نُقل ما بقيَ من جسد الجنرال الإيراني قاسم سليماني إلى إيران، ليُدفنَ هناك، بعد جولةٍ جنائزية في عدد من المدن العراقية، بدأت في بغداد، حيث قُتل، وانتهت في مدينة النجف. لكن لم يكتفِ أتباع سليماني -وسوادهم الأعظم من الميليشيات التي أسسها هو منذ 2003- بهذا الحدِّ من التمظهر بالغضب، بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، إذ أقاموا له ولنائب رئيس ميليشيات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس -الذي قُتِل معه أيضاً- جنائز رمزية طافوا بها في المدن العراقية، وبخاصة تلك المدن التي تشهد تظاهرات للشهر الثالث على التوالي ضد المد الإيراني، لكن تلك الجنائز الرمزية رفض المتظاهرون مرورها في ساحاتهم الممتلئة بصور الشباب الذين قتلتهم الميليشيات الموالية لإيران، لتقوم الأخيرة بقتلهم مرة أخرى.
الناصرية… جنازة أخرى
فيما وصلت أشلاء سليماني إلى إيران آتية من مدينة النجف، انطلقت جنازة رمزية له في مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار) جنوب العراق. المشيعون كانوا من ميليشيات “الحشد”، نعشٌ فارغٌ ومشَّاؤون كثيرون، توجهوا إلى ساحة الحبوبي وسط الناصرية التي تواصل احتجاجها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019.
وصل النعش الفارغ عند مداخل ساحة الحبوبي، لكنَّ المتظاهرين رفضوا مروره بينهم، ففتح المشيعون النار على معتصمي ساحة الحبوبي، وهناك سقط قتيل (شاب عشريني) وأُصيب 4 آخرون، وعلى رغم ذلك لم تمر الجنازة، ولاذ المشيعون “المسلحون” بالفرار، بعد أن واجههم المتظاهرون بالغضب.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فالناصرية التي عُرفت برد فعلها القوي دائماً، كانت على موعد مع حرائق جديدة، وهذه المرة كانت النار في مقر “هيئة الحشد الشعبي”، إذ انطلقت جنازة سليماني الرمزية من هناك. أحرق المتظاهرون المقر، رداً على مقتل واحدٍ منهم، واحتشدوا طويلاً هناك، في الشارع الذي يفصل بين حيي سومر، وأريدو.
حسين هليل، شاعر ومتظاهر، يقول عن الحادثة: “لم يبق دينٌ أو ربٌ في رأس المدينة، لقد أعطت أكثر من 100 شهيد، ومنذ 1/10/2019 وهي تهتف: (إيران برا برا) ويأتون الآن ليقيموا تشييعاً رمزياً لقاسم سليماني، ويرقصوا على جراح الناس، وعندما يمنعونهم يواجهونهم بالرصاص الحي، إنها خسة ونذالة”.
لا يريد أبناء الناصرية الدخول في حلبة الصراع الأمريكي الإيراني، ويرفضون تصفية الحسابات بين واشنطن وطهران على الأرض العراقية، بهذه الحجة واجه متظاهرو ساحة الحبوبي المليشيات التي أقامت جنازة سليماني الرمزية، لكنَّ أتباع “المقاومة الإسلامية” وحاملي صور الجنرال الإيراني والباكين عليه، أصروا إلا أن يسيل دمٌ مرةً أخرى.
مدينة الناصرية، أو “أم الشهداء” كما يسميها المتظاهرون العراقيون الآن، أعلنت منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 أنَّها مدينة “منزوعة الأحزاب” بعد جولات شبابها اليومية لإحراق مقار الأحزاب والحركات والميليشيات الموالية لإيران، والتي كان آخرها مقر “هيئة الحشد الشعبي”، وفي إفادة لوكالة “الأناضول” قال ضابطٌ -طلب ألا يُنشر اسمه- إنَّ “قوات الأمن حاولت الحيلولة دون إشعال النيران في المقر عبر إخلائه من مسلحي “الحشد”، لكن المحتجين أضرموا النيران فيه، على رغم ذلك”.
لحظة إطلاق النار على المتظاهرين في الناصرية
جردة الدم
في أواخر تشرين الثاني 2019 كانت المعارك الأكثر عنفاً وقتلاً في مدينة الناصرية، ففي 27 من الشهر المذكور، قتلت قوات الأمن والميليشيات الموالية لإيران أكثر من 30 متظاهراً في المدينة، وأصيب أكثر من 125 شخصاً، عندما حاولت تلك القوات إرغام المحتجين -بالرصاص والغاز مسيل الدموع- على فتح جسري النصر والزيتون بمركز المدينة، عندما أغلقهما المتظاهرون تنفيذاً للإضراب العام والعصيان المدني حتى تحقيق المطالب التي خرجت من أجلها التظاهرات في المدن العراقية كلها.
