كل منهما في مواجهة الآخر. وقد اجتذب كل منهما مئات الآلاف من المعجبين الأقباط إلى معسكره.
أوضحت إليزابيث مونير، الخبيرة في شؤون الأقباط في جامعة كامبريدج قائلة: “آمن المسكين بأن الكنيسة مؤسسة روحية ليست لها مصلحة سياسية، وبالتالي بوجوب عدم مشاركة رجال الكهنوت في الصراع السياسي”، وأضافت “كان لشنودة، المسيحي النشط في الساحة العامة، فهماً مختلفاً”.
كان الأسقف إبيفانيوس تابعاً مخلصاً للمسكين. بينما كان وائل، مُعيناً من قبل البابا شنودة. وبعد وفاة الأخير، تصاعد الخلاف داخل قيادة الدير، وصار وائل أكثر وضوحاً بشأن إدارة الدير للأمور المالية والروحانية تحت إشراف إبيفانيوس، وفقاً لأفرادٍ من الكنيسة وثقوا تلك الضغائن في مذكرات نُشرت على الصفحة الرسمية للكنيسة على “فيسبوك”.
وصل الصراع الداخلي إلى ذروته في شباط/ فبراير الماضي. طلب إبيفانيوس والمجمع المقدس -الهيئة التنظيمية في الكنيسة- من البابا أن يطرد وائل – وهي أشد عقوبة تُفرض على راهب موصوم- لعدم امتثاله لقواعد الدير. في المقابل، قامت مجموعة مكونة من 52 راهباً بالتوقيع على عريضة، فحصتُ نسخة منها عندما عرضتها عليّ عائلة وائل، تحث الحبر الأعظم القبطي، البابا تواضروس الثاني (لا علاقة له بوائل)، على تعليق طرده في حالة حسن السلوك. طرد المجمع المقدس وائل في أي حال، بعد أيام قليلة من مقتل إبيفانيوس.
على الأرجح سيعود الخلاف الذي تراكم على مدى عقود كثيرة مرة أخرى، لأن الكنيسة لا تريد التحلي بالشفافية في ما يتعلق بمشكلاتها السياسية العميقة، وفقاً لإسحاق إبراهيم، الخبير البارز في الشؤون الدينية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. قال: “سنشهد في المستقبل القريب تكراراً مماثلاً لهذه الحادثة إن لم يتم التعامل مع هذه المشكلات المتفشية بشكل عاجل”.
تزعم عائلة وائل أن أساليب الاستجواب التي استُخدمت معه أجبرته على الاعتراف بالجريمة. كما تدعي، بناء على محادثة أجرتها مع وائل خلال زيارته فى السجن، كان المساعد الشخصي للبابا تواضرس الثاني حاضراً أثناء الاستجواب، ومشرفاً على التعذيب الجسدي والنفسي الذي تعرض له وائل، وأنه اتصل مراراً بقائد التحقيق يسأله ما إذا كان وائل قد اعترف بالجريمة. تقول العائلة أيضاً إن وائل تعرض للضرب على أيدي أفراد الأمن وإنه استُجوب لما يزيد على 22 ساعة متواصلة، قبل أن يختفي قسرياً لأربعة أيام. وفقاً لمنظمة العفو الدولية، فالاختفاء القسري أمر مألوف في مصر. أُدرجت هذه الادعاءات في مذكرة كتبها محامي وائل السابق، والذي أراني نسخة منها. وقد طلب المحامي من المدعي العام المصري إجراء تحقيق شامل في تلك الادعاءات، ولكن حتى لا يوجد ما يفيد بحدوث ذلك. لم يرد المساعد الشخصي للبابا، والمتحدث باسم الكنيسة، بولس حليم، على الطلبات بإبداء تعليق.
خلال زيارة أخرى لوائل في السجن في أوائل أيلول/ سبتمبر، تمكنت العائلة من رؤيته مدة ساعة تقريباً. كان مشهداً مؤلماً لسعد تواضرس، والد وائل، الذي بكى وهو يتحدث معي في ورشة خياطة العائلة. قال لي الرجل المسن “أخبرني عندما زرناه في غرفة الانتظار في السجن (لم أقتل أحداً، لم أفعل ذلك) وكرر ذلك بإصرار”. في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، في آخر جلسة استماع في المحاكمة الجارية، أصر وائل مرة أخرى على براءته.
أما بالنسبة إلى فالتؤس، الراهب الذي لا يزال محتجزاً في المستشفى بعد محاولته الانتحار، فيقول محاميه ميكل حليم إنه مقتنع بأن براءته سوف تظهر. لم يبد أن فلتاؤس كان لديه أي خلاف أيديولوجي مع الأسقف، بل إنه كتب في الواقع، كتاباً دينياً على الأقل كتب بإبيفانيوس مقدمته.
أخبرني راهب في دير القديس مقاريوس -طلب عدم ذكر اسمه بسبب حساسية التحقيق الجاري- في اتصال هاتفي من الدير، أنه شهد بنفسه جدالات بين وائل والأسقف. وأضاف أن الأمور هدأت نوعاً ما في الدير، لكن تلك المرارة لا تزال قائمة بين أتباع المسكين وأتباع شنودة.
كان رد البابا تواضرس الثاني، الذي يقدم نفسه وسيطاً لاهوتياً بدلاً من الانحياز إلى أي من المدرستين الفكريتين، على الأزمة، منع الرهبان من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومن مغادرة أديارهم بلا إذن. كما زار كذلك دير القديس مقاريوس، حيث أكد أن على الرهبان المسيحيين المصريين المحافظة على تقاليدهم الزاهدة.
تقول مونير، الأستاذة في جامعة كامبريدج: “أراد البابا التخفيف من حدة الوضع من خلال وقف المناقشات على وسائل الإعلام ومنع المواجهات رفيعة المستوى. إلا أن ذلك تسبب في إحباط شعبي”، وتضيف “إنه يعمل جاهداً على أن يبدو في موقف محايد، مع اتخاذ الحذر اللازم لتجنب أي احتكاك آخر بين السلطات الكنسية… لكنه لم يكن ناجحاً في هذا”.
هذا المقال مترجم عن موقع The Atlantic ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
إقرأ أيضاً:
أقباط مصر… الكنيسة والقهوة والسجن
الفتن الطائفية في مصر… عندما تنتظرُ الصلاة ختم الدولة