ثمن تلك المجزرة كان استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وكذلك استقالة جميل الشمري من قيادة شرطة المحافظة، وتشكيل لجنة للتحقيق معه في أسباب المجزرة، لكن القتل ظلَّ سمةَ التظاهرات في الناصرية وغيرها من المدن الغاضبة، وقُدِّرَ للناصرية أن تكون أكثر المدن العراقية حزناً وموتاً، وأكثرها غضباً وحرائق أيضاً، وأن تكون أيضاً أول مدينة تفتتح سجلات الموت عام 2020.
المشيعون كانوا من ميليشيات “الحشد”، نعشٌ فارغٌ ومشَّاؤون كثيرون.
قبل ذلك كانت مدينة الناصرية تشهد قتلاً يومياً للمتظاهرين، فخلال 42 يوماً فقط، وفي الفترة الممتدة من 1/10/2019 ولغاية 12/11/2019 أحصت دائرة صحة ذي قار 96 قتيلاً، فضلاً عن آلاف الجرحى، ومئات المعتقلين، لتتوقف بعدها الدائرة عن نشر إحصاءاتها بأمر من قيادة الشرطة، التي أخذت على عاتقها مسؤولية توثيق أعداد الضحايا، لكنَّها لم تعلن أي أرقام منذ ذلك الوقت.
في البصرة حرائق أخرى
جنازة رمزية أخرى لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وهذه المرة في أقصى جنوب العراق، في مدينة البصرة، انطلقت من مبنى المحافظة (مبنى الحكومة المحلية) باتجاه ساحة اعتصام المتظاهرين. وكما في الناصرية، رفض متظاهرو البصرة مرور النعش الفارغ في ساحات اعتصامهم وخيامهم التي تحمل أيضاً صور قتلاهم الذين قضوا في التظاهرات. وحدث اشتباك لفظي بين المشيعين الموالين لإيران، والمتظاهرين العراقيين، انتهى بأن قامت تلك الميليشيات المشيعةِ بإضرام النيران في خيام الاعتصام، وإطلاق الرصاص على المحتجين واتهامهم بأنهم مندسون وموالون لحزب البعث وأميركا وإسرائيل.
ميليشيات موالية لإيران تحرق خيم المعتصمين في البصرة
سجاد علي متظاهر وشاهد عيان، يروي لـ”درج” ما حدث: “كانت ساحة الاعتصام هادئة، وكل شيء على طبيعته، لكن ميليشيات كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وسرايا الخرساني اقتحمت ساحة الاعتصام وأمرت الشباب بالمشاركة في التشييع الرمزي لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وعندما رفض الشباب ذلك، بدأ إحراق الخيم وإطلاق النار على مرأى ومسمع الشرطة والجيش. لم يحرك أحدٌ ساكناً، ولم يكن باستطاعة الشباب مواجهتهم، كنا عزَّلاً وهم كانوا مسلحين”.
أحرق المتظاهرون المقر، رداً على مقتل واحدٍ منهم، واحتشدوا طويلاً هناك، في الشارع الذي يفصل بين حيي سومر، وأريدو.
سجاد يؤكد أن الميليشيات تريد بث الفتنة وزعزعة استقرار المدينة، والقضاء على التظاهرات، بعدما فشلت في أكثر من مرة سابقاً: “كانوا يستطيعون أن يسلكوا طريقاً أخرى غير طريق ساحة الاعتصام، لكنهم يبحثون عن الفتنة، والدليل أنَّهم جاءوا بأسلحتهم، نحن لا نريد الدخول في صراعات مع أحد، موقف المتظاهرين واضح، نريد إصلاحات حقيقية والقضاء على الفساد، هذا ما خرجنا من أجله، لم نخرج من أجل فلان وفلان، بل خرجنا من أجل العراق”.
حدث هذا كله في الناصرية والبصرة، أما في العاصمة العراقية بغداد، فكان المتظاهرون في ساحة التحرير ينفذون وقفة تضامنية مع المدينتين، ومثل كل مرة، جاء الرد واضحاً وصريحاً، وبلا مواربة، هتافات عالية تقول: “ذيل… لوكي… أنعل أبو إيران لأبو أميركا”